يقول الله تعالى في تشريع الصوم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]. فالصوم إذًا كان مفروضًا على الأمم السابقة، مما يدل على أن له صلة قوية وبعيدة المدى بإعداد الإنسان الصالح لفهم رسالة السماء، وفقه مقاصدها؛ لأنه كما في الآية يهدف إلى بناء صفة التقوى في وجدان الإنسان، والتقوى هي التي تصل بالإنسان إلى الهداية والعلم بمقاصد القرآن ومقاصد الإسلام على حقيقتها، تصديقًا لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]. فالمتقون وحدهم هم الفائزون بهداية القرآن ووعيها والسلوك عليها، ولا هداية إلا بالتقوى، ولا تقوى إلا بإقامة الأركان، ومنها الصوم، كما في الآية الأولى، وهذا هو حُكم الله خالق الإنسان، والعليم بما يؤثر فيه وبما يتأثر به، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل. ثم تعالوا نتدبر جميعًا حديث القرآن عن اختصاص المسلمين بصوم شهر رمضان؛ يقول تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]. إذا تدبرنا هذه الآية وجدنا أن اللهَ تعالى اختص المسلمين بصوم شهر رمضان؛ لأنه زاد من فضله عليهم، فأنزل فيه القرآن كله من خزائن عِلمه إلى سماء الدنيا، ليكون هدى لمن اتبعه من الناس جميعًا، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 185]، ثم أنزله مفرَّقًا على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، وكان ابتداء نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان؛ ليكون دلالات واضحات على الهدى الخالص بالمؤمنين. وقرر لنا ربنا - تبارك وتعالى - أن الهدى لا يكون إلا للمتقين، سبحانه رب العطاء والكرم العميم، والمعنى العام لآيات الصيام: أن صوم رمضان ينشئ مَلَكة التقوى في قلوب الصائمين، وأن إحياء شهر الصوم بالقرآن تلاوة وفهمًا وتدبرًا وتأملاً ينشئ نور الهداية في القلوب، فما هو سر الصوم الذي يولد النور والتقوى في القلوب، والهداية في النفوس؟ الهداية نور، فلا يهتدي الإنسان في الظلمة إلا بالنور، والكون كله ظلمة، والله نوره؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35]؛ أي: مُنوِّرهما وهادي من فيهما. وصرح بأن القرآن الذي هو كلامه نور، فقال: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174]، ولا يحصل الإنسان على النور إلا إذا كان صاحب قلب نقي؛ فالتقوى هي نتيجة الصوم الصحيح، هي الأداة التي يصل المسلم بها إلى نور الهداية بالقرآن، وبإحياء شهر الصوم بالقرآن يصل الإنسان إلى التقوى ونور الهداية جميعًا، ولقد فرض الصوم كسرًا لشهواتنا، وليقطع أسباب عبوديتنا لأغراضنا وأهوائنا وشهواتنا، فإننا لو دُمنا على أغراضنا وشهواتنا لاستعبدتنا وقطعتنا عن الله كل القطع، والدليل على ذلك أن كل الذين انقطعوا عن الله كانوا من المترفين والمسرفين الذين عبدوا أهواءهم من دون الله، كما نطق بذلك القرآنُ الكريم: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 43، 44]. وعابد الهوى هو عابد شهواته، وأنت ترى أن الله اعتبر الحيوانات أفضلَ منه، ولا تجد جماعة من المترفين عبَّاد الشهوات في كل دِين إلا وحدوا كلمتهم ضد رسل الله في كل زمان، فقالوا: ﴿ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [سبأ: 34]. فالصوم الحق الذي يورث التقوى لا يكون بالجوارح فقط، ولكن صوم القلب عن أمراض الحقد، والحسد، والنفاق، وحب الرئاسة، والكِبْر، والعُجْب، وسائر أمراض القلوب، فإذا استقام القلب استقامت الجوارح؛ فالبطن يصوم عن الطعام، والفرج يصوم عن الشهوة، والعين تصوم عن النظر بشهوة، والأذن عن استماع الشهوات واللغو والرفث وقول الزور والكذب والغِيبة والنميمة، واللسان كذلك يصوم عن هذه الآفات، واليد عن البطش، والرِّجْل عن السعي إلى الحرام.
ثلاثون يومًا على هذه الحالة كفيلة بأن تحول الإنسان إلى مثل أعلى لأخلاق الإسلام، وطبائع الإيمان، هذا المسلم هو الموعود بعون الله وتوفيقه ونصره، وحمايته وحفظه من كل سوء. وليكن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة؛ فقد أخرج الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، ويجتهد في العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها. ومن العجيب أن بعض المسلمين يعتقدون أن شهر رمضان جُعِل للسهر أمام المطربين والمطربات والراقصين والراقصات، ومشاهدة فرق الفنون المسرحية والرقص الشعبي والموسيقا والغناء، والجلوس في المقاهي والملاهي، وهؤلاء ليس لهم حظ من الصوم إلا الجوع والعطش. اللهم وفقنا للصيام والقيام، وارزقنا التقوى، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم.