قررت دول مجموعة '' البريكس '' وهي نموذج الدول الناشئة في العالم - أي البرازيل ، روسيا ، الهند ، الصين وجنوب افريقيا ؟ في اجتماع وزراء تجارتها بنيودلهي الأسبوع الماضي اطلاق مؤسسة مصرفية جديدة للتعاون بينها هي '' بنك التنمية لدول البريكس . ''يأتي هذا بعد زهاء 70 عاما من اطلاق مؤسسة مصرفية مماثلة هي '' البنك العالمي '' الذي يضم في عضويته 187 مساهما في العالم ما يعني أن نظاما ماليا عالميا بدأ يتشكل على خلفية الاستقلال النقدي للدول الناشئة ونجاح فكرة التكتلات في بعث قوى اقتصادية جديدة لم تكن معروفة حتى الثمانينات من القرن الماضي . واللافت في هذا أنه في نفس يوم اجتماع مجموعة '' البريكس '' في نيودلهي كان وزراء اقتصاد وتجارة دول الجامعة العربية مجتمعين في عاصمة قريبة هي بغداد ولكن على برنامج عمل مختلف تماما . ففي الوقت الذي ركز اجتماع دلهي على التنسيق التجاري للضغط على الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة ، وعلى اطلاق آلية مالية لتوفير رأس المال اللازم للمشروعات المشتركة ، غرق اجتماع بغداد في جدول أعمال لا يتمتع بأية آلية للتطبيق مثل التعاون السياحي ، الأمن المائي ومواجهة الكوارث الطبيعية . فكيف نجحت مجموعة '' البريكس '' في الخروج من اجتماع دلهي بمشروع بديل عن البنك العالمي في حين عجز اجتماع بغداد عن مناقشة أهم المواضيع التي تشغل بال الانسان العربي ؟ ملفات خارج الموضوع كل الملفات التي عرضت على قمة بغداد الاقتصادية ذات محتوى ريعي وشديدة الارتباط بالطبيعة وبالعامل الخارجي ، لا ملفا واحدا يخص الانسان من خلال محتواه البشري ، كما أن الملفات ذاتها لا تملك أدوات تفعيلها في الواقع بسبب المخاطر الأمنية التي تحيط بالمجموعة العربية . كيف يمكن تطوير قطاع السياحة قوميا وهاهي الحكومات العربية تفشل في اطلاق قطاعات سياحية محلية مستديمة القيمة ، وكيف يمكن تفعيل سياسات سياحية منسجمة بين دول لازالت القوانين تعيق حركة الأشخاص وفي بعضها يتطلب الحصول على تأشيرة الدخول أسبوعين من الانتظار . ألم تتراجع السياحة في كل من مصر وتونس الى حدود العدم بمجرد أن تراجع الأداء الاقتصادي في منطقة اليورو ؟ كيف نفسر تراجع السياحة في سوريا بنسبة 70 بالمائة في عام واحد وهي الدولة التي ظللنا ليوم قريب نظن بأنها من أكثر الدول العربية استقرارا ؟ أما معضلة الأمن المائي ، فيكفي أن نقلب في وثائق الجامعة العربية لنكتشف المشكلة وتوصيفها وأرقامها وحدودها وآثارها والحلول اللازمة لادارتها ، ولنعرف بأنها معضلة يشترك في حلها العرب ودولة الكيان الصهيوني معا ، وأن حربا في لبنان دارت حول مياه نهر '' الليطاني '' ، وأن الكلام في الموضوع خارج الصراع العربي الاسرائيلي لا طائل من ورائه ، صراع مازالت المجموعة العربية تقف منه موقفا ممزقا ومفككا وغير منسجم مع إرادة الشعوب . ويأتي ملف التعاون على ادارة الكوارث الطبيعية ليؤكد الرؤية العربية المتشائمة لتحديات المرحلة ، وقد تناسى الجميع بأن الجزء الأكبر من تلك الكوارث ناجم عن سياسات قطرية متكاسلة في تأمين حياة الانسان العربي ، والأمر يتجاوز البنى القاعدية ومعايير السلامة في الانشاءات وخطط مواجهة التصحر والجفاف الى دور الحكومات ذاتها في ترقية الحس المدني للشعوب . اهتمامات الشأن العربي كان من المواتي أن تطرح قمة بغداد الاقتصادية استراتيجية الاتحاد العربي المبني على الصناعة والأمن الغذائي وتفعيل رأس المال العربي في اتجاه التنمية . وكان من الممكن استبدال الرأي السياسي بالرأي الاقتصادي القائم على حقائق الأسواق ومعيشة السكان . الرأي السياسي الذي نزل بالقمة العربية من مستوى الرؤساء والملوك الى مستوى الموظفين في وزارات الخارجية ، وهذه سابقة لم تحدث في التاريخ العربي منذ اطلاق مخطط سايس بيكو لتفتيت الجسم العربي في 1916 . وكان من المناسب أن يطرح ملف الاقتصاد العربي في ظل الحراك الثوري الذي عصف بالموارد المصرية والتونسية والليبية واليمنية والسورية حتى باتت أقرب الى وضعية '' الأزمة '' المستديمة . وكان من المواتي أن يتناول المشاركون ظاهرة '' الفساد '' المالي في دول عربية كثيرة تعيش بروزا متناميا للبرجوازية الصغيرة على حساب مستقبل شعوبها . وكان من المواتي أن تناقش القمة موضوع النظام الاقتصادي العربي الذي لا يزال يعيش على استثمارات حكومية بنسبة 60 بالمائة وعلى الريع بنسبة 70 بالمائة وعلى سوق داخلية لا تتجاوز 360 مستهلك ، وعلى سوق خارجية تستحوذ على 90 بالمائة من حاجياتها الصناعية ، وعلى فجوة غذائية لامست 40 مليار دولارا ، وعلى غياب كامل لسياسات الاندماج النقدي . نعم ، انفضت قمة دلهي على مشروع سيكون له شأن في تطوير موقع دول '' البريكس '' داخل المجموعة الاقتصادية الدولية ، وانفضت قمة بغداد الاقتصادية كما انفضت قبلها قمتا الكويت وشرم الشيخ ، الأولى على قرارات لم نر منها شيئا على الأرض ، والثانية على خطب قومية وعلى أوضاع جديدة لدول '' الربيع العربي '' أقل ما يقال عنها أنها أسوأ حالا وأكثر تأزما .