يُنشد الجميع أخلقة الحياة السياسية، وتخليص الممارسة السياسية من نفوذ مال فاسد مسّ بهيبة مجالس وهيئات منتخبة ومؤسسات دولة لعدة سنوات، ولكن هل يتحقّق ذلك عن طريق فصل المال عن السياسة فقط؟ أم أن الأمر يحتاج إلى إرادة السلطات، والتزام السياسيين بميثاق وطني ينطلق من أخلاق الإنسان؟!. أخذ رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون منذ توليه سدة الحكم، زمام المبادرة لأخلقة الحياة السياسية والعامة، والعمل على إحداث القطيعة مع ممارسات سابقة كانت سببا في توّسع رقعة الفساد السياسي والمالي داخل دواليب الحكم وفي المجالس المنتخبة، ويعكس عدد الوزراء والمنتخبين من العهد السابق المتواجدين في السجون، حجم تفشي الفساد وسط مسؤولين استغلوا مناصبهم من أجل مصالحهم الضيّقة. أحدث هذا الوضع شرخا عميقا في علاقة الثقة بين الحاكم والمحكوم، وأدى إلى ترّدي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وجرّ البلاد إلى حراك شعبي استمر لأشهر، منذ 22 فيفري 2029، للمطالبة بتغيير نظام حكم واستبداله بوجوه جديدة، وإنهاء العهد مع الفساد، وبفضل يقظة الجيش أفشلت عملية مصادرة سيادة سلطة الشعب وأعيدت الهيبة للدولة ومؤسساتها، والحكم لصاحبه. وكأول خطوة، تم تعديل الدستور وتوّج سلسلة نقاشات ومشاورات جمعت مختلف الشخصيات الوطنية والسياسية والأحزاب وممثلي المجتمع المدني، وتبناه الشعب الجزائري في استفتاء نظم في 1 نوفمبر 2020. تضمنت هذه الوثيقة عدة تعديلات تمهد الطريق لأخلقة الحياة السياسية والعامة، وتنهي عهد تغوّل المال الفاسد في دوائر صنع القرار، ومن أجل ذلك تم التأسيس لإنشاء سلطة عليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، كهيئة رسمية تابعة مباشرة لرئاسة الجمهورية، تعوّض ديوان مكافحة الفساد التابع حاليا لوزارة العدل، والذي تم تعطيله لعدة سنوات، في العهد السابق. ويحظر الدستور الجديد أن تكون الوظائف والعهدات في مؤسسات الدولة مصدرا للثراء أو وسيلة لخدمة المصالح الخاصة، ويلزم كل عون عمومي في إطار ممارسة مهامه، تفادي حالات تعارض المصالح. ولكبح مظاهر الفساد والمحسوبية، تم إدراج مادة تلزم كل شخص يعين في وظيفة عليا في الدولة أو ينتخب أو يعين في البرلمان، أوفي هيئة وطنية، أو ينتخب في مجلس محلي، التصريح بالممتلكات في بداية وظيفته أوعهدته وفي نهايتها، وكذا تطبيق العقاب في حالات استغلال النفوذ، كما جرّم الدستور التهرّب والغش الضريبي. قريمس: تجريم التزوير والمال الفاسد يدرك الجميع أن اهتمام المسؤولين الكبار في الدولة بمحاربة الفساد مهم جدا، لكبح تفشيه، عموديا وأفقيا، ولاحظ الجميع كيف أدى غض الطرف على هذه الآفة في العشريتين السابقتين إلى تغوّل الفساد السياسي والمال بشراسة. وثمن نائب رئيس حركة البناء الوطني عبد السلام قريمس، في حديثه ل «الشعب»، إرادة رئيس الجمهورية لأخلقة الحياة السياسية والتي عبر عنها صراحة وبوضوح أكثر من مرّة، ولكن بحسبه الشعب الجزائري بحكم تجربة السنوات الماضية، أصبح لا يثق في الكلام ويحتاج إلى ممارسة في الميدان، أمام استمرار بيروقراطية ونفوذ بعض الإدارات تشككه في الجزائر الجديدة. تحتاج الممارسة السياسية يقول قريمس إلى فتح الحوار واعتماد التشكيلات السياسية الجديدة التي تريد أن تنشط بشكل واضح، كما تحتاج إلى مواد قانونية تجرّم التزوير والمال الفاسد، ثم الإرادة السياسية لتطبيق هذه المواد، لأن ما حدث في السنوات الماضية ليس لأن المال الفاسد لم يكن معلوما، أو التزوير ولكن كانت الإرادة السياسية هي التي تغطي وتستثمر في المال الفاسد. ويعتقد أن إشراك الطبقة السياسية والنخب في سنّ قانون جديد للانتخابات مهم، باعتباره أهم ورشة سياسية بعد الدستور، سيعيد الاطمئنان والثقة للمواطن بوجود جدّية وإرادة سياسية حقيقية وفيه سعي وجهد لتوفير الجوّ المناسب حتى يُقبل المواطن على الانتخابات وحتى تتقدم الكفاءات النزيهة والتضييق على الكفاءات المغشوشة أو المال الفاسد، وهذا شيء ايجابي نتمنى الإسراع به، وإصدار القانون وتنظيم انتخابات برلمانية لأن الجزائر تحتاج إلى مؤسسات ذات مصداقية حقيقية وشرعية وكفاءة عالية حتى تتصدى لراهنات المرحلة. ويرى قريمس، أن أخلقة الحياة السياسية والعملية الانتخابية من أهم مقاصد وأهداف المرحلة الجديدة سواء في الدستور أو قانون جديد للانتخابات، وهي منظومة متكاملة تبدأ أولا بتوفر إرادة سياسية لدى السلطة ومؤسسات الدولة الجزائرية، ثم يتبعها مثلما ذكر «تحسين العلاقة بين السلطة والمواطن والسلطة والأحزاب السياسية والمواطن، بحيث تكون علاقة صدق وإخلاص الصدق في القرارات في الخطاب، وفي الموافق». والإرادة السياسية تعني عند قريمس، الاحتكام الحقيقي لإرادة الشعب الجزائري والتخلص نهائيا من جريمة التزوير التي لحقت بالانتخابات عبر عشرات السنين، وإيجاد آليات قانونية صارمة لتجريم التزوير والمال الفاسد ومتابعة أصحابه والضرب بيد من حديد على المال الفاسد وجريمة التزوير. وحتى تكون العملية الانتخابية في مستوى من القيم والأخلاق الأحزاب السياسية، لابد أن تكون الأحزاب هي الأخرى صادقة مع الشعب الجزائري في تقديم الكفاءات والنزاهة والبرامج الحقيقية والابتعاد عن الوعود الكاذبة للشعب الجزائري، وإحداث القطيعة مع الممارسات السابقة سواء ممارسات السلطة أو الأحزاب أو النخب لأن المنظومة السياسية السابقة للأسف الشديد أفسدت الحياة السياسية بكل معناها وهو ما كان له أثر على القانون على الإعلام، الحملة الانتخابية، عملية الترشيح، إفراز مجالس منتخبة لا تتمتع بالمصداقية الكاملة، بالكفاءة والشرعية الحقيقية. وخلص القيادي في حركة البناء إلى القول إن الجزائر في حاجة ماسة إلى مؤسسات ذات مصداقية ومؤسسات منتخبة بشرعية كاملة لا يطعن فيها أحد، مؤسسات تحوز على الكفاءة أو المصداقية أو النزاهة وهذا يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، وانخراط جميع المعنيين بالعملية الانتخابية بما فيها المواطن لأن الجزائر تحتاج إلى مؤسسات من هذا النوع تتكفل بانشغالات المواطن والتحرشات الأجنبية التي تحيط بالجزائر ووضع اقتصادي صعب وهذا يفرض على الجميع في مقدمتهم السلطة أن تتوفر لديها الإرادة السياسية لأخلقة الحياة السياسية ومن هذا سنعيد الثقة للمواطن في ممارسة العملية السياسية والمجالس المنتخبة البرلمان والمحلية حتى نخطو خطوة جادة نحو الأفضل. بغدالي: وضع قوانين صارمة لترشيد استعمال المال يستحيل فصل المال عن الحياة والعمل السياسي، عند القيادي في حركة النهضة حفيظ بغدالي، لأنه لا يعقل أن تكون حياة الإنسان دون مال، فهي مرتبطة به، وقضية الفصل المطلق للمال عن السياسة يراها «غير معقولة»، لأن الرجل السياسي يحتاج، بحسبه، للمال في تحركاته وتنقلاته وتنظيم أنشطته، وحتى التحضير للانتخابات وتنشيط الحملة الانتخابية يستلزم توّفر الأموال. لكن ما يجب القيام به هو ترشيد المال في الجانب السياسي، بسن قوانين واضحة لأن المنتخب يحتاج إلى مقابل عن خدمته للصالح العالم، لذا يستلزم بحسبه على الدولة توفير له أجر محترم حتى لا يلجأ إلى موارد غير قانونية أو تدفعه للقيام بتصرفات غير شرعية وغير قانونية. والقول بفصل المال عن الحياة السياسية برأيه «كلام ناقص مبتور»، والأمر يحتاج إلى وضع قوانين واضحة وصارمة فيما يخص استعمال المال في الحياة السياسية، مثلا «أموال الحملة الانتخابية يجب تحديد سقفها ومصادرها في إطار قوانين واضحة وصارمة وتكون متابعة دائمة للسياسي ومراقبته إذا كان ينشط في إطار القانون.» وحتى رجل الأعمال بالنسبة له «مواطن لديه حقوقه في ممارسة السياسة، ولكن إذا كان يتطلب منع مشاركته فهذا يحتاج إلى قانون، حتى يلتزم كل طرف بحدوده». خوجة: أحزاب تحوّلت إلى لوبيات مصالح في رأي محمد خوجة قيادي بحزب تجمع أمل الجزائر «تاج» أخلقة السياسة العامة تمر عبر «وعي الطبقة السياسية والمثقفة حتى نستطيع معرفة ما ينفع وما يضرّ البلاد، وحتى يلتزم جميع الأطراف في إطار ميثاق وطني». ويقول خوجة «إن المؤسسات السياسية من المجالس المنتخبة المحلية والولائية والبرلمانية، مرت في السنوات الأخيرة بمرحلة تفشى فيها الفساد بشراسة، وهذا أثرّ على نوعية المنتخبين، فمثلا أعضاء مجلس الأمة كانوا يعينون من الموظفين أصحاب المهن البسيطة، والمجلس يومها لم يكن محصورا بمخاطر الفساد، وتكريس العمل الخاص على حساب واجبهم المقدس»، ولكن في السنوات الأخيرة « حتى سقف الطموحات أصبح بدون طموح، وأصبح من لم يدرس أو يملك أي مستوى مقتنع أنه بإمكانه أن يصبح وزيرا أو سيناتورا أو برلمانيا بفضل المال «الشكارة»، دون أن يمر على مدرسة الحياة السياسية أوالوطنية، وهي التجربة التي تصنع الإنسان، وتسمح له بفرز الأشياء الايجابية وغير الايجابية وتقديس الواجب». ويرى أن أخلقة الحياة السياسية تقتضي تقديس الواجبات، ولا يجب أن تبرر الغاية الوسيلة، وهذا للأسف ما تكرس بحسبه لسنوات، لذلك «يجب تكوين الأحزاب، وعليها أن تتخلى عن الممارسات السياسوية والبحث عن المناصب بأي وسيلة، وأن تقبل تولي المناصب من أجل المشاركة وأداء دور في صالح الوطن والمواطن وليس الذات أومصلحة الحزب الضيقة والمرتبطة ببرنامج سياسي معين». تحدث خوجة عن أحزاب، تعمل على تزوير الانتخابات من أجل تمرير منتخبها، لكن هذا المنتخب حينما يصل للمنصب يعيث فيه فسادا، وهذا من سوء الأخلاق ونتيجة لتصرفات حزبية ضيقة، في وقت يفترض بالرجل السياسي أن يكون لديه رصيدا من الأفكار والمواقف والمبادئ لا يجب أن يتخلى عنها من أجل تحقيق مصالحه الشخصية، بينما لو تكون كل الأحزاب ملتزمة بميثاق أخلاقي للعمل السياسي، تعمل دون عرقلة بعضها البعض. وفصل المال الفاسد عن السياسة، يلزم الأحزاب كذلك التحلي بالشفافية، ومنع بيع الترشيحات أو المناصب، ووضع بدل ذلك نظاما خاصا بالترشيحات يلزم بمرور المترشح على القاعدة ويمنعه من شراء الذمم، والمناضل من بيع صوته»، وحينها «نصل إلى بناء بلد قوية بمؤسسات قوية، ويبقى النقاش حول من يملك القدرة على انجاز المشاريع ومن لديه القدرة على التسيير ويأخذ البلاد إلى الرفاهية، وينظمها، وليس فتح المجال للنواب أو منتخبين يشترون مناصبهم لإجراء مساومات سياسوية». وتقتضي أخلقة الحياة السياسية تفعيل محاسبة المسؤولين وهذا مبدأ العمل السياسي في نظر خوجة، كما يجب أن تكون كذلك أخلاقيات العمل السياسي على مستوى قيادة الأحزاب، و»ليس أي شخص يمكنه الوصول إلى القيادة، أويحوّل المؤسسات السياسية إلى لوبيات مصالح ويقضي على كل الأفكار الايجابية التي يمكن أن تأتي من القاعدة».