إلغاء الجزائر وللمرة الثانية لزيارة الوزير الأول الفرنسي، فضحت المسكوت عنه في العلاقات الجزائرية الفرنسية، التي لم تعدّ تعوّقها فقط قوى اليمين المتطرف واليمين التقليدي، بقدر ما انتقلت عدواها إلى قلب الحزب الماكروني الحاكم «الجمهورية إلى الأمام»، والتي تكشف مقدار افتقار الرئيس الفرنسي للسيطرة على النافذين في الدولة الفرنسية والعميقة، وفي أقرب المقربين إليه، بما يمنع استشراف أي تطوير في السياسة الفرنسية تجاه الجزائر وتقدير انشغالاتها الموضوعية فيما بقي من عهدة الرئيس ماكرون حتى رئاسيات 2022. مرة أخرى يفشل قصر الإليزيه في اقتناص الفرصة السانحة لتصحيح علاقات فرنسا المتشنجة مع الجزائر على أكثر من صعيد: تاريخي، اقتصادي، سياسي ودبلوماسي، ظلّت حبيسة الثقافة الكولونيالية التي تتوارثها الحكومات الفرنسية المتعاقبة من اليمين إلى اليسار، ويأتي حادث إلغاء زيارة رسمية للوزير الأول الفرنسي وللوفد المرافق له بطلب من الجزائر، لتعري اللعبة الخفية للوبيهات اليمينية التي عملت وتعمل منذ استقلال الجزائر على تعويق تطبيع العلاقات بين البلدين، تماما كما فكّ شفرتها الرئيس تبون في أكثر من مناسبة. فقبل أسابيع من موعد زيارة الوزير الأول الفرنسي للجزائر بوفد كان يفترض أن يشمل ثمانية وزراء، اجتهد قصر الاليزيه في تخفيض مستوى التوتر في العلاقات بين البلدين، بتسريع المصادقة على اتفاقية تسليم المطلوبين كانت قد وقعت بين البلدين في 27 جانفي 2019، وتسمح بإحداث انسيابية في المبادلات، وتسهيل تنفيذ بعض طلبات تسليم المجرمين.. من حيث أن فرنسا الرسمية تعتبر الجزائر على مستوى الخطاب «شريكا استراتجيا» كما جاء في البيان الفرنسي». وقبل هذه الخطوة «المحمودة» كان الرئيس الفرنسي قد بعث بأكثر من رسالة طمأنة بشأن ملف الذاكرة، حتى وإن كان تقرير بنجامان ستورا قد أثار حفيظة الجزائريين حكومة وشعبا، إلى جانب سخط معلن لأقطاب اليمين الفرنسي ولوبيهات الأقدام السود والحركة، فيما ظلّت طلبات الجزائر الملحة بشأن استرجاع الأرشيف وملف التجارب النووية الفرنسية حبيسة حسابات ضيقة للمؤسسة العسكرية الفرنسية وللدولة العميقة التي لا يتحكّم بها الرئيس ماكرون. فشل الرهان على توظيف الزيارة لوقف النزيف في المصالح الفرنسية غير أن إظهار الجزائر بعض الليونة حيال ما هو متاح لإعادة تنشيط العلاقات الاقتصادية بين البلدين، أعاد بعض الأمل للرئيس الفرنسي، المقبل على انتخابات رئاسية مفتوحة غير مضمونة، لتوظيف العلاقات الجزائرية الفرنسية في ميزان الاستحقاق القادم، وربما كان يراهن على الوفد الحكومي لاستعادة نصيب من الفضاءات التي فقدتها فرنسا لصالح شركاء جدد، ومنهم: الصين، واسبانيا، وإيطاليا، وألمانيا، كانت قد انتزعت من فرنسا أغلب مشاريع الإنشاءات القاعدية، ويراها تنافس بقوة على المشاريع الكبرى، خاصة في مجال الطاقات المتجدّدة، والسكك الحديدية، والمناجم والتعدين، مع بقاء سوق التسليح مغلقة في وجه الصناعات العسكرية الفرنسية. الزيارة التي لم يسبقها اختراق كبير في ملف الذاكرة، كانت تراهن فقط على ما بقي من فرص لوقف النزيف في العلاقات الثنائية، وفي حجم الحضور الفرنسي في بعض القطاعات الخدمية مثل: تسيير المياه، وميترو الجزائر، وحصة فرنسا في قطاع النقل بالسكك الحديدية وصناعة الأدوية، التي يواجه فيها الاستثمار الفرنسي منافسة قوية من القطاعين الوطنيين العمومي والخاص، ومن وافدين جدد من الصين، وروسيا، وألمانيا، كما كان الرئيس الفرنسي يراهن على المقايضة في الملفات الاقتصادية بملفات لها علاقة بتدهور الحضور الفرنسي المتراجع في الساحل وليبيا، وخاصة في الحديقة الخلفية للمصالح الفرنسية بدول غرب افريقيا التي تشهد ما يشبه الانتفاضة ضد سيرة وسلوك ما يسمى ب»فرانس أفريك». تبعات استخفاف فرنسا بملف الذاكرة وتجاهلها لملفات الأمن القومي الجزائري وعلى هامش الملف الاقتصادي وملف الذاكرة، ثمّة ملفات سياسية وجيوسياسية عالقة بين البلدين منذ عقود، منها ثلاثة وضعت البلدين في مواجهة مستدامة: ملف الصحراء الغربية، وملف ليبيا، وأخيرا ملف الساحل، وجميعها ملفات متصلة بالأمن القومي وبالفضاء الأمني الحيوي للجزائر، اتخذت فيها فرنسا موقفا عدائيا، يتجاوز ما تبرّره مصالحها الحيوية بمنطقة شمال إفريقيا والساحل، لم تخط فرنسا بشأنها خطوة واحدة، تبشر بقرب استيعاب فرنسا لما يحتاجه بلد قاري مثل الجزائر من واجب تأمين فضائه الأمني الإقليمي، المتضرّر منذ أربعة عقود من النزاع القائم في الصحراء الغربية، وتحوّل منطقة الساحل إلى بؤرة مستدامة للإرهاب، فاقمها الوضع المتفجر في ليبيا بحبل من فرنسا وحبل من الناتو بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي. إلى ذلك دخلت فرنسا منذ سنتين في مساومة تحت الطاولة، تريد تعويق صفقات التعاون العسكري بين الجزائر وشريكها الأول روسيا، بممارسة ضغوط وابتزاز مفضوح للشريك الروسي، لتعطيل بعض الصفقات التي تخشى منها فرنسا أن تعدل ميزان القوة في الحوض الغربي للمتوسط، ليس فقط بين الجزائروفرنسا، بل وبين الجزائر وحلف النيتو، بما لا يسمح بتمرير نسخة مكرّرة لما حصل للجماهيرية الليبية سنة 2011. فملفات الخلاف، ومواطن التوتّر والصراع بين البلدين كثيرة، لم يكن بوسع زيارة الوزير الأول حتى لو اكتمل نصابها أن تستوعبها، ولم يكن في الأفق، ومنذ انتخاب الرئيس تبون أن يستوعب الجانب الاقتصادي فيها دون الفصل المسبق في ملفات الذاكرة، وفي الملفات الأمنية والجيوستراتيجية العالقة بين البلدين منذ عقود، إلا بترتيب لقاءات على مستوى القمة، يسبقها تحضير جيد، وتوافقات جديدة متحرّرة من التراكمات الكولونيالية المعوقة للسياسة الفرنسية تجاه الجزائر تحديدا، ليس فقط في علاقتها الثنائية التقليدية، بل أيضا في تعاطيها مع حاجة الجزائر لتأمين إقليم المغرب الكبير وحوض الصحراء الكبرى والساحل ونصيبها في الحوض الغربي للمتوسط. حدود سيطرة ماكرون على آلية صناعة السياسة الفرنسية تجاه الجزائر القصور الفرنسي، وحدود سيطرة الرئيس الفرنسي على آلية صناعة القرار الفرنسي، برزت للعيان حتى قبل إغلاق نافذة معالجة العلاقات الاقتصادية المتعثرة،، ليس فقط عبر نشاط اللوبيهات اليمينية التقليدية المعادية لتطبيع العلاقات بين الجزائروفرنسا، بل جاءت من قلب الحكومة الفرنسية ومن الحزب الموالي لماكرون «الجمهورية إلى الأمام»، فمن قلب الحكومة برزت مقاومة معلنة من وزير الاقتصاد برونو لوميير ومن وزير الخارجية لودريان الذي لم يتوقف عن استفزاز الجزائر في ملف الصحراء الغربية، وبالتسويق للأطروحات المغربية في كل مناسبة. وفي الأوساط السياسية الداعمة للرئيس ماكرون داخل حزب «الجمهورية إلى الأمام»، كما في اليمين التقليدي، خرجت عدة شخصيات حزبية وبرلمانية لتمارس كثيرا من الضغوط على ماكرون غداة تغريدة الرئيس الأمريكي ترامب حول ملف الصحراء الغربية، تحث الرئيس ماكرون على اغتنام الفرصة لصياغة موقف مماثل، ينتهي بالاعتراف ب»مغربية الصحراء الغربية» ومنذ بداية السنة الجارية، تحركت مجموعة من الشخصيات السياسية البارزة من الموالين التقليديين للمغرب مثل: الرئيس السابق ساركوزي، ووزراء سابقين: رشيدة داتي، وفيدرين، وغيغو، وجان لوي بورليو، للمقاولة علنا في اتجاه تغيير الموقف الفرنسي ومواقف الاتحاد الأوروبي نحو مزيد من الدعم للأطروحة المغربية، لتلتحق بهم مجموعة من السياسيين الشباب والبرلمانيين من اليمين ومن النواب من «الجمهورية إلى الأمام» مثل بيير هونري دومان من حزب الجمهوريين تطالب ماكرون ب»تصفية النزاع المجمد» ويأسفون على ما وصفوه ب غياب موقف فرنسي صريح حول سيادة المغرب على الصحراء». «الماكرونية الفتية» تلتحق بمعسكر المعوقين لخيارات ماكرون المحدودة إخفاق ماكرون في السيطرة على بقايا اليمين التقليدي من الحزب الجمهوري من الحقبة الساركوزية فاقمه إخفاق آخر أخطر في السيرة على قيادات في الحزب الحاكم «الجمهورية إلى الأمام»، الذين بدأوا في منافسة اليمين التقليدي، بل وحتى اليمين المتطرّف في تعويق تسوية ملفات الذاكرة، وفي التحريض على انخراط الاليزيه في المشكلة التي أحدثها الرئيس الأمريكي ترامب في ملف الصحراء الغربية، وتشجيعه على حمل بقية شركاء فرنسا في الاتحاد الأوروبي على دعم الأطروحة المغربية، وقد تصدرهم نواب بارزون في الجمعية الفرنسية مثل: السيد برونو فوش المعروف ب «السيد إفريقيا» في العائلة الماكرونية، القريب من جان ايف لودريان، ومن فرانسوا بايرو، والنائبة كريستين فيردييه جوكلاس الناطقة باسم المجموعة البرلمانية ل»الجمهورية إلى الأمام»، وأيضا مجيد لغراب النائب القريب من وزير التجارة الخارجية فرانك ريستر، وكانت المجموعة قد ناضلت لأجل فتح قنصلية فرنسية بالداخلة المحتلة وإنشاء معهد فرنسي، يضاف إليهم أحد أقرب المقربين لماكرون: بنجمان غريفو الذي كان ناطقا رسميا لحملة الرئيس ماكرون، وكانت له الوظيفة نفسها في الحكومة. الجبهة الماكرونية المعادية لتطبيع العلاقات بين الجزائروفرنسا انتقلت من الضغط اللفظي إلى الفعل الميداني، بالمبادرة إلى فتح فرعين لحزب «الجمهورية إلى الأمام» في أغادير وفي الداخلة بالصحراء الغربية المحتلة عشية الزيارة المبرمجة للوزير الأول، وبرّرت القرار بكون الهدف من افتتاح الفرعين هو «تعزيز شبكة الحزب في الدائرة المغاربية وغرب إفريقيا»، كما يأتي افتتاح هذين الفرعين بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة لتأسيس حزب ماكرون «الجمهورية إلى الأمام» في فرنسا، ووفق تقرير إعلامي فرنسي نشره موقع «لو 360»، فإن «حزب ماكرون يتولى زمام المبادرة في السير بصراحة على خطى الاعتراف الأمريكي الكزعوم بالطابع المغربي للصحراء». حصان طروادة «الترامبي» لنسف فرص تطبيع العلاقات في المستقبل القريب جميع هذه الأصوات من داخل اليمين الفرنسي التقليدي ومن حزب «الجمهورية إلى الأمام» نفسه، لم تكن لتُحجَب عن الرئيس ماكرون، وهو يعلم مدى حساسية ملف النزاع في الصحراء الغربية في العلاقات بين الجزائروفرنسا، ولم يكن ليخفى عليه أن يقرأ الطرف الجزائري في هذه المواقف، ثم في إقدام الحزب الحاكم عشية الزيارة على فتح فروع له في الصحراء الغربية المحتلة، وربما لم تكن الأطراف الفرنسية المعوقة في العادة لأي تطبيع ممكن في العلاقات الجزائرية الفرنسية أن تضمر في حساباتها إمكانية تجاوز الطرف الجزائري عن هكذا استفزاز وتمرير الزيارة دون طلب حساب، أو ربما أنها تعلم مسبقا أن الزيارة سوف تنسف لتمنح لهذا الفريق فرصة مواصلة الضغط على ماكرون، لحمله على غلق جميع فرص إعادة التطبيع في العلاقات الجزائرية الفرنسية بارتكابه للمحظور، والذهاب إلى فتح قنصلية فرنسية بالصحراء الغربية تكون بمثابة «إعلان حرب». وفي كل الأحوال لا توجد فرص كثيرة لتصحيح هذا المسار على بعد سنة من رئاسيات مقبلة، تفرض على ماكرون الخضوع على مضض، ليس فقط للوبيهات اليمين المتطرّف من مجتمع الأقدام السود والحركة، بل أيضا لقوى يمينية في الحزب الجمهوري التي سوف يحتاج ماكرون إلى دعمها في مواجهة ماري لوبين في الرئاسيات القادمة، وهي جميعها تنهل من نفس المصدر الفكري الكولونيالي الذي لم تسلم منه حتى القوى اليسارية التقليدية، وسوف يجد نفسه في الأشهر المقبلة مكبّلا غير قادر على بناء سياسة جديدة، تأخذ بعين الاعتبار التغييرات الحاصلة في الجزائر منذ 12 ديسمبر 2020، وما حصل قبلها وبعدها من إضعاف حقيقي ومتواصل للقوى الموالية في فرنسا في دواليب الدولة الجزائرية وفي المجتمع الأوليغاركي الناشئ، ناهيك عن انخراط مؤسسة الجيش في إستراتجية صريحة لبسط السيطرة على الفضاء الأمني الجيوستراتيجي للجزائر في الاتجاهات الأربعة. هذه الأبعاد لم تغب عن الصحافة الفرنسية القريبة من دوائر صنع القرار، وتحديدا صحيفتي «لوفيغارو» و»لوموند»، حيث ذهبت صحيفة «لوموند» حدّ اتهام رئيس أركان الجيش الجزائري، سعيد شنقريحة، بالإصرار على إغلاق الباب أمام «مصالحة الذاكرات»، لأنه حسب زعمها «يصرّ في كل مرة على استذكار ملايين الشهداء الذين سقطوا في حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي»، واستخدم كاتب المقال النمط التقليدي المتبع دائما من قبل الإعلام الفرنسي في حالات التوتر مع الجزائر، بوصف النظام السياسي ب»الخاضع لسلطة المؤسسة العسكرية»، فيما شنّت صحف اليمين الفرنسية، وعلى رأسها صحيفة «لوفيعارو» هجوما حادا على الجزائر بعد تأجيل زيارة رئيس الوزراء الفرنسي والوفد المرافق، له فكتبت صحيفة «لوفيغارو» أن الجزائر عليها «قبل أن تطلب المصالحة مع فرنسا أن تكون متصالحة مع نفسها أولا». غبار التجارب النووية المعوق لإبصار الاستحقاقات القادمة وعلى ما يبدو، فإن الفعاليات النافذة في الدولة الفرنسية العميقة ليست بعيدة عن هذا التقييم، وربما تكون قد صعقت بفحوى المباحثات بين رئيس أركان الجيش الجزائري ونظيره قائد أركان الجيوش الفرنسية أكثر من تبعات إلغاء زيارة الوزير الأول، حيث وضع الطرف الجزائري على الطاولة وبقوة الملف النووي بأبعاد وطلبات غير مسبوقة، خير فيها الطرف الفرنسي حسب بعض المصادر العليمة بين التعاون الجاد على مستويين: تسليم خرائط دفن النفايات النووية، وإعادة تأهيل المناطق الموبوءة مع التعويض المالي أو التقني. ولم يفت الدوائر الفرنسية تسجيل توقيت الزيارة مع مناورة غير مسبوقة على تخوم النيجر ومالي، تبعتها مناورة للطيران الحربي هي الأولى من نوعها تحت عنوان لافت «الضربة الوقائية في عمق إقليم العدو»، نفذت على مستوى ميادين الرمي بكل من المشرية ورقان وتمنراست، ونفذ جزء منها في الليل، وحمل أكثر من رسالة غير مشفّرة، لعلّ أبرزها استعداد قوات الجيش الوطني الشعبي للتكيف مع متطلبات حماية فضاء الأمن القومي وفق التوجّه الدستوري الجديد. وبالنظر إلى التعقيدات التقليدية في الملفات العالقة بين البلدين منذ الاستقلال، وتأكد الطرف الجزائري من حقيقة افتقار الرئيس الفرنسي للسيطرة على القوى النافذة في الدولة الفرنسية العميقة، وحتى على أقرب مقربيه في الحزب الحاكم «الجمهورية إلى الأمام»، يقابله في الطرف الآخر استعادة القوى الوطنية للسيطرة على مفاصل الدولة، واندفاعها نحو بسط الهيمنة على فضائها الجيوستراتيجي في الاتجاهات الأربعة، فلا مجال لاستشراف تحسين قريب في العلاقات بين البلدين أو تطبيعها، بل يتوقّع لها مزيدا من التأزم والخصومة، خاصة في ملف الصحراء الغربية المهدّد بتطورات دراماية وانقلاب في موازين القوة في الأشهر القليلة المقبلة، وكذا في ملف الساحل بدفتيه: الإرهابية والتواجد العسكري الأجنبي المهدّدين حتما للأمن القومي الجزائري.