أقطاب زراعية لتطوير الإنتاج وتقليص فاتورة الاستيراد استطاعت الجزائر تحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج بذور الحبوب، فمنذ 1995 لم تستوردها من الأسواق الدولية، هذه الخطوة «مشجّعة» لكن تبقى «غير كافية» مادام أنّها لم تضمن إنتاج ما يستهلكه الجزائريّون من غذاء، وهذا الهدف يحتاج إلى اتّحاد جميع الفلاحين لدفع كل محصول البذور إلى تعاونيات الحبوب والبقول الجافة، لتوفير مخزون البذور لمواسم الحرث والبذر، وهذه بالنسبة لمدير ضبط وتنمية الإنتاج الفلاحي خطوة «مهمّة» لتحقيق الاكتفاء الذاتي والسيادة الوطنية الغذائية، خاصة وأنّ الخبراء يتوقّعون اشتداد التنافس في الفترة المقبلة على المدخلات الزراعية، بعد أن عجزت دول عن ضمان توفير الغذاء لشعوبها في فترة الأزمة الصحية. تسعى الجزائر منذ الاستقلال إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، في الحبوب أكثر المواد الغذائية استهلاكا، والتي تكلّف الخزينة العمومية سنويا ملايير الدولارات، يضيع جزء منها في المفارغ بسبب التّبذير، ويبقى إنتاج ما نأكله بإمكانيات محلية، «هدفا» لجميع الحكومات المتعاقبة، خاصة وأنّ الاكتفاء الذاتي يؤدي إلى تحقيق الأمن الغذائي، ومنه ضمان سيادة الدولة. الجزائر في الآونة الأخيرة تجتهد في سبيل تحقيق هذا الهدف، وقد عمدت من خلال الوزارة الوصية إلى إطلاق سلسلة من البرامج لتطوير شعبة الحبوب كمّا ونوعا، والزراعات الإستراتيجية الزيتية، السكرية والأعلاف. يقول مدير ضبط وتنمية الإنتاج الفلاحي، مسعود بن دريدي، في لقاء ب «الشعب»، إنّ «لجنة وزارية تعكف على دراسة إمكانية تخصيص مساحات واسعة بالجنوب، وفي المناطق الشمالية لتطوير القمح الصلب، وتعمل هذه اللجنة على وضع خارطة تطوير هذه الشعبة الحبوب، الأشجار المتأقلمة، البقول الجافة، والزراعات الصناعية حسب طبيعة الأرض وطبيعة المناخ وتوفر المياه، فلا أحد كان ينتظر نجاح زراعة السلجم في التراب الوطني، وقد أثبتت تجربة هذا الموسم ذلك، والقطاع ماض في تطوير مساحاتها حسب البذور المسترجعة، إذ يوجد جزء يوجّه للتحويل لصناعة الزيوت، وجزء لتكثيف البذور، أما بقايا المنتوج يوجّه كأعلاف للمواشي وأغذية للدواجن». تقليص الاستيراد...هدف أول وضعت وزارة الفلاحة خطّة تقتضي في البداية تقليص فاتورة الاستيراد، وتحقيق هذا الهدف يحتاج إلى تطوير الزراعات المكلفة المستوردة كالحبوب بأنواعها، الذرة، الشمندر السكري، وعلى هذا الأساس نصّبت وزارة الفلاحة حسب بن دريدي أفواج عمل، تقوم بوضع دراسة لإنشاء أقطاب زراعية تختص بتطوير كل شعبة على مستوى قطب معين، فالسنوات القليلة القادمة - يضيف - ستصوب الجهود لتطوير القمح الصلب، وكذا الزراعات الصناعات التحويلية، بالإضافة إلى تطوير شعبة الحليب والأعلاف، واستغلال الأراضي ذات المردود القليل لغرس الأشجار المتأقلمة. وستوضع هذه المناطق المتخصّصة في الإنتاج، تحت تصرف المتعاملين الخواص والعموميّين، كما أنّ الفرصة متاحة للمختصّين والخبراء والإطارات الشابة بالإضافة إلى طلبة المعاهد الوطنية والمدارس، ولكافة من يملك إضافة للمشاركة في عمل اللجان، وإبداء الرأي لتطوير الشعب الفلاحية. مجابهة تغيّرات المناخ وشح السّماء تقف عدّة عوائق أمام تطوير الزراعات الواسعة الاستهلاك، منها التقنية وأخرى تتعلق بالمناخ، فالجزائر التي تقع في منطقة شبه جافة، تتعرّض سنويا إلى موجات جفاف وشح في تساقط الأمطار، ترهن توسيع المساحات المسقية، وتطوير مردودية الإنتاج، ومن أجل تجاوز هذا العائق الطبيعي، حرصت الوزارة الوصية على تطوير السقي التكميلي أو الكلي، ليس هذا العام فقط بل منذ أعوام، من خلال تقديم الدعم الفلاحي لاقتناء الرشاشات وتغيير المقرّر القديم بجديد يمنح أريحية للمنتجين لاقتناء عتاد الري، وهذا التوجه يقول مدير ضبط الإنتاج الفلاحي، «يرمي لتطوير المساحات المسقية المخصصة لإنتاج الحبوب الموجهة للاستهلاك والبذور، والزراعات الإستراتيجية كالبطاطا والطماطم، بمرافقة وزارتي الموارد المائية والداخلية، لأنّ الولاة معنيّون بشكل مباشر بتطوير هذه الشعب على مستوى الولايات، حتى نصل جميعا إلى تحقيق الهدف المسطر وهو تقليص فاتورة الاستيراد، فإنتاج حبة قمح يقابله توفير عملة صعبة». ويرى بن دريدي وزارة الموارد المائية «شريكا أساسيا» لوزارة الفلاحة لتحقيق هذا الهدف، عن طريق حشد الموارد المائية اللاّزمة لإنجاح مواسم الحرث والبذر، وتسهيل المهمّة للفلاحين لحفر الآبار الارتوازية، وتحويل حصص من مياه السدود للمحيطات المسقية المخصّصة لإنتاج الحبوب والبطاطا دون إهمال حصة المواطنين الخاصة بالاستهلاك والاستعمال اليومي. ولا يتوقّف دعم وزارة الفلاحة للمنتجين عند هذا الحد، بل يتعدّاه ليشمل تقديم قروض لشراء عتاد الري الحديث، من مضخات ومرشات، بالإضافة إلى تدخّلها الدائم لدى السلطات المحلية لحلحلة مشاكل تأخير منح رخص حفر الآبار، وقال بن دريدي «لن تكون إشكالات بعد تدخّل وزير الفلاحة، وتوجيهه تعليمات للمديرين للتقرب من الولاة لتسهيل المهمة للفلاحين، ومنح الرّخص التي تمنح على مستوى الولاية، لأنّ المنتوج الفلاحي ليس خاصا بوزارة الفلاحة بل هو منتوج وطني، والدولة تنادي بتحقيق الاكتفاء الذاتي وتصدير فائض الإنتاج». مؤشّرات «مريحة» تشير المعطيات الأولى لحملة الحصاد و الدرس، التي انطلقت شهر أفريل 2021، على مستوى الولايات الجنوبية أدرار، المنيعة، إلى نتائج «مريحة»، بفضل اتباع الفلاحين المسار التقني والاعتماد على السقي الكلي، إضافة إلى «المجهودات المبذولة من طرف الفاعلين في القطاع خاصة مديري المصالح الفلاحية والغرفة الوطنية لمرافقة المنتجين سواء في عملية الحرث والبذر التي كانت في وقتها، أو في توفير المدخلات الفلاحية خاصة البذور والأسمدة، وكذا مساعدة الدولة لاقتناء عتاد السقي في تلك الولايات، ممّا أدى إلى توسيع المساحات المزروعة على مستوى الولايات الجنوبية». أما في الولايات الشمالية للوطن، فقد أثّر نقص الأمطار على نمو النبات خاصة في مرحلة الإنبات والتسبيل، لكن هذا لا يمنع حسب بن دريدي «من تحصيل إنتاج لا بأس به»، خاصة وأنّ الدولة لم تبخل مثلما ذكر «بالدّعم الفلاحي في مجال عتاد السقي الفلاحي، وتنظيم أيام تحسيسية وإرشادية على مستوى كافة ولايات الوطن لفائدة الفاعلين، خاصة مديري المصالح الفلاحية والإدارة المركزية والديوان الوطني للسقي وصرف المياه لتوجيه الفلاحين والمنتجين نحو استعمال السقي التكميلي، خاصة في الأماكن التي تتوفر فيها الآبار والمجاري المائية ومحيطات السقي الفلاحي، ولقيت هذه الحملات استجابة كبيرة من الفلاحين من أجل الوصول إلى مردود يكون معتبر». ومن أجل ضمان تشكيل مخزون وافر من بذور الحبوب، خاصة الشعير والقمح الصلب، تمّ توجيه تعليمات لمديري المصالح الفلاحية، للتواصل مع الفلاحين والمنتجين، وحثهم على دفع المحصول خاصة الشعير لتعاونيات الحبوب والبقول الجافة، فالفلاح حسب بن دريدي مطالب بدفع 100 بالمائة من محصول الشعير، و50 بالمائة على الأقل من المنتوج الموجه للاستهلاك، لإنجاح البرنامج الخاص بعملية إنتاج بذور الشعير، وهذا يعتبر اتحادا وتضامنا للفلاحين من أجل توفير البذور للموسم المقبل، خاصة بعد تسجيل شح الأمطار. فيما يخص القمح اللين، تحدّث بن دريدي عن عقد لقاءين جهويين على مستوى المنطقة الغربية للوطن تيارت، والشرقية بولاية قسنطينة، مع الفاعلين في القطاع ومديري المصالح الولائية، رؤساء المجالس المهنية المشتركة ومديري تعاونيات البقول والحبوب الجافة، لحث مكثري البذور والمنتجين على دفع جزء من المحصول إلى تعاونيات الحبوب والبقول الجافة، وقال إنّه «لمس لديهم القابلية لذلك، وهذه من سمات الفلاح الجزائري نجده وقت الشدة»، كما فعل في فترة انتشار جائحة «كوفيد-19»، فالجزائر مقارنة ببعض الدول لم تسجل أي نقص في تموين السكان بالمواد ذات الاستهلاك الواسع، وسجلت وفرة في الإنتاج وبأسعار معقولة للمواطنين، كما كان هناك تضامن خاصة في مناطق الظل للتكفل بها، وتوفير كل المواد للاستهلاك اليومي. مخطّط حماية من الحرائق يرتبط نجاح موسم الحصاد والدرس بتوفير كافة الشروط المناسبة لذلك، من توفير الآلات الحاصدة ومراكز تجميع المحصول، حتى لا يبقى المنتوج يترامى في الحقول ومعرّضا لكل الأخطار خاصة الحرائق المفتعلة. ويقول بن دريدي «إنّ الوزارة بادرت بتوفير آلاف حاصدة تكتفي لجني المحصول دون تأخير العملية، وضبط برنامج مع مديري المصالح الفلاحية والمنتجين للحصاد بالتناوب حتى لا يكون ضغطا أو اكتظاظا على مستوى مراكز التجميع، والقضاء بذلك على مشاهد الطوابير الطويلة أثناء كل موسم حصاد»، كما تمّ حث المزارعين على توفير صهاريج المياه من أجل مكافحة حرائق المحاصيل الحقلية، والتنسيق مع الحماية المدنية والسلطات المحلية من أجل وضع مخطط لحماية أكبر مساحة ممكنة من الإنتاج الفلاحي خاصة القمح اللين والصلب، والشعير، لأن الجزائر من البلدان القلائل المنتجة للقمح الصلب، وهو مرتفع الثمن في الأسواق الدولية وغير متوفر، لذلك تعمل اليوم على تطويره وتوسيع مساحات زراعته، بالإضافة إلى تطوير شعب أخرى مثل السلجم الزيتي، لتقليص فاتورة استيراد هذه المواد وضمان احتياجاتها. وسمح الدّعم الفلاحي المقدّم من طرف الدولة للفلاحين لاقتناء البذور والأسمدة 20 بالمائة، اقتناء الآلات الحاصدة الجديدة 35 بالمائة، تجديد الآلات الحاصدة القديمة 70 بالمائة، بتحسين المردودية وتقوية الإنتاج. من أجل توفير كل الظّروف الملائمة لجمع أكبر كمية من الحبوب، قال بن دريدي إنّه «تمّ مراسلة الولاة لتسخير أماكن تابعة للسّلطات المحلية أو لإدارات أخرى، لأنّ هذا المنتوج وطني وليس تابعا لوزارة الفلاحة أو هيئة معيّنة، وبالتالي على الفاعلين وكل الهيئات والإدارات، الاتحاد لجمع أكبر كمية من المنتوج»، وقد تمّ تشكيل لجنة ولائية تضم مديرية المصالح الفلاحية، مصالح الغرفة، المجلس المهني المشترك للحبوب، مديري تعاونيات الحبوب والبقول الجافة، لمعاينة هذه الأماكن إذا كانت تتوفر على الشروط، قبل منح تسخيرة من قبل الوالي، ووضعها تحت تصرف ديوان الحبوب لاستقبال المنتوج على مستوى نقاط التجميع، الذي يتجاوز عددها 500 نقطة تجميع، إضافة إلى نقاط العبور المخصّصة على مستوى الولايات التي لا تملك مخازن التجميع. ولتسهيل نقل المنتوج، وضع ديوان الحبوب مخططا خاصا من أجل تسهيل نقل المحصول من مناطق الإنتاج إلى المخازن الكبرى أو نقاط تجميع بالمناطق القريبة منها التي تتوفر على نقاط عبور، وهذا يوفّر أريحية للمنتج ويجعله يتفادى الوقوف في طوابير طويلة تدوم لساعات. يختلف المردود المحصّل من منطقة إلى منطقة، ولا يمكن مثلما ذكر بن دريدي إعطاء التوقعات الأولى للمردود الوطني للحبوب، لأنّ حملة الحصاد شملت 19 بالمائة من المساحة المزروعة، ولا يمكن وضع التّوقّعات إلا إذا بلغت 70 بالمائة، لكن على مستوى الولايات الجنوبية سجّلت وزارة الفلاحة «مردودا معتبرا لتوفّر كافة الشروط الضّرورية لنجاح هذه الشّعبة». محاربة التّبذير تزداد ظاهرة تبذير الأفراد للمواد الغذائية المستوردة من بينها الحبوب (الفرينة البيضاء)، وهذا يتعارض مع الهدف المسطّر من طرف السّلطات تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليص فاتورة الاستيراد، ما يستوجب التّفكير في إيجاد حلول وآليات فعّالة وسريعة للحد من هذه السّلوكيات التي تؤثّر سلبا على مداخيل البلاد من العملة الصّعبة. تغيير الثّقافة الاستهلاكية للمواطن، أصبح هدفا آخر لوزارة الفلاحة، مثلما ذكر بن دريدي، وعلى هذا الأساس عقدت في السّنوات القليلة الماضية عدّة لقاءات مع وزارتي الصحة والتجارة، للتّحسيس بمخاطر الاستهلاك المفرط للفرينة البيضاء، وهي مهمّة «ليست حكرا على وزارة الفلاحة وحدها، يقول، بل تستدعي تدخّل الجمعيات والمنظّمات والوزارات من أجل دفع المواطن لخفض استهلاك الخبز أو المنتجات المصنّعة من الفرينة البيضاء». يتفاءل مدير ضبط الإنتاج الفلاحي، بتحقيق الاكتفاء الذاتي في السّنوات المقبلة، خاصة وأنّ الجزائر لم تستورد بذور الحبوب منذ 1995، وهي تستعمل البذور المحلية منذ ذلك الوقت، لذلك يطلب من الفلاحين دفع جميع البذور للتعاونيات لأنّ هذا ضمان للسّيادة الوطنية مثلما قال بن دريدي، و»من هنا يبدأ تحقيق الاكتفاء الذاتي في البذور والاستهلاك»، ولا يخفى على أحد أن الجزائر تملك ثروة حيوانية تستهلك كميات معتبرة من الشعير، لذلك يجب تقليص فاتورة الاستيراد وتشجيع الإنتاج المحلي والاتجاه لتطوير جميع الشّعب، وعلى هذا الأساس تمّ وضع برنامج استغلال الأراضي البور لزراعة الأعلاف والبقول الجافة وتطوير المساحات المزروعة المستصلحة، وقد تمّ وضع مخطّط لتطوير هذه الشّعب يجري تنفيذه.