في كتابي «الدّراسات المستقبلية في العلاقات الدولية الصادر في المغرب عام 1992 (الطبعة الثانية - صفحة 139) ورد ما يلي حرفيا..إنّ مجموعة من التّحوّلات الجارية والمستقبلية»، ستضعف من أهمية الغطاء العسكري الأمريكي لأوروبا، وهو الأمر الذي قد يؤدي خلال العشرين سنة القادمة الى تفكك حلف الأطلسي»، وعدت في دراستي عن مستقبل المكانة الدولية للولايات المتحدة الصادرة في مجلة السياسة الدولية - مركز الدراسات الاستراتيجية - الأهرام - مصر عام 1996 الى التأكيد حرفيا (صفحة 23)، على أنّ التّطورات في الاتحاد الأوروبي» ستضع وظيفة حلف الاطلسي موضع النقاش، في ضوء المادة الخامسة من اتفاقية ماستريخت 1992، التي تنص على صياغة سياسة أوروبية دفاعية مشتركة تقود مع الوقت الى دفاع مشترك، والعمل على أن تتم معالجة القضايا الدفاعية في هيئة أوروبية منفصلة»، إشارة للانفصال عن الناتو. ويبدو أنّ التحول الأمريكي الاستراتيجي إلى إقليم الباسيفيكي ينطوي على رؤية استراتيجية ترى في الصين «مركز الخطر»، وهو أمر أقل شأنا من المنظور الاستراتيجي الاوروبي، وهو ما اتضح في العراك الأمريكي الفرنسي الأخير حول صفقة الغواصات النووية الأمريكية لأستراليا وانشاء حلف (AUKUS) مع بريطانيا، وهو ما امتص عقدا مع فرنسا قيمته 50 مليار دولار، وجعل صحفا غربية تنقل عن مصادر فرنسية بداية التفكير في الانسحاب من القيادة العسكرية الأطلسية، وكأنّ ديغول استيقظ من جديد، بل إن المفوضية الأوروبية أبدت امتعاضا شديدا من التصرف الأمريكي لاسيما من زاوية عدم التشاور بصفتها شريكا استراتيجيا لواشنطن، وهو تكرار للقرار الأمريكي بالانسحاب من أفغانستان دون أن يكون للاوروبيّين أي دور في مناقشته، واتخاذ القرار فيه. وفي الوقت الذي تسعى أمريكا للتهويل من خطورة الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي والارتهان لضروراته، لا تشارك ألمانيا (المستفيد الأول من الغاز الروسي) الرؤية الامريكية، بل لا تبدو مفوّضية الاتحاد مقتنعة بوجهة النظر الامريكية. ومع الصين التي تسعى لأن تكون نهاية طريقها وحزامها في البر وعلى شواطئ أوروبا، تتوجس الولاياتالمتحدة من دلالات هذا العبور الصيني الواسع، وتتّضح أبعاد الامر في إزاحة الصين للولايات المتحدة عن مركز الشريك التجاري الأول لأوروبا واحتلال هذا المركز، فطبقا لبيانات مكتب الإحصاء الاوروبي بلغ حجم التبادل التجاري الصيني الاوروبي عام 2020، ما مجموعه 709 مليار دولار مقابل 691 مليار للولايات المتحدة، بل إن العجز التجاري لصالح الصين مع أوروبا ارتفع عام 2020 الى 219 مليار دولار من 199 مليار دولار عام 2019. ذلك يعني أنّه في الوقت الذي تبذل واشنطن كل جهودها لِلَجم التوسع الصيني في السوق العالمي، تزداد تجارة بروكسل مع بكين على حساب المكانة الأمريكية تحديدا في التجارة الاوروبية. إنّ وثيقة الرئيس الأمريكي جو بايدن التي نشرها في مارس الماضي تحت عنوان « Interim National Security Strategic Guidance» تشير بشكل واضح أولوية الاقليم الباسيفيكي على الاقليم الأوروبي. ماذا يعني ذلك كلّه؟ أنّه يعني أنّ التّشقّق في جدران الكتلة الرأسمالية الغربية التقليدية بدأت بالظهور، وهو ما يتّضح في تباين الأولويات الاستراتيجية من ناحية، وتباين نظم إدارة العلاقات الدولية المتجددة والتي أصابتها تحوّلات جذرية من ناحية ثانية، الى جانب الانهاك الذي بدأت تلوح ملامحه في البنية الأمريكية من ناحية ثالثة، والذي ناقشته عشرات البحوث الأكاديمية الأمريكية المتخصّصة من قبل أبرز علماء أمريكا في العلاقات الدولية أو تيار ما يسمى «Declinists». كل ما سبق يعني أنّ حلف الناتو يواجه مأزقا وخلافا حول: أولا: حدود وظيفته جغرافيا وطبيعة الوظيفة (حيث هناك جدل داخل الناتو هل يقتصر على البعد العسكري أم لا بد أن يشمل مهام غير عسكرية كالبيئة والمناخ، وبعض جوانب التكنولوجيا…إلخ؟). ثانيا: توزيع مسؤوليات القيادة فيه، وهو أمر تتحسّس منه فرنسا دائما منذ ديغول. ثالثا: الأعباء المالية لأداء وظيفته، وبخاصة أنّ قرار تخصيص نسبة 2 % للإنفاق الدفاعي من إجمالي الناتج المحلي لكل دولة عضو، لن يبلغها عام 2024 إلا نصف الأعضاء. رابعا: خلافات حول منظومة القيم السياسية والاجتماعية للدول الأعضاء، والتي توجّه الانتقادات فيها لتركيا. كل ما سبق تمثل أمورا لا يبدو حلها بسيطا ممّا يجعل الاتجاه يستمر نحو التفكك بكيفية أو أخرى أو إعادة تعريف جديد له ولقيادته ووظيفته بشكل يجعل منه حلفا مغايرا للناتو القائم، لا سيما مع تزايد التوجه الامريكي نحو تكوين تحالفات اقليمية وعابرة (ad hoc coalitions) تضعف من دور حلف الاطلسي رغم ما يشار له بخصوص المفهوم الاستراتيجي لعام 2022 للناتو، والذي يبدو أنّ هناك مشكلات بخصوص هذا المفهوم، في ظل بعض العقد المستعصية مثل الخلافات التركية اليونانية.