لطالما كان لقاء لأهل الحي كل مساء يجمعهم عند ذلك الجدار الطيني لمسجد القرية الوحيد «جامع سي البشير» حيث كان يفتح النقاش على إتساع مواضيعه التي تهم الجميع، فكان كل واحد يدلو بدلوه، وكان كثيرا ماتشتد النقاشات والمشاحنات وعادة مايفترقون على خصومات ومشادات، ولكن حينما يتجدّد اللقاء عند الصباح ينسى الجميع ماكان عند الجدار. لتستأنف الحياة بكل أريحية مطلقة.. الساكت الوحيد هو الجدار فهو كاتم الأسرار وشاهد على تعاقب الأجيال،ولو تكلم لقال وقال.. ولحكى لنا عن تلك الليالي السوداء عندما كان جنود الإحتلال يقتحمون المنازل ويخرجون الرجال دون النساء وأحيانا حتى الأطفال مع النساء ليتّم جمعهم عند الجدار وإستنطاقهم وتعذيبهم وكم من أبطال اعدمهم هؤلاء الجنود على مرأى من السكان، فكان هذا الجدار بحق، ذاكرة المدينة الصامت... وقف عمي ناجي ذات صباح وهو ينظر إلى الجدار النظرة الأخيرة بعدما تهاوى وتآكلت لبناته بعامل الزمن والطبيعة ليعوض بجدار آخر إسمنتي، تنهد تنهدة طويلة تحمل كثيرا من الحسرة والألم ذلك أن الذكريات التي جمعته بالكثيرين من أبناء القرية تحت ظله مازالت راسخة رغم غياب أصحابها عن الحياة، تمتم عمي ناجي في سره «رحم الله شهداءنا الأبرار» وهو يتجّه إلى مقهى احمد بن النوي لعل وعسى يجد كبار القرية هناك، لتدارس كيفية العمل في مستقبل الأيام. كان اللقاء بمقهى القرية العتيق لقاء وداع للجدار فهو ذاكرتهم وهو صباهم وشبابهم وحتى كهولتهم، ليحضر الجميع الى وداعه ودخول الحي في عهد جديد... فكان الصباح وكانت الجرافة التي بدأت إزالته وكان الجدار يتهاوى وكانت ذاكرتنا تتهاوى معه ليغيب التاريخ بغيابه، ليخلفه جدار إسمنتي يخزن حرارة الشمس ليعكسها عند المساء فلا ظل ولا جلسات كالعادة ولم تبقى إلا جلسات المقاهي في مشهد كئيب حزين.