لا يبدو أن التوتر المتصاعد بين باريس و باماكو سينتهي عند طرد مالي للسفير الفرنسي أو مراجعة اتفاقيات «التعاون العسكري» بين البلدين ، فما يجري بين فرنسا و مالي هذه الأيام هو مقدّمة لقطيعة تلوح في الافق و «طلاق بائن» ينهي العلاقة الشاذة التي ظلّت تربط البلدين لأزيد من ستّة عقود. للمرّة الأولى منذ استقلالها في 1961، نقف على تحدّ غير معهود تبديه دولة مالي التي يتجلى واضحا أنّها قرّرت التمرّد على فرنسا و التحرّر من هيمنتها ومن وجودها العسكري الذي أخفق في تحقيق الاستقرار لهذه الدولة الواقعة في الساحل الإفريقي و التي تعاني الويلات مع الجماعات الإرهابية التي زعمت باريس في 2013 أنها ستحاربها ، فإذا بها تزداد قوّة و عددا و عتادا. نقمة فرنسا و سخطها على مالي بدأ في ماي الماضي عندما أطاح العقيد أسيمي غويتا، للمرة الثانية خلال أقل من عام، بسلطة انتقالية كان يقودها باه نداو،و مع صعود غويتا الى الحكم بدأت مشاعر العداء تجاه المستعمر القديم الجديد تتفجّر ،و لم يعد غريبا أن تهتز الشوارع المالية بمظاهرات مندّدة بالوجود الفرنسي ،و لا أن ترتفع الأصوات المطالبة بانسحاب القوات الفرنسة ، لكن مشاعر العداء هذه لم تكن القطرة التي أفاضت كأس الغضب الفرنسي ، بل الذي يقف وراء هستيريا باريس، هو قرار السلطة العسكرية في باماكو مراجعة تعاونها العسكري مع فرنسا قبل إنهائه و التعاقد مع جهات أخرى مثل مجموعة «فاغنر». أدركت فرنسا أن البساط يسحب من تحت قدميها في مالي و في عموم الساحل الإفريقي، و هي طبعا لا تريد خسارة هذه المنطقة التي تكتسي أهمية إستراتيجية و اقتصادية بالنسبة إليها و ترفض أن تستأثر بها روسيا أو غيرها ، لهذا فهي تهز الدنيا و لا تقعدها حتى أن حالة الغضب التي بلغتها جعلتها تصدر تصريحات و اتهامات جارحة لدولة كلّ ما فعلته أنّها تريد أن ترسم مستقبلا للماليين بعيدا عنها و عن قيودها. الأزمة بين مالي و فرنسا في بدايتها ،و هي مرشحة لتتحول في مقبل الأيام إلى معارك كسر عظام بين الجانبين ،و في يد فرنسا أسلحة كثيرة تستعملها في معركتها هذه ،كتشديد العقوبات على مالي ،و تجنيد حلفائها للالتحاق بجبهتها، و في المقابل ، يملك المجلس العسكري المالي أسلحة عديدة ذات فعالية و تأثير ، من بينها مراجعة الاتفاقية الدفاعية و الأمنية مع فرنسا ،و المراجعة قد تصل إلى إنهاء الوجود العسكري الفرنسي، ثم هناك شعور العداء المتنامي في أوساط الشعب المالي الذي يمكن استغلاله لإحداث القطيعة مع باريس، لهذا قد يكون وقت الرحيل حلّ بالنسبة لفرنسا ،و ما تصدره دبلوماسيتها من جلبة هذه الأيام ،هو مجرّد تخبّط لذبيح يقترب من نهايته.