ليست كثيرة هي الكتب الجزائرية التي اتخذت من الإعلام الثقافي، أو أحد أعلامه، موضوعا لها.. أحد هذه العناوين «الإعلام الثقافي» لنسيمة بن عبد الله، الصادر حديثا عن دار «خيال»، والذي يعود بنا إلى ثمانينيات القرن الماضي، حينما كان الصحافي صالح زايد يكتب في منابرَ متنوّعة، قبل أن يقرر فجأة مغادرة العالم، ويضع حدا لحياته بأحد جسور قسنطينة. في ثمانينيات القرن الماضي، كان الصحافي صالح زايد يشغلُ حيّزا مُهما من خلال منابرَ متنوّعة كتَب فيها.. كان مثقّفا وإعلاميا بارزا يحظى بمتابعة واسعة في سياق عرف فيه الإعلام الثقافي حركية واسعة وكثافة كانت تُبشّر بنهضة ثقافية قوطعت مطلع التسعينيات. فجأة يُقرّر زايد مغادرة العالم ويضع حدا لحياته بأحد جسور «قسنطينة».. قادما من سكيكدة حاملا معه روحا واسعة كالبحر الذي عاش قربه وحبا لثقافة تشرّبها مبكرا ونثرها في بلد ظلّ متعطشا للثقافة.. أكثر من ثلاثين سنة منذ غادر وبقيت محاولات استعادته قليلة ويندرج ضمنها جهد معتبر قدّمته الكاتبة نسيمة بن عبد الله في 414 صفحة، من شأنه تعريف الجيل الجديد على اسم له أثره ومكانته في الحياة الإعلامية والثقافية الجزائرية. بهذه الكلمات تقدّم دار النشر «خيال» كتاب «الإعلام الثقافي: إضاءات في كتابات الإعلامي صالح زايد»، واصفة إياه ب»الجدير بالقراءة»، وصف لم يحد عنه الأستاذ خليفة بن قارة حين تقديم قراءته للكتاب قبل أيام، حينما قال إن هذا الكتاب، الذي عكفت الكاتبة والأديبة والمربية نسيمة بن عبد الله، على تجميع مادته بضع سنين، «هو وفاء ربما يكون نادرا من قارئةٍ لكاتبها المفضل، خاصة أنها تنتمي إلى جيلٍ ظل منذ رأى نور الحياة، يسعى إلى المعرفة، ويعتبرها ضالته الدائمة، يبحث عنها أينما وُجِدت، لا يعبأ بالمصاعب مهما كانت قوتها، ولا بالحواجز كيفما كان شكلها، ولا بالعوائق من أي جهة كانت». ويضيف بن قارة أنه، لو كان الأمر له، لاختار للكتاب عنوان «من رواد الإعلام الثقافي: إضاءات في كتابات الإعلامي صالح زايد»، ولعلّ الصحافي القدير على حقّ في ملاحظته، لأمانة هذا العنوان المقترح في التعبير عن مضمون العمل. قدّم للكتاب الدكتور سليم قلالة، مؤكدا أن قراءة مقالات الراحل صالح زايد، بعد كل هذه السنوات من رحيله، تُبهِرك بمستواها وأسلوبها ولغتها، كما أكد أن ما كتبته الأديبة نسيمة، يكشف أبعادا أخرى لم نرَها في تلك المقالات، وقد عدّ الأستاذ قلالة، هذا الجهد الكبير والعمل الدقيق، ضمن خانة الاهتمام بتخصصٍ بات يفرض نفسه اليوم عنوانه: الإعلام الثقافي. وشمل الكتاب أحد عشر فصلا، مع نماذج مصوَّرة من بعض المقالات والمراجع التي تجاوزت الثلاثمائة (300) مرجع. وتؤكد الكاتبة أن فكرة إنجازه جاءتها، بعد الجهد الذي قادته بمشاركة صديقه وابن مدينته، سي الشريف بوشنافة، وبمساعدة العديد من الأكاديميين والصحافيين والمؤسسات الإعلامية، خاصة بعد إقامة ملتقى خاص به في بلدته سكيكدة عام 2016. إن الجهد الذي بذلته الكاتبة نسيمة، يضيف بن قارة، لا يمكن أن تقوم به إلا مؤسسة ثقافية كبرى، «ولأنها تملك إرادة من فولاذ (...) فإنها قامت بكل هذا الإنجاز الكبير، وهي تدعو الباحثين والطلبة، أن ينفضوا الأتربة التي تغطي أرشيف الصحافة الوطنية»، يقول بن قارة، فالكثير من الصحافيين في المجال الثقافي، خاصة من أجيال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، ومَن سبقهم، ظلت كتاباتهم حبيسة أدراج الأرشيف، في انتظار التلاشي. من جهتها، ترى المؤلفة في أن تلك الكتابات «جزء ثري من تاريخنا الثقافي والسياسي»، وأنها «ذاكرتنا الغائبة التي لا بد أن تعود، وفي عودتها عودة للوعي بتاريخنا». وقد سبق لها القول، حين صدور الكتاب، إنها كانت تنتظر أن يكون ظهوره «عرسا» تكرم فيه رواد الإعلام الثقافي «في وطننا الذي يُنسى فيه دوما أولئك الذين تفانوا من أجله حد الانمحاء»، ومن هؤلاء صالح زايد «الذي كان مؤسسة ثقافية متنقلة من المجاهد الأسبوعي إلى جريدة النصر مرورا بمسرح الهواة والمسرح المحترف والملتقيات الثقافية والأدبية»، تقول بن عبد الله، مضيفة أن زايد «شدّ قراءه بفكره النير وسعة ثقافته ومواقفه الثابتة في الدفاع عن الثورة التحريرية والمبادئ الوطنية»، قبل أن يختار الرحيل شتاء 1989. للأسف، اقترن فرح المؤلفة إثر صدور كتابها، بحزن فقدها أمها، وفي ذلك تقول: «أردت أن أجعل من صدور هذا الكتاب عرسا للإعلام الثقافي الجزائري، ولأولئك الرواد الذين بنوه حجرا حجرا، ولكن تشاء الأقدار أن يتزامن صدوره ورحيل أمي.. أمي التي شهدت تفاصيل العمل لحظة بلحظة، وكم كانت ترافق سهري.. وما رأت صدوره (...) أدركت اليوم أن أقدار الكتب كأقدار البشر». ولعلّها كذلك أقدار الكتاب والمبدعين، يسعدون الغير بأعمالهم ولو كان في قلبهم غصّة..