تناولنا في الحلقة الأولى من عدد أمس الاثنين تقديما للمجموعة الشعرية «تجليات طين الصمت» لصاحبها الشاعر والأكاديمي مشري بن خليفة، حيث حاولنا تسليط الضوء على الأوتاد الفنية التي ارتكزت عليها الباكورة الشعرية لتكون سفيرة صاحبها يحق لها تقديم أوراق اعتمادها في المشهد الشعري ومتوفرة أمام جمهور القرّاء والمهتمين، لاسيما الذين لهم هم الاشتغال على جماليات الأجناس الأدبية مثل أصحاب الاطروحات الاكاديمية «الليسانس، الماستر، الدكتوراه»، فهي بالنسبة إليهم تحاكي تجربة شعرية مهمة، خاصة وأن صاحبها أكاديمي متمرّس، له رصيده المعرفي والعلمي أيضا. يلاحظ القارئ للوهلة الأولى عند قراءة العنوان «تجليات طين الصمت»، أنّ هناك غموض يكتنف هوية المجموعة، والتي عادت تجر خلفها التساؤل، تساؤل البديهة، ما الذي جمع بين الكلمات الثلاث: التجلي، الطين، الصمت؟ وماهي العلاقة التي تربطهم؟ وبالعودة إلى العنوان الذي يعتبر هوية الديوان فإنّه حتما يجرّنا بالولوج إلى القصيدة التي اختارها الشاعر أن تكون عروس ديوانه، فيكون قد فضلها عن بقية النصوص الأخرى، لكن البحث عن قصيدة تحمل عنوان الغلاف، لا نجده بين صفحات المجموعة، وبالتالي العنوان «تجليات طين الصمت» كان سابقة لم تكن لها بالضرورة لاحقة فنية وجمالية، أرادها الشاعر بتراء دون قصيد كأنه يخالف المألوف حين يحمل غلاف المجموعة واحدة من قصائدها، وهو الأمر بالنسبة لبقية الأجناس الأدبية الأخرى كالمجموعة القصصية مثلا، إلا أن الشاعر مشري بن خليفة خالف العرف، فهو يدرك أنّ المانع الجمالي ليس عيبا، ولا يؤثر على بناءات القصيدة. أشار الشّاعر مشري بن خليفة في إحدى النصوص إلى كلمات مفتاحية من بينها كلمة الصمت كقوله «أرمم الصمت وأخيط وجعه»، وفي موضع آخر يقول: «وأنا تهجى الماء في صمت واكتبه»، وفي الصفحة 34 من قصيدة «الموت» تتكرر الكلمة «كان يتربص بنا في صمت / وفي هذا المشهد تتكرر صورة قرآنية «في إيحائية «أنّ الله معنا»، وتتكرر الصورة أيضا في قصيدة «وجع في وهج الصمت»، وفي عديد النصوص هناك كلمات متكررة يلجأ إليها الشاعر ليتكأ عليها في سباق زمني، عكازه اللغة الراكضة في المخيال الشعري لا تبتعد عنه، بل تظل تتوسد شاعرها لأنها زاده وبحره الذي ينهل منه حين تعذبه الصورة الجمالية، فيختصرها في قصيد. سيطرة روحية ظاهرة وهروب نحو العشق كشف الباطن
اختار الشاعر مشري بن خليفة في ديوانه الشعري خمسة أوتاد صوفية أستند إليها في بناء ديوانه الشعري، حيث منح كل وتد عشرة نصوص، ماعدا الوتد الخامس والأخير خالف الأربعة السابقة، فجاء مبتورا من ثلاثة نصوص تكون مكملة للبقية، تشبه الأوتاد الأخرى، فالمخالفة هنا ليست عيبا موضوعيا ولا جماليا، ولكنها من الجانب الفني كانت تبدو أكثر تناغما وانسجاما، لو أنه أدركها، خاصة وأنه تعمّد أن يكون فاتحة كل وتد أقوالا مأثورة عن جلال الدين الرومي، بحيث عنون الوتد الأخير ب «ثمة صوت لا يستخدم الكلمات...فأنصت» حمل بين طياتها مفردات الكلمات المفتاحية التي سبق وأن أشرنا إليها. جاءت قصيدة «أهواك» في الصفحة 55 من المجموعة أكثر بوحا وتحررا من البيئة الصوفية التي بنيت عليها غالبية النصوص، وربما خالفت العزلة الروحية شيئا قليلا، بدليل أن الشاعر حينما أراد الهروب من «الانا» وجد نفسه متلبسا بدهشة العيون «الاه» بعد أن أوقعته شباكه في بحر عينيها، ولأنه الطفل البدوي لم يكن بإمكانه التحرر من طبيعته الاجتماعية، كأنه يقول في أسف وتؤدة أن الزرقة أدهشته في إشارة إلى زرقة عينيها طبعا بدليل قوله «تدهشني الزرقة ويبكي النخيل»، وهنا يعود إلى موطنه الأصلي، فهو القادم من واحات النخيل السامقة، والنخل يتمدد في السماء يريد ملامسة زرقتها بعفوية وبراءة دون اكتراثه للعيون التي تراقب تمدد سعفه، وهي نفسها حالة الشاعر حين يعيش لحظة اعتراف مع توأم روحه، تتداخل أمامه كل الطابوهات وتشل أقدامه القيود وتمنعه جرأة الطفل داخله بقول ما يشعر به من تودد وحب نحو الطرف الآخر، كقوله «أهواك / وأهوى القرب منك / وحينما تلتقي عيناك المدى/ ابحر في غسق الدهشة / وأصيح في صمت هواك /. للتذكير، الشاعر مشري بن خليفة كاتب وناقد وشاعر من جيل السبعينيات، أستاذ بمعهد اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر، صدرت له أعمال نقدية، ويعتبر ديوانه «تجليات طين الصمت» ثاني مجموعة شعرية يصدرها بعد انقطاع عن النشر قارب العقدين.