ألقى آخر كرَّاسة نجت من جحيم غضبته الأخيرة، إنَّهُ دفنها بإحكام -هذه المرة- في قرارات سلة المهملات بعد أن أحسن تمزيقها إلى أشلاء متناهية الصغر.. إنَّها الرواية الثالثة لهذه السنة المشؤومة .. إنَّها المحطة الأخيرة في حياته الزوجية، وفي مشواره الأدبي التعيس! جلس إلى مكتبه ليشرب سيجارة «مالبورو»، لم يجد القدَّاحة.. فألحق علبة السجائر بجذاذات الرواية.. أزاح بعنف كلَّ الكتب المركونة على سطح مكتبه، وكل الأقلام والرميدة، وشيئا منه كان هنا .. ونام .. فطن فجأة على قرعِ النوافذ من شدة الريح .. لقد غاب قرص الشمس منذ ردحٍ، وحلَّ بدلها الظلام الكالح، لقد اختفت موجة الحرِّ بعد أن طردتها هذه النسمات العاتية.. شعر بأنَّ شيئا ما يطوِّقُهُ.. إنَّه سروال الجينز اللعين، ها هو يسلخُهُ عن جلده كما يسلخ جلد تيس هرم! يلتفت يمنة ويسرة، كأنَّ صوتا رخيما ينبعثُ من جيب السروال الملقى على الكنبة .. يتجاهله ويمضي إلى المرحاض.. ومن المرحاض إلى الحمام.. يلقي نظرة في المرآة لحية كثَّةٌ، شوارب كثيفة، هالات تحت العينين، وجه كالح، أسنان صدئة، شفاه مشقوقة، وشعر فوضوي .. يحكُّ ذقنه بأنامله ويمضي إلى الثلاجة .. إنَّهُ تعوَّدَ على فتحها وإلقاء التحية على الماء البارد ..! يعود القهقرى إلى صالة المنزل ويلقي بجثته على الكنبة، وصوت الهاتف يلحُّ.. رقم لا يعرفه.. - ألو.. - نعم بيبي .. هذه أنا .. سندريلا ..! - سندريلا! .. ماذا تريدين منِّي في هذا الوقت المتأخِّر؟! - حضن .. -عفوًا؟! وتقطع الاتِّصال .. مثل هذه المغامرات تحدث معه كلَّ ليلة تقريبًا، أصبحت هذه الرصاصات البيضاء لا تثير شهوته، هو يريد جسدا تدبُّ فيه الحياة والموت، يجتمع فيه النار والنور.. يريد شيطانا أخرس، وجمالا ليسَ له ظلال .. يريد قبلة تحبس أنفاسه، كطعنة تقتل فيه أخيلة التأوه .. يريد موطنا لعبادة ربات الشعر ..! إنَّه هناك وراء مكتبه، يلملم أفكاره المتشظية، بعد أن شغل شريطا طربيا لا يدري صاحبه .. إنَّهُ يلقم السكون حجرا على طريقته .. يرسل يمينه إلى سلة المهملات، يحفر عميقا بلا هوادة، يفتش في كلِّ الجهات.. ليست هنا .. ولا هنا .. يوب ؛ لقد وجد قطعة، وأخرى .. سيعيد صياغة «البزل» ليتضح لديه المشهد، هكذا حتَّى تنتهي الرواية فصولا لولادة متعسّرة!