تعد تجربة مالك حداد الروائية حالة استثنائية في السرد الجزائري، لأنها مختلفة ولها منطلقات مخصوصة قد نجد لها، مبررا في هذا الشاعر الحاضر باستمرار في كتاباته قاطبة. يؤسس الكاتب، في أغلب الأحيان، على الصورة الشعرية التي تفرمل السرد، لذا أمكننا الحديث عن السرد المسرود، ليس السرد الناقل لمجموعة من الوقائع بلغة حاكية تبئر على الفعل والملفوظ ومختلف المكونات الخطابية، بل السرد- الهدف. أو السرد- الموضوع بالمفهوم النقدي. ما يعني أنّ التحولات الفعلية ليست ذات أهمية كبرى، مقارنة بتحولات الحالة، وهي الخاصية المهيمنة في منجزه، من الانطباع الأخير، مرورا بالتلميذ والدرس وسأهبك غزالة ورصيف الأزهار لا يجيب، إلى غاية الأصفار تراوح مكانها. لقد كان اهتمام مالك حداد بالتصوير المفارق للمعيار المتواتر قضية جمالية وبلاغية وفنية وفلسفية ضاغطة. لذا جعله يتبوأ منطق السرد، سرده الخاص به من حيث إنه لا يتجاور مع الجهود الغيرية. وإذا حدث أن افترضنا وجود محور استبدالي للصورة وحدها، على شاكلة المحور الاستبدالي الذي يخص المعجم في اللسانيات، استنتجنا الطريقة التي يعتمدها في توليد الصور وقلبها، وفى طريقة التعامل مع المشبه به، مع التأكيد على المسافة القائمة بين الأول والثاني، ويتعلق الأمر ها هنا بالجهد الإضافي المكرس لتقوية الصورة المنزاحة عن النموذج القار، أي عن المتوارث من الأشكال. يشير بعض النقاد، ومنهم بول ريكور، إلى الاستعارة الحية، في مقابل الاستعارة القديمة، أو المستهلكة التي تشكل معاودة فظة بالمفهوم الأسلوبي، وليست ذات تأثير في المتلقي. ربما أدرك الكاتب، كشاعر راق، الواقع البلاغي بالتجربة والممارسة فعمل على تجاوز النموذج النقلي بحسّ متقدم له ثقافته ومبرراته الجمالية والخطابية. هناك منطق ما في الاحتكام إلى طريقة السرد بالصورة المفارقة للمعيار، إذ لا مجال للحديث عن الاعتباطية والقضايا المجانية، فكلّ الأخيلة التي بنت عليها الصورة الشعرية لها مسوغاتها ووظائفها لأنها غدت حرفة. هناك، من حيث التجليات، وللتمثيل والمشابهة، مجاورة بين إبداعات مالك حداد وبين أشعار محمد الماغوط، أو بينها وبين التشكيل الصوري عند كلّ من الأمريكي هنري ميللر في مدار الجدي ومدار السرطان، واليوناني " نيكوس كازانتزاكيس" في زوربا والإخوة الأعداء. المسألة لا تتعلق بالمقابسات أو التناصات القريبة أو البعيدة، كما يسميها الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه "أصول الكلام"، إنما بقرابة تخييل الصورة الواخزة، دون حصول أيّ تأثير مباشر من هذا أو ذاك، لأن لمالك حداد تجربته الخاصة ومميزاته السردية التي تجعله متفردا. هناك قضايا كثيرة في روايات مالك حداد، وفي ديوانه الألم في خطر، تستحق دراسات أكاديمية تهتم بالصورة وكيفيات تشكلها، أو قراءات انطباعية لا تحتكم إلى أي منهج صارم لا يستطيع ملامسة النص من عدة جوانب بفعل حدوده وضوابطه الضاغطة. لا بد أنّ في هذا العالم السفلي الذي يجمعنا عبقريات أدبية لا يمكن لأي منهج أن ينصفها، لأنها أكبر من المناهج قاطبة، وأوسع من الآليات المقننة. أتصور أنّ مالك حداد كان يجلس إلى مكتبه في تلك الخلوة بأعالي قسنطينة، يخرج القلم والأوراق، يسند جبهته إلى راحة يده اليسرى ويكتب الجملة الأولى والثانية فالثالثة والرابعة، ثم يقرأها بحواسه ليكتشف أنه كتب أشياء قريبة جدا من الادراك، عناكب مجففة لا روح لها ولا جمال. يمزق الورقة، ثم يفكر بطريقة أخرى، تماما كما فعل تولستوي في الحرب والسلم، وذاك ما عرفته من خلال ابن أخته عندما زرت بيته لمعرفة أجزاء من حياته. كان مالك حداد يكتب ويمزق، أو يكتب ويرمي ما كتبه في سلة المهملات، قبل أن تجمع العائلة ما رماه ليلا، وقد كتبت عن هذا في الجزائر نيوز قبل أعوام. كان الكاتب المتفرد يفكر في أهمية العلاقات الداخلية، في جدواها وعدم جدواها، في العلاقة السببية بين الجمل المنضبطة كالعساكر، بين اللفظة واللفظة، بين المشبه والمشبه به، في التشخيص والتشييء، في قيمة الفعل والحركة والحدث والحالة والواقع، ثم يكتب مقطعا من هذا النوع: "تلك الوجوه المرتابة وفي طرف عيونها سخرية لطيفة مستسلمة، تلك الوجوه السمراء الدائمة الفتوة كفواكه كبيرة سقطت من شجرة، شجرة قررت أن تزهر ثانية في أحد أيام نوفمبر". وعلى القارئ أن يبحث عن العلاقة بين الوجوه السمراء الفتية وبين الفواكه التي سقطت من شجرة، وكيف قررت تلك الشجرة أن تزهر،لم تزهر فحسب، بل فكرت جيدا في الأمر واتخذت قرارها في أن تفعل ذلك في أحد أيام نوفمبر، وليس في فبراير أو في مارس ، مع ما لشهر نوفمبر من دلالات تاريخية تكشف عنها السياقات. يتعامل مالك حداد مع الأشخاص والأشياء والموضوعات والأخيلة والكلمات والجمل بعناية خاصة، ومن الصعب أن نتوقع ما سيقوله بعد الجملة الأولى، نظام المتواليات، كيفيات الربط، القلب، المشبه به، المآلات السردية للرواية. إنه مقتنع بعدم الانضباط، بعدم إتباع النسيج المنوالي القائم في الأدب، مقتنع بأن عليه أن يكون هو، لا غيره، ولذلك لجأ إلى فرملة السرد وتغليب الصور. سنقتنع، مع الوقت، أنّ ما كتبه كذلك يجب أن يكون كذلك، دون إضافة، ودون حذف، لأنه جاد وشاعري، عميق ومختلف، فيه الروائي والشاعر المتوغل في حقل اللغة، وفيه الفيلسوف والإنسان بمفهومه الحقيقي. يقول في أحد المقاطع: "كان أولياء لوسيا مثل سدادات تطفو على نهر، سدادات طيبة، سدادات ودودة، سدادات ناعمة كقلب بلوط الفلين، سدادات بألف عذر، ولكن سدادات على أيّ حال، سدادات ببساطة، سدادات لا توجد إلا برئاسة قنينة، إنه لمن الصعب جدا التفاهم مع ناس طيبين كالسدادات، مع ناس بؤساء كزجاجة مشقوقة". سيبذل أكبر جهد على هذا المستوى تماما. لذلك نلاحظ ميل النص نحو الحالات، ومن ثم خفوت الأفعال والحركات التي تتراجع إلى مستوى أدنى لتبلغ حد الامحاء. وما هيمنة المعاودات اللفظية والجملية إلاّ علامات دالة على نوعية السرد. الظاهر أنّ ما كان يشغل بال مالك حداد هو البحث عن الصور الممكنة لنقل الحالة أو المشهد، ومن هنا تبوأ السرد البطيء في كل أعماله الروائية. المؤكد أنّ هناك أحداثا وأفعالا جزئية، لكنها تأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، لأنّ الكاتب كان منشغلا بطرائق نقلها، بالكيفية التي تبرز هذا العدول المتنامي للتشكيل الصوري الذي له أولوية على الفعل. هل يمكن التأكيد على أنه أسس على انزياح الصورة؟ أجل. يبدو أنه وجد ضالته في الشاعر الذي كانه دائما، في هذا الجانب التصويري الذي منحه قيمة قاعدية، على حساب الأحداث، كما حصل في نجمة لكاتب ياسين، خاصة في المقاطع الكثيرة التي اهتمت بالإحساس والحالة والتأملات المزدحمة. غير أنّ ذلك لا ينفي الأفعال، ولا ينفي نمو الأحداث والشخصيات، إنها تنمو في كنف الصورة، في هذا الجهد المبذول من أجل إيجاد قرابة بين الأشياء المتنافرة، بين ما هو مادي وبين ما هو مجرد، بين الواقعي والفرضي. وهنا تكمن عبقرية الشاعر الروائي، أو الروائي الشاعر الذي استطاع أن يمثل نفسه وواقعه ومجتمعه بشاعرية نادرة، ومستمرة في الزمن. مالك حداد ظاهرة روائية وفلسفية وشعرية ومعجمية وتصويرية راقية، ويمكن قراءة أعماله عدة مرات بالرغبة ذاتها، وبنفس الاعجاب. إنه يذكر بمقولة: "النص الأدبي الجيد هو النص الذي ننتهي من قراءته ولا ننتهي"، وذاك ما ينسحب عليه بعد كلّ قراءة.