رواية تمتلك أدوات التحوّل إلى فيلم أو مسلسل.. اللّعنة؟ نعم إنها اللعنة... تعرفون ما معنى اللعنة؟ إنها تلك المصائب والكوابيس التي تلاحق صاحبها في كل مكان وأينما حلّ أو ارتحل، تمنحه فرصة ليرفع رأسه ثم تنقض عليه لتغرسه في الأوحال وتعيد الكرة في كل مرة... فتتوالى عليه النوائب، كل واحدة أشد قسوة من سابقتها...هذا هو نصيب «ياسين شراقة» من الحياة وقدره، تأتيه النكبات من حيث لا يدري ويعيش المآسي تلو المآسي، وهو ابن الفلاح الفقير والمعدم من كل شيء. الفضلاء في سطور.. كان ياسين يرعى الغنم في دوار لا اسم له و لا وجود له في الخريطة، الأيام متشابهة والحياة لا معنى لها، لكنه لم يكن يتوقع ما سيتعرض له من حظوظ سيئة، ومن نحس وشؤم، سيجعل منه إنسانا متشردا لا يستقر في مكان. لم يكن ياسين من أولئك الشباب الطائشين والمتهورين، بل كان إنسانا فاضلا ومتخلقا وصبورا ومتسامحا ووافيا لكل من ارتبط به من قريب أو بعيد. يمكن القول إنه كان يعيش يومياته بقدر كبير من السذاجة والبساطة وفي ظل غياب كبير للحنكة والدهاء. وهي صفات ستجعله يقع في الكثير من المكائد، وأول تلك المكائد وأهمها، هي تلك التي نصبها له «القايد بوسعيد إبراهيم» الإقطاعي الكبير المتحالف مع الإدارة الاستعمارية، إذ وقع اختياره عليه ليؤدي الخدمة العسكرية بدلا من ابنه ويشارك في الحرب العالمية الأولى ضمن الجيش الفرنسي الذي يحارب الجيش الألماني. لم يترك «القايد» لياسين خيارا ثالثا، إما أن يؤدي هذه المهمة وتمنح له مزرعة والعديد من الامتيازات لدى عودته من الحرب، أو يطرد هو وعائلته من الأراضي التي يملكها القايد. وتم الأمر كما خطط له القايد والتحق ياسين بالجيش الفرنسي حاملا لاسم ابن القايد «حمزة بوسعيد»، ليشارك في الحرب لمدة أربع سنوات تحت هذا الاسم، وكان عليه أن يخفي قصته وهويته الحقيقية عن جميع رفقاء السلاح الذين كانوا معه في مختلف المعارك. وقد ارتبط هؤلاء الشباب المجند ببعضهم بعض أشد الارتباط وأصبحوا أصدقاء أوفياء، بل إخوة. وتنتهي تلك الحرب بكل ما حملته من فظائع ومجازر ومآسي وتخريب للعمران وللحرث والنسل، ويعود الجميع إلى وطنهم، عبر ميناء مستغانم، حيث ينتظر ياسين مبعوثا غريبا من القايد لينقله في سيارة فاخرة إلى «الخيمة الكبيرة» حيث يعيش القايد وحاشيته، ومن هنا تبدأ مشاكل ياسين. يستقبله القايد في بيته ويقدم له السائق الذي أتى معه على أنه صحافي سيكتب كتابا عن ملحمته في الحرب، فيحكي له ما جرى في الجبهة، كما يطلب منه أن يغير ملابسه العسكرية بملابس مدنية، لكي يتم كيّها من قبل «باباي» خادمه، لأن الاحتفال به سيكون كبيرا وعظيما يحضره شيوخ وأعيان القبائل المجاورة المتحالفة مع القايد، وعلى ياسين أن يكون في قمة الأبهة. ويقع ما لم يكن في الحسبان، فبينما كان ياسين ينتظر أو «حمزة بوسعيد» دعوته إلى الخيمة للاحتفال به، يرسل له القايد شخصا يحاول قتله، لكن ياسين يتخلص منه بسهولة ويهرب، وهو متجه نحو الباب الرئيسي لمزرعة القايد يجد خادما آخر جثة هامدة، وهي عملية قام بها أزلام القايد للقضاء على الشاهدين وإخفاء عملية النصب على الشاب ياسين إلى الأبد. فيقترب ياسين خفية من الخيمة ليشاهد بأم عينيه أن المُحتفل به هو ذلك الصحافي المزعوم – الذي هو في الأصل ابن القايد- وهو الآن يرتدي ملابسه العسكرية، فيفهم أنه وقع في مصيدة. يتجه إلى «الحمادة» للبحث عن والدية وإخوته، فلم يجد لهم أثرا، وحتى أخته وزوجها، يطلبان منه الابتعاد عنهما حتى لا يعرفا مصير الوالدين. يتذكر ياسين أن له صديق عزيز من مدينة بلعباس اسمه «السيد تامي» الذي وعده بمساعدته لدى عودتهما من الحرب، لكنه يجد هذا الأخير في وضع غير لائق، ومع ذلك يذهب معه إلى مدينة وهران لمواصلة البحث عن أبيه، ويعرفه ب»واري» الشاب الشاطر ليقدم له خدمات جليلة (المبيت في الحمام، الشغل)، وينتهي به المطاف ليشتغل بائعا للأقمشة عند «لالة» الأرملة البرجوازية، التي تمنحه المبيت في أسفل سكنها الفخم وبعد أن تكتشف شخصيته القوية ونبله وتحفظه، تراوده عن نفسه فتوقعه في حبالها لليالي طويلة، وفيما بعد تقترح عليه أن يوقع بأحد أقربائها الذين كانوا يضغطون عليها لكي تتزوج، وهي بطبيعة الحال ترفض ذلك الأمر، فيسقطه أرضا بعد أن استدرجته «لالة» في مكان ضيق. وبعد أيام جاءت الشرطة تبحث عنه، لأن قريب السيدة قدم شكوى ضده، فتقترح عليه «لالة» أن يذهب إلى مدينة المشرية في غياهب الصحراء حيث لا تصل إليه الشرطة، ليستقر عند أحد أقربائها ريثما تتمكن من سحب الشكوى دون جدوى، لكن بعد أيام يكتشف صاحب الضيافة أن «ياسين» مطارد من قبل الشرطة، فيطرده، فيضيف إلى معاناته المختلفة معاناة أخرى، فيهيم على وجهه في الصحراء لأيام طويلة، وبعد مغامرات كثيرة مطبوعة كلها بالمآسي، يلتقي برفيقه في السلاح «زورق» الذي يضمه إليه في جيشه. سعى «زورق» وهو البدوي مثل ياسين، لكنه يختلف عنه تماما، لكونه يتميز بالصلابة والتمرد على كل شيء. حمل «زورق» السلاح وأقام قاعدة عسكرية بين الجبال ليحارب الطغاة من الفرنسيين وحلفائهم من القياد والباشاغات من الجزائريين الذين باعوا ضمائرهم للشيطان. نشر زورق وهو الملقب ب «الضابط الأحمر» الرعب في كل المنطقة التي تقع في الهضاب العليا الغربية، لكن في إحدى المعارك يُحاصر ويضطر- بغية فك الحصار على رجاله المسلحين - إلى اللجوء إلى الحدود الغربية مع المغرب، بغية العودة إلى قاعدته، ريثما تهدأ الأمور وهناك يقوم بتزويج ياسين مع بنت من بنات البدو الرحالة، لتوسيع قاعدته الشعبية. ولدى عودة المجموعة إلى القاعدة، يجدون أن رجال زورق قد تم خيانتهم وتصفيتهم من قبل القايد بوسعيد، فيقرر الانتقام لأصحابه، لكن يتم القبض عليه وتقتله «عبلة» رفيقته في السلاح – وهو سجين- لتجنبه الإذلال الذي كانت يحضر له من قبل رجال القايد، وهكذا تنتهي مغامرة التمرد التي قادها «الضابط الأحمر»، وتتفكك القاعدة التي أنشأها ويعود كل واحد من حيث أتى، فيتوجه ياسين إلى مدينة سيدي بلعباس بحثا عن السيد تامي الذي يساعده على اقتناء حانوت بالمدينة، واعتقد ياسين أن أموره قد سويت وعليه نسيان مشاكله، إلا أن الشرطة تأتيه وتأخذه إلى القاضي الذي يدينه بعشرين سنة سجنا مع الأشغال الشاقة، جراء الشكوى التي أودعها ضده القايد الذي اتهمه بقتل رجلين من رجاله. ترك ياسين زوجته وابنه دون حماية أو رعاية، فزوجته لا تعرف أحدا في المدينة، وهي أصلا لم تخرج من البيت إلا رفقة زوجها الذي وعدها بمشاهدة البحر. ويقضي ياسين سنوات مريرة وطويلة في السجن، لكن في يوم من الأيام يبتسم له الحظ، إذ يزوره «جيلداس» (Gildas) الذي كان يشرف على مجموعة المجندين (tirailleurs ) الجزائريين الذين أُقحموا عنوة في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فيساعده هذا الضابط الفرنسي في التخلص من السجن ويقوم برعايته ريثما يجدد طاقاته، فيشغّله في مزرعته حيث يتكفل بالتسويق وأعمال أخرى، وفي يوم من الأيام يكتشف أباه في السوق يتسول فيتعرف عليه وينقذه من حالته البائسة. وينتهي المطاف بياسين بمدينة قنادسة حيث يستقر نهائيا، بحثا عن راحة المحارب بعد معاناة كبيرة وكوابيس قاتلة. وفي ذلك المكان المعزول يتوصل إلى العثور على زوجته وعلى ابنه بفضل السيد تامي الذي قام برعايتهما أثناء غيابه في السجن. هذه مجمل المحن التي مرّ بها ياسين شراقة، والتي لاحقته في كل مكان، وهي عبارة عن سلسلة من الكوابيس وكأنه كان ريشة في مهب الريح، أو غريقا تتقاذفه الأمواج حيث شاءت، وهو مذعن لمصيره وقدره المحتوم، ومع ذلك يدعو نفسه إلى مسامحة الجميع. كلمة سريعة عن الرواية تندرج الرواية في الكتابة ذات النوع التقليدي، أي تلك التي تحترم التسلسل المنطقي للأحداث وتسرد الوقائع والمغامرات بشكل خطي، مما يجعل القارئ في راحة يتابع فصول الحكاية دون تعب، هناك بداية ووسط ونهاية دول خلخلة في البنية الفنية، وهو الأمر الذي يجعلها في متناول الجميع، بسبب أن الرواية الحديثة أو الجديدة تميل إلى تشظي النص وبالتالي إلى اضطرابه في الزمان والمكان فتختلط الأمور على القراء الذين لم يتعودوا على قراءة النصوص المعقدة. كما يركز النص على شخصية محورية تستعمل ضمير المخاطب وهي العارفة بكل شيء والحاضرة في كل كبيرة وصغيرة، بما يشبه السيرة الذاتية. وهذا هو سر الكتابة عند محمد مولسهول الملقب ياسمينة خضراء الذي يجعل من رواياته تتمتع بشعبية كبيرة، وتترجم بسهولة فائقة إلى مختلف اللغات. تصلح رواية الفضلاء لأن تكون فيلما أو مسلسلا، لأنها تكشف عن معاناة الفئات الشعبية البسيطة والفقيرة في الفترة الاستعمارية وبخاصة في العشرينيات والثلاثينيات. من هم الفضلاء؟ الرواية تقدم لنا نوعين من الشخصيات: ياسين وأصدقاؤه الأوفياء وأقاربه من جهة والسفهاء من جهة أخرى القايد بوسعيد وأزلامه ومن يحمونه من عسكريين و إداريين فرنسيين. ومع ذلك وعلى الرغم من حجمه الكبير (541 صفحة)، فالنص الروائي يُقرأ بسهولة عجيبة وبسلاسة رفيعة تأسر القارئ وتأخذ بتلابيبه لا يتركها حتى ينتهي منها.