برٌّ لهذا البحر، والقلب لا يجتاح الرصاص، والتاريخ لا يسير عكس التاريخ، وأنا وإن اختزلني التاريخ إلى حكاية مكبوتة، فإنها ستُختزَن، وبفعل التراكم وتفاعل الطاقة ستجابه من يحاولون إسكات تاريخي، وستفضح بقوة حكمة التاريخ من يحاولون اختلاق تاريخٍ مغايرٍ لي ولأبي وجدّي، أنا الفلسطيني، فدولة تحتاج إلى كلِّ هذا العنت وكلِّ هذه المؤامرات وكلِّ هذه التحالفات وكلِّ المنعطفات التاريخية وكلِّ هذه الحروب العالمية والاتفاقيات الالتفافية والوعود البلفورية لكي تستجلب بعض المستوطنين بعمليات قيصرية من أرحام دولٍ وحروبٍ وإبادات ومؤتمرات ومؤامرات، ثم لا تفتأ تمارسُ كلَّ هذا القبح من التزييف التاريخي والأركيولوجي ووثائق بيع البيوت والأراضي المفبركة، ولا تفتأ تمارسُ كلَّ مشاريعها النووية وتلتفُّ لمحاصرة النيل في إفريقيا وحرية الصحافة في النرويج والحروف الهجائية العربية، وتمتهن قتل الإنسان لبيع أعضائه البشرية، وبصفاقة اللص الكوني تنهب الفولكلور والمياه والأرضَ والصلاة، هكذا دولة لهي دولة متعَسَّفة، تمتهن فيما تمتهن معاندة التاريخ وبداهته وضميره، وبذا فهي تفترضُ سلفاً عبثيته أو إمكانية تطويع المسار الإنساني والفكري والقوى الجمعية الهادفة، وفق نزقها المرضي الحاقد أساساً على نفيهم منه نتيجة لنفس هذه السمات القديمة المتأصلة فيهم، فلهذا السبب نفسه قتلوا الأنبياءَ وكذبوهم، لأنهم جاؤوا يلعنونهم، فالذين أرادوا مصادرة الإله لهم وحدهم ويدَّعون بنوَّتهم له «نحن أبناءُ الله وأحباؤه»، كيف لا يصادرون الأرض والزمان وحقوق وعرق الشعوب، فكان لزاماً أن يلعنهم الأنبياءُ ويلعنهم اللاعنون، وكان منهم أن يعاندوا الأنبياء والإله، ويتشبّثوا بأمانيِّهم ضدَّ منطق وفطرة الكون والخلقِ، ممّا اقتضى كلَّ هذا العسف في التاريخ، وأضاف إلى جِبِلَّتِهم سماتٍ أخرى اقتضاها وضعُهم المستجدُّ بعد إزاحتهم عن حمل أمانة الله إلى الإنسانية، فكانت الذلة والمسكنة ضرورتين للوصولِ إلى أهدافهم، وكان كذلك مراكمة أدوات القوة المالية والعسكرية والتزويرُ والتحريف والتبديل والعسف والعلوُّ والإفساد، ثمَّ بعد كلِّ ذلك ما زالوا مستنفَرين، دُونَهم وأهدافَهم واطمئنان وجودهم بونٌ مستحيل، فالسياق والآثارُ والنصوص والمناخُ والآثام تلفظهم إلى درجة بناء العوازلِ والجدران أمام النساء والأطفال والذاكرة والأشعار، فكيف يمكن استهجان سياقٍ بأكمله ضد السياق، فبداهة الورد والموج وعمليات التعرية الزمانية تفضح التعسف مهما كانت درجة وقوة الإتقان، ولن يسعفهم ظنُّهم أن العالم يصدّقهم، ولا صلفُهم، ولا تماديهم في تكثيف الاستيطان، ولا اشتقاقات اللغة في أبدية العاصمة وتوسل العجل أو الهيكل، فهي لا تُزرَعُ في هذا المجال الحيوي، وإن زُرعت قسراً فإنّها لا تنبت كما أدرك في برهة وعيٍ عبقريٍ العلامةُ الجزائريُّ عبد الحميد بن باديس قبل أكثر من ستين عاماً، ولذا ما زالوا مستفَزّين، يشنون الحروب في كل اتجاه، ويحفرون الأنفاقَ ويهاجمون الأشجارَ والثمار، ويحاربون النُّطف في مشاتل الأرحام، وما زلنا لاجئين، ساخرين من غيّهم وإن طال الزمان، ويعرفُ الوليدُ منا «أنّهم عابرون»، ألا يُسمُّون أنفسَهم – هم أنفسُهم – عبرانيين؟ وما زلنا نختزن كلَّ تلقائيتنا وكلَّ انسيابنا، وما زالت بداهتنا في أوج بداهتها، لأننا نحن سياق السيرورة والصيرورة، بلا عسفٍ أو تكلّفٍ، ودون أن نكون مسكونين بهاجس تسمية عاصمتنا بالأبدية، لأننا لا نُفتّشُ عن عاصمةٍ لوطننا، لأنها مثل عيوننا، ولكننا نصارعُهم على وطنِ عاصمتِنا البديهيّة، ونحن نعرفُ أنّهم يعرفون، ولكنَّ الشيء الذي هم ليسوا لهم عارفين هو أنَّ القدسَ عندنا هي كلُّ فلسطين.