وقعت دولة بوركينافاسو هذا الأسبوع في فخّ انقلاب عسكري هو الثامن منذ الاستقلال سنة 1960، والثاني منذ بداية السنة، ودخلت البلاد في حالة غموض وترقّب ومخاوف شديدة خشية تصعيد آت، فالتّغييرات غير الدستورية لأنظمة الحكم، غالبا ما تفاقم المشاكل وتفجّر الأزمات ولا تقلّصها أو تحدّها، خاصة وأنّ هذه الدولة الواقعة في الساحل الإفريقي تحمل ما تنأى الجبال عن حمله، من معضلة أمنية صنعتها المجموعات الإرهابية، ومصاعب اقتصادية واجتماعية مزمنة، وتدخّلات جهات خارجية، تعمد دائما إلى نفخ جمار الخلافات وتشعلها نيرانا تقتل فرص العيش الكريم وتعدم جهود الاستقرار، وتخلق أجواءً من الاضطرابات والفوضى حتى يتسنى لها بسط نفوذها، ونهب ما أمكنها من ثروات. في الواقع، رغم أنّ كثيرين فاجأهم انقلاب الجمعة الماضي الذي قاده النقيب إبراهيم تراوري «34 عاما»، ولم يقتنعوا بمسبّباته أو يستسيغوا مبرّراته على اعتبار أنّ السّلطة العسكرية المطاح بها كانت تسير في الطريق الصّحيح، ونجحت إلى حدّ كبير، في وضع عملية الانتقال السياسي على سكّته الصحيحة، وحدّدت مواعيد لعودة النظام المدني، فإنّ المتابعين للوضع في بوركينا فاسو، وفي الساحل عموما الذي أصبح وكرا للمجموعات الإرهابية ولتنظيمات الجريمة المنظمة بما تشمل المتاجرة في السلاح والبشر والثروات المنهوبة، يدركون جيّدا بأنّ الهشاشة الأمنية في هذه المنطقة تفتح المجال واسعا لعدم الاستقرار السياسي، وهو ما يفسّر كثافة الانقلابات العسكرية التي يشهدها هذا الإقليم الوعر، ففي ظرف عامين عرف الساحل ووسط إفريقيا ستة تغييرات سياسية غير دستورية، حيث شهدت بوركينافاسو في جانفي الماضي، انقلابا عسكريا قاده الكولونيل بول هنري داميبا الذي أطاح بالرئيس روك كابوري بمبرّر تقاعسه عن احتواء عنف هجمات الإرهابيين. والجمعة الماضية ولنفس المبرّر، أي الإخفاق في دحر الإرهاب، وتراجع الروح المعنوية في صفوف القوات المسلّحة، وقع داميبا في الفخّ الذي نصبه له النقيب الشاب إبراهيم تراوري، الذي قاد انقلابا هادئا وسريعا دون أن تصادفه أي عراقيل أو معارضة لا من الشعب ولا من الجيش. دولة مالي هي الأخرى شهدت انقلابين في أقلّ من سنة، حيث أطاحت مجموعة من ضباط الجيش بقيادة أسيمي غويتا، بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا في أوت 2020، في أعقاب احتجاجات مناهضة للحكومة على تدهور الوضع الأمني، وخلاف حول الانتخابات التشريعية، ومزاعم بالفساد. وتحت ضغط من جيران مالي في غرب أفريقيا، أي مجموعة «ايكواس»، تنازل المجلس العسكري عن السلطة لحكومة مؤقتة بقيادة مدنية تولاها الكولونيل المتقاعد باه نداو، مكلّفة بالإشراف على فترة انتقالية مدتها 18 شهرا تتوّج بانتخابات ديمقراطية في فيفري 2022. لكن قادة الانقلاب، انقلبوا مرّة ثانية على باه نداوفي ماي 2021، وتمّت ترقية غويتا، الذي كان يشغل منصب النائب المؤقت للرئيس، إلى منصب الرئيس. وفي الجارة تشاد، تولى الجيش السلطة في أفريل 2021، بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي في ساحة المعركة، أثناء زيارته القوات التي تقاتل المتمردين في الشمال. وبموجب القانون التشادي، كان يجب أن يصبح رئيس البرلمان رئيسا للبلاد، ولكن مجلسا عسكريا تدخل وحلّ البرلمان باسم ضمان الاستقرار، وعيّن نجل ديبي الجنرال محمد إدريس ديبي رئيسا مؤقتا، وكُلف بالإشراف على فترة انتقالية مدتها 18 شهرا للانتخابات. وغير بعيد، أطاح في غينيا قائد القوات الخاصة الكولونيل مامادي دومبويا بالرئيس ألفا كوندي في سبتمبر 2021، ليصبح رئيسا مؤقتا حتى إجراء انتخابات ديمقراطية في غضون ثلاث سنوات. لماذا الانقلابات؟ كثرت التغييرات غير الدستورية للحكم في إفريقيا عموما والساحل خصوصا، حتى بات البعض يتحدث عن وباء معدي ينتقل من دولة إلى أخرى بدون تذكرة ولا فيزا ولا استئذان، والواقع أن تكرّر الانقلابات في هذه المنطقة مردّه إلى أن دولها تعيش أوضاعا متشابهة خاصة في الجانب الأمني والاقتصادي، ونفس الأسباب تقود في الغالب إلى نفس النتائج، فما هي العوامل التي تقف وراء عدم الاستقرار السياسي بإفريقيا التي شهدت منذ استقلال دولها قبل ستة عقود، أزيد من205 محاولة انقلابية، نجح منها الكثير وفشل الكثير أيضا. يجيب الخبراء والمختصّون عن هذه التساؤلات بالقول، أنّ البيئة الأمنية الهشة خاصة مع انتشار المجموعات الإرهابية وضعف الاقتصاد وتراجع فرص التنمية، والتدني المعيشي، حيث أنّ 55 في المائة من سكان القارة البالغ عددهم نحو 360 مليون نسمة يعيشون تحت عتبة الفقر، إضافة إلى عدم احترام أساليب الانتقال الديمقراطي للحكم، إذ في الغالب، لا يأتي الحاكم للسلطة إلا عبر انقلاب، ولا يغادر إلا بانقلاب مضاد، كلّها عوامل تجعل البيئة مهيأة للتغييرات غير الدستورية لأنظمة الحكم التي تزيد الوضع تدهورا وسوءا خاصة عندما تفجّر الانقلابات، نزاعات داخلية وحروب أهلية تحصد ملايين القتلى وتصنع الكثير من المآسي، والتاريخ الإفريقي يسجّل وقوع العديد من الحروب والاضطرابات مثلما حصل في سيراليون وليبريا، والسودان، ونيجيريا، وأوغندا، وموزمبيق، ورواندا التي انتهت بإبادة جماعية مريعة، حيث قتل مليون شخص من التوتسي خلال مائة يوم عام 1994. لكن من المهمّ ونحن نبحث عن مسبّبات الانقلابات التي تهزّ القارة السمراء أن نقف عند ظاهرة غير مسبوقة أضحت العنوان الرئيس للإطاحة بالرؤساء، حيث باتت الانقلابات موجّهة بالأساس للتخلّص من نفوذ وسيطرة المستعمر القديم، وخلع عباءته من خلال خلع الرئيس الذي يسبح في فلك هذا المستعمر. وهذا ما تعكسه الانقلابات التي تشهدها دول الساحل في السنوات الأخيرة، إذ أنّ جميعها لم تكن مدفوعة بالرّغبة في السلطة بحدّ ذاتها كما كان في السابق، بل بالإصرار على القطيعة مع فرنسا، التي أصبحت تواجه موجة عداء غير مسبوقة، وتراجعا لنفوذها في منطقة غرب أفريقيا التي طالما اعتبرتها حديقتها الخلفية التي لا يحقّ لأحد اللعب فيها، لكن يبدو اليوم بأن هذه الحديقة أصبحت مستباحة للكثير من اللاعبين الذين يكسب بعضهم تأييدا شعبيا متزايدا. محتجّون غاضبون نهاية الزمن الفرنسي الذي يصرّ الشباب الإفريقي على تحقيقها، تجلّت واضحة في الانقلاب الذي حصل بداية الأسبوع ببوركينافاسو، فبخلاف كل السفارات والممثليات الدبلوماسية الموجودة في واغادوغو، كانت السفارة الفرنسية الوحيدة التي تعرضت للهجوم، ما يعكس بشكل واضح وقاطع أن ساعة الرحيل دقّت بالنسبة للمستعمر القديم فيه، وعليه أن يغادر كما فعل في دولة مالي. فغداة الإطاحة بالرئيس الانتقالي العقيد بول هنري داميبا، هاجم محتجون غاضبون وهم يرددون شعارات «لا لفرنسا»، «لتخرج فرنسا»، مبنى السفارة الفرنسية في العاصمة واغادوغو، وأضرموا النيران في أجزاء منه، قبل أن يقتحموا القنصلية الفرنسية في المبنى نفسه، وقاموا بتخريب بعض المكاتب، كما أضرموا النيران في مرافق المعهد الثقافي الفرنسي الملاصق لمبنى السفارة، وانتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي صور ومقاطع فيديو لمباني السفارة الفرنسية، وهي تتعرض للتخريب والحرق. هذا الهجوم، شكّل ضربة قوية لفرنسا التي احتفظت بنفوذ قوي في هذه الدولة الإفريقية منذ أن منحتها الاستقلال قبل 62 عاما، حيث تتمركز قاعدة عسكرية فرنسية مهمة في العاصمة واغادوغو، يوجد بها مئات العسكريين الفرنسيين، أغلبهم من القوات الخاصة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي. كما أنّ ردّ الفعل العاصف من طرف البوركينابيين، أكّد بما لا يدع مجالا للشكّ، أنّ الشعور المعادي لفرنسا أصبح سلوكا عاما يكتسب زخما متزايدا في كلّ دول الساحل ومنطقة غرب إفريقيا، وعلاقات فرنسا بمستعمراتها الإفريقية السابقة تزداد توترًا منذ سنوات، حيث برزت حركات شعبية واجتماعية مناهضة للوجود الفرنسي في مالي والنيجر وتشاد، وشعار (فرنسا ارحلي) بات يتردّد أيضاً في السنغال وكوت ديفوار، وإن كانت هذه الأصوات ضعيفة حتى الآن. ورغم أنّ باريس تقول بأنّ التّوجّهات المناهضة لها ليست عشوائية ولا بريئة، وبأنّ الرفض المتزايد لها يقف وراءه منافسون جدد يزاحمونها النفوذ على المنطقة، فإنّ شعوب الساحل تؤكّد بأن فرنسا لم تفعل لبلدانها الغارقة في العنف والحرمان شيئا، فهي تبحث عن مصالحها فقط، بل هناك من يتهمها حتى بالوقوف وراء الإرهاب الذي يفتك بالمنطقة، وهذا ما سمعناه من رئيس وزراء مالي بالنيابة عبد الله ميغا في كلمته نهاية الشهر الماضي، أمام الدورة «77» للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، حيث اتّهم «فرنسا بدعم الإرهاب في بلاده وتزويد الجماعات المتطرفة بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية لزعزعة الاستقرار في مالي». وطالب مايغا «بتدخّل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أجل عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي بهدف عرض الأدلة التي تمتلكها مالي بشأن تورط السلطات الفرنسية في دعم الإرهاب، ووقف الازدواجية والحرب بالوكالة المفروضة على مالي». البحث عن شركاء جدد لقد دفعت موجات الانقلابات الأخيرة في الساحل وغرب إفريقيا، التي ارتبطت بالأزمة الاقتصادية، وتصاعد المدّ الإرهابي في المنطقة، عددًا من الدول الإفريقية إلى إعادة التركيز على جداول أعمالها المحلية، والتعاقد مع شركاء خارجيين غير تقليديين يكونون قادرين ومستعدين بجدّ لمساعدتها على مواجهة وحلّ مشاكلها المتعاظمة. ويتجلى هذا الواقع الجديد من خلال التأييد المتزايد للوجود الروسي، ففي كل مظاهرة مناهضة لفرنسا، ترفع أعلام روسيا وتصدح الحناجر باسمها، ما يؤكّد بأنّ الأجيال الشابة من الأفارقة، ونخبها على وجه الخصوص، مصّرة على الطلاق مع الماضي الاستعماري، وهو بالطّبع ما يفسّر نجاح الانقلابات العسكرية الأخيرة، فهي ترفع شعار التحرّر من المستعمر القديم لهذا تلقى التأييد، وتتمّ دون إراقة قطرة دم. لكن برغم مبرّراتها ودوافعها التي قد تبدو للكثيرين منطقية، فالمؤكّد أنّ الانقلابات العسكرية لم تكن يوما الطريقة المثلى لتغيير الأنظمة أو التداول على السلطة، أو مواجهة المشاكل والتحديات التي تواجهها دولة بعينها، فالتغيير غير الدستوري للحكم، قد يفتح أبواب جهنّم على الشعوب ويعمّق أزماتها ومآسيها، لهذا يجب على القارة الإفريقية أن تتحرّر من هذه الظاهرة المقيتة، وتعمل بدل ذلك على بناء مؤسسات قويّة ترسّخ مفاهيم الحكم الديمقراطي والمدني على جميع المستويات، وتبحث عن أفضل الوسائل والاستراتيجيات لإقرار الأمن وبناء الاقتصاد، ومن المهم جدّا إعطاء الأولوية لخلق نشاط اقتصادي مستدام من الموارد المتاحة، فبدلا من أن تقوم الدول الأفريقية بتصدير مواردها الخام، يمكن تحويل وتصنيع هذه الموارد من خلال إرساء بنية تحتية مناسبة، فيتمّ، من جهة، خلق قيمة مضافة، ومن جهة ثانية، توفير فرص عمل تنقذ الشباب من البطالة التي تدفع بكثيرين إمّا للسقوط في فخّ المجموعات الإرهابية، أو تبتلعهم البحار.