في تلك اللحظات.. كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية من بعد ظهر يوم الأحد 24 /7 / 1994، عندما غادرت السيارة البيضاء بيت لحم شمالاً باتجاه مدينة القدس، قبل أن تنعطف يساراً إلى قرية بيت صفافا، لتواصل طريقها نحو الشطر الغربي من المدينة الذي ما أن غادرناه، حتى ضللنا الطريق لفترة قصيرة، قبل أن نعاود السير نحو الجنوب الغربي، متوجهين إلى مدينة غزة. أما سائق السيارة، فهو رئيس المنتدى الثقافي الإبداعي في محافظة بيت لحم، الشاعر د. جمال سلسع، وقد جلس إلى جانبه نائب رئيس المنتدى الصحفي راجي زبون، مدير مكتب المنتدى، وفي المقعد الخلفي كان أمين سر المنتدى الشاعر محمد شريم، أنا العبد الفقير، وإلى جانبي عضوا الهيئة الإدارية الكاتب محمد شحادة ورسام الكاريكاتير عصام أحمد. بعد ما يقارب الساعتين من السفر، دخلنا غزة، بعد أن سمحت لنا قوات الاحتلال المتواجدة على حدود القطاع بالدخول.. كانت المدينة خارجة من سنوات الانتفاضة الأولى، وفي شوارعها من أمارات البؤس ومؤشرات النضال الطويل ما فيها مما لا مجال لذكره الآن - ولكنها كانت عامرة بالأمل، الذي كان يراود معظمنا آنذاك. توجهنا إلى أحد المطاعم على شاطئ البحر، حيث تناول كل منا وجبة شهية من سمك غزة البحري الطازج، قبل أن نتوجّه إلى مقر إقامة الرئيس ياسر عرفات، في المبنى الذي يطل على شاطئ البحر ويطلق عليه اسم «المنتدى». وللحقيقة، فإن لقاءنا الذي أستحضر قصته الآن، ليس هو اللقاء الوحيد الذي جمع وفداً من «المنتدى الثقافي الإبداعي في محافظة بيت لحم» مع الرئيس عرفات رحمه الله، بل هو الأول من لقاءين اثنين، وهو الأكثر أهمية من لاحقه، وقد كان اللقاء الثاني في مقر الرئاسة في مدينة أريحا بتاريخ 8 / 6 / 1995، وهو لقاء قصير؛ لأننا طلبنا مقابلة الرئيس دون تنسيق مسبق، من خلال د. رمزي خوري، مدير مكتبه، وتلّطف الرئيس بالموافقة، بما يتصف به من تقدير للمثقفين، وأكد الرئيس في اللقاء دعمه للمنتدى وقدمنا له كتاباً بشأنه. وقد حضر هذا اللقاء أعضاء إدارة المنتدى: راجي زبون، محمد شريم، سعيد عياد، ومحمد شحادة. (1) وبالعودة إلى لقائنا في غزة، فقد كان كما حدّده مدير مكتب الرئيس آنذاك - د. رمزي خوري لرئيس المنتدى، هو الساعة الخامسة مساء، وعندما وصلنا مقر الرئاسة، استقبلنا الحراس، باحترام، وبأقل ما يمكن من الرسميات، فقد كانوا يعلمون بقدومنا. كان المقر بهيئته البسيطة، فمع أن الرئيس عرفات معروف بشيء من الزهد الشخصي، في حياته العملية، إلا أن قصر المدة بين عودته إلى غزة وزيارتنا له، بعد أربعة وعشرين يوماً فقط من يوم العودة، ربما جعل من الصعب إعداد المكان بصورته المثلى. دخلنا المبنى، فطلب منا مرافقو الرئيس، ولم يكن الوقت أيضاً كافياً لعمل هيكلية وظيفية في المقر كما أعتقد، الانتظار لدقائق معدودة، فانتظرنا، وأعلمونا أثناء الانتظار أن الرئيس إكراماً منه لوفادتنا كأدباء ومثقفين، حدد موعداً لاستقبالنا بشكل مستقل، وفي مكتبه الخاص، وليس في الوقت المخصّص لاستقبال الوفود في القاعة العامة، حيث كانت الوفود تحضّر لزيارته من جميع أنحاء فلسطين آنذاك، وقد انتهزنا الفرصة في لحظات الانتظار تلك، لنخطو باتجاه النوافذ الغربية للقاعة، المطلة على البحر.. شعرت في تلك اللحظات أن البحر الأزرق الممتد على مدى النظر هو بحر فلسطيني اسمياً وعملياً، وأن نسمات البحر التي استنشقتها في تلك الدقائق هي فلسطينية بامتياز! والصحيح أن رغبة الرئيس عرفات في تكريمنا كأدباء ومثقفين، بتلك اللفتة الرمزية، باستقبالنا في مكتبه الخاص، لم تكن غريبة على أسلوب تعامله مع الكتاب، بل هي سمة من سمات اهتمامه بالأدب والثقافة وأهلهما، فقد كان قبل عودته إلى أرض الوطن عظيم الاهتمام بالحركة الأدبية الفلسطينية، وبضمن ذلك اهتمامه بدعم اتحاد الكتاب الفلسطينيين في الأرض المحتلة، في مراحل تأسيسه المختلفة، ومساعدته في تنفيذ برامجه، ومن المؤكد أن رئيس الاتحاد الأسبق الشاعر د. المتوكل طه، هو الأقدر على الحديث في هذا الأمر، ولعلّ هذا، والشيء بالشيء يذكر، ما يجعلني أستذكر ذلك الموقف المهيب حينما أقامت أسرة «منتدى القلم»، التي كنت نائب رئيسها، أمسية ثقافية في قاعة الاتحاد النسائي العربي في بيت لحم، بتاريخ 16 / 5 /1993، حيث غصّت القاعة بالحضور، وعلى رأسهم رئيس البلدية السيد إلياس فريج ترحيباً بالدفعة الأولى من المنفيين العائدين. فقد نسق الأخ المتوكل رئيس الاتحاد وكان الحفل تحت رعاية اتحاد الكتاب والأدباء في حينه لكي يلقي الرئيس عرفات من تونس كلمة عبر الهاتف تبث من خلال أجهزة الصوت، على مسامع الحضور، وبالفعل فقد تحدّث الرئيس، لنصف ساعة، وحيا الحضور والمنتدى، وأظنها كانت المرة الأولى التي يتحدّث فيها الرئيس مباشرة إلى قاعة في الأرض المحتلة، وقد كان لي الشرف بأن أشكر الرئيس على اتصاله باسم «منتدى القلم» ونيابة عن الحضور، ونقلت إليه تطلّع الحضور إلى اليوم الذي يقف فيه شخصياً أمامهم في بيت لحم مهد السيد المسيح وأن يتحدث إليهم وجهاً لوجه، فزادني الرئيس رحمه الله شرفاً بأن طلب مني أن أوصل تحياته إلى الأهل في الأراضي المحتلة من عائدين ومعتقلين ومناضلين. (2). ولعلّ الأخ الأديب يحيى يخلف الذي عايش الرئيس عن قرب في منظمة التحرير، في الخارج، وفي عهد السلطة الفلسطينية.. في الداخل، لديه كثير مما يمكن أن يقوله في هذا الشأن، وأذكر أنه تحدّث عن هذا الأمر بشيء من الاستفاضة، في الأمسية الافتتاحية لمهرجان إحياء الذكرى العاشرة لرحيل الرئيس ياسر عرفات، في المقر الرئيس للهلال الأحمر الفلسطيني، في رام الله، بتاريخ 3 / 11/ 2014 التي ألقيت فيها قصيدتي التأبينية للرئيس الشهيد، وعنوانها «غياب رمز»، وذلك بدعوة من إدارة المهرجان الذي امتد لعدة أيام بتنظيم من «مؤسسة ياسر عرفات». (3) وبعد دقائق معدودة، من الانتظار في مقر الرئيس بغزة، كما طُلب منا، تمّ اصطحابنا إلى غرفة المكتب الخاص بالرئيس ياسر عرفات، كانت الغرفة في هيئتها كغرفة الإدارة في أية مؤسسة من المؤسسات الأهلية.. فيها طاولة مكتب عادية، أمامها تمتد بشكل أفقي ملاصق -أو يكاد - طاولة اجتماعات، بحيث يشكلان معاً حرف (تي) باللاتينية، وعلى الجدار المقابل للرئيس، علقت صورة لقبة الصخرة المشرفة ومدينة القدس.. كان الرئيس يجلس على مقعده، وأمامه على الجانب الأيسر من طاولة الاجتماعات يجلس كل من الدكتور أحمد الطيبي والدكتور نبيل شعث. سلمنا على الرئيس، الذي استقبلنا ببشاشته المعروفة، وعناقه الشهير، وعلى الأخوين الطيبي وشعث، ثم أخذ الرئيس مجلسه في مقعده مرة أخرى، أما نحن فقد جلسنا على الجهة المقابلة للرجلين. كان مقعد رئيس وفد المنتدى الثقافي الإبداعي هو الأقرب من طاولة الرئيس عرفات، ثم جلس نائب الرئيس، وأنا كنت - أمين سر المنتدى - في المقعد الأوسط، وإلى جانبي جلس الأخوان محمد شحادة وعصام أحمد. رحب بنا الرئيس ثانية، وفي هذه الأثناء، لفت انتباهنا أمر غير متوقّع، إذ أخرج الرئيس مسدسه الشخصي، من تحت قميصه، من منطقة الصدر، ووضعه في جارور طاولة المكتب، الذي أمامه، وهو ينظر إلينا، بنظرة خاطفة كانت لمحض المصادفة باتجاهي، لكوني في المقعد الأوسط كما يبدو، وهو الأمر الذي دعانا للاعتقاد أن الرئيس عرفات يريد أن يوصل رسالة للمثقفين فحواها أنه ما زال يحتفظ بخياراته جميعها حتى بعد اتفاقية أوسلو، وهو الأمر الذي أكدته الأحداث لاحقاً. وبعد ذلك، تحدث رئيس وفدنا، معبراً عن سرور المنتدى الثقافي الإبداعي والشعب الفلسطيني وأهالي بيت لحم بعودة الرئيس وسائر العائدين، ثم تحدث الرئيس عرفات رحمه الله ونحن نحتسي الشاي باستفاضة - مؤكداً على تمسكه بالثوابت الفلسطينية، ثم أكد لنا أن الاهتمام بالثقافة والأدب هو بالنسبة للسلطة الوطنية الفلسطينية سيكون من الأولويات، وبعد أن أطلعنا الرئيس على واقع منتدانا، وأنشطته، استدعى الرئيس مستشاره الأستاذ نبيل أبو ردينة، وطلب منه أن يسجّل بعد الاجتماع - احتياجات المنتدى كمؤسسة لمدة ستة أشهر، وهو ما تمّ فعلاً، وقبل نهاية اللقاء قدّم البعض منا كمبدعين - هدية للرئيس، فقد قدمتُ أنا - نسختين من قصيدتي «نجمة الصبح» التي نظمتها ترحيباً بالرئيس وبسائر بالعائدين، وكانت القصيدة مصدّرة بصفحة تتضمن إهداء للرئيس، فقرأ الرئيس عدداً من أبياتها قبل أن يضع نسخة من النسختين بين أوراقه، ويعيد إليّ النسخة الأخرى وقد علّق على فقرة الإهداء بالعبارة: «معاً وسوياً وجنباً إلى جنب حتى القدس الشريف بإذن الله» ممهورة بتوقيعه. (4) أما الأخ الصحفي راجي زبون، فقدّم للرئيس ثلاث نسخ من كتابه «من خندق الختيار»، و»الختيار» هو نفسه ياسر عرفات، فاحتفظ الرئيس بنسخة، ومنح النسختين الأخريين لشعث والطيبي، ولكن راجي نفسه وعلى خلاف ما كان يرجو فلم يحظ بنسخة موّقعة، كما قدّم الفنان عصام أحمد للرئيس بعض رسوماته، فاستعرضها الرئيس باهتمام، مثلما أظهر اهتمامه بكل ما قدم له من الإبداعات.. وقبيل الأصيل، كنا نغادر مقر الرئاسة، وأثناء مغادرتنا، بعد ساعة أو أكثر قليلاً في ضيافة الرئيس، شعرنا بالفعل - أننا كنا في حضرة رجل عظيم، حريص على الحركة الأدبية الفلسطينية، كجزء من مسيرة الشعب الفلسطيني الإنسانية والنضالية،وتبارينا ونحن نتوجّه إلى السيارة في الساحة القريبة من المقر - بأن يصف كل منا الرئيس بما رآه فيه من خلال اللقاء، فكان تعليقي أنا: «لقد كان الرئيس ودوداً لدرجة تجعلني أقول: إنه يعرف كيف يكسب الأصدقاء!».. هوامش: (1) (جريدة القدس 9 / 6 / 1995 ص5 ع3 - جريدة النهار 9 / 6 / 1995 ص3 ع1). (2) (جريدة الفجر الفلسطينية 17 / 5 / 1993 ص12 ع2/ جريدة النهار 17 / 5 / 1993 ص1 ع1). (3) موقع مؤسسة ياسر عرفات، تاريخ القراءة الأربعاء 16 /11 / 2022 الساعة 4:10 م. (4) (جريدة النهار 27 / 7 / 1994 ص1 ع5).