كانت بدايات الرواية العربية المكتوبة باللغة العربية متعثرة، وقد جاءت متأخرة، بالمقارنة مع نظيرتها المكتوبة باللغة الفرنسية، بسبب الحصار الذي فُرض على اللغة العربية في المراحل الأولى من الفترة الاستعمارية، لكن مع بداية الأربعينيات من القرن الماضي بدأت بعض النصوص الروائية ترى النور ونذكر منها «الطالب المنكوب» سنة 1951م لعبد المجيد الشافعي، و»الحريق» سنة 1957م لنور الدين بوجدرة، و»صوت الغرام» سنة 1967م لمحمد منيع. ولعلّ أهم هذه النصوص الروائية، «غادة أم القرى» لصاحبها أحمد رضا حوحو، وصدرت سنة 1947. ولم تكن تلك النصوص لتعالج غير ما هو ذي طابع اجتماعي، دون عمق فكري أو فني، لكنها شكلت الإرهاصات الأولى للفن الروائي في الجزائر. وكان لابد من انتظار فترة السبعينيات لتظهر النصوص المؤصلة للفن الروائي في الجزائر مع كل من عبد الحميد بن هدوقة بروايته «ريح الجنوب» سنة 1971، وروايتي «الزلزال» و»اللاز» للطاهر وطار و»ما لا تذروه الرياح» لمحمد عرعار عبد العالي، وتندرج هذه النصوص ضمن ما يسمى بالكتابة الواقعية التي تهتم بالقضايا الاجتماعية وبتاريخ الثورة التحريرية وبمعاناة الجزائريين أمام الآلة الاستعمارية، وتتميز بالنضج الفني والفكري، مما أهّلها كي تحتل الصّدارة الثقافية آنذاك. كان هذا الإنتاج الأدبي في أغلبه ينخرط في اتجاه يتبنى الإصلاحات السياسية ذات الطابع الوطني والاشتراكي الذي ساد في تلك الفترة، والتي كانت تهدف إلى توزيع الأراضي على الفلاحين الصغار وبناء قاعدة اقتصادية وتعميم التعليم على أبناء الشعب الجزائري الذي حُرمت منه الأجيال السابقة، وتحرير المجتمع من التقاليد العتيقة والبالية.. وهكذا، أخذت مسألة العدالة الاجتماعية وملكية الأراضي الفلاحية وتحرير المرأة والتغني بأمجاد الثورة التحريرية حيزا كبيرا في النصوص المشار إليها أعلاه. في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، تدخل الجزائر مرحلة جديدة من الإصلاح السياسي، أي بالتراجع التدريجي عن التصورات السياسية السابقة، والتوجّه التدريجي نحو النظام الليبرالي والانفتاح على اقتصاد السوق، وقد تعتبر هذه المرحلة مناسبة جادة للتفكير العميق في التغيير الفني والفكري للعديد من الادباء الذين وقعوا تحت «الصدمة»؛ بسبب هذا التغيير السياسي العميق. وقد برز خلال ذلك العديد من الأدباء الذين استفادوا من الإصلاحات السابقة، مثل ديمقراطية التعليم والتعريب ونذكر منهم: مرزاق بقطاش والجيلالي خلاص ولعرج واسيني والحبيب السائح والزاوي أمين وإسماعيل غموقات ومحمد ساري وأحلام مستغانمي ومحمد مفلاح.. الذين واصلوا الكتابة على نهج الرواد، لكن من منطلق نقدي أكثر حدة. وستعرف الجزائر مع نهاية الثمانينيات تحولات عميقة، وبخاصة مع فشل السياسة المتبعة والتي ابتعدت كثيرا عن التوجهات الاجتماعية السابقة، مما جعل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تتأزم، خاصة وأن الاقتصاد الجزائري الذي يعيش على الريع البترولي، قد تلقى ضربة قوية بفعل تراجع أسعار النفط في أواسط الثمانينيات، وانهيار القدرة الشرائية للفئات الشعبية العريضة، وبالتالي إلى انتفاضة أكتوبر 1988 التي عجّلت بنهاية الأحادية الحزبية، وإرساء قواعد جديدة للتنظيم السياسي من خلال الإعلان عن التعددية السياسية والتعددية الإعلامية، وفتح المجال لجميع التيارات الفكرية والإيديولوجية في المنافسة السياسية، وقد كان اعتماد الأحزاب الإسلامية، حدثا بالغ الأهمية، وفرصة لطرح مشاريع سياسية واجتماعية ذات طابع ديني لم يحظ بالقبول من قبل فئات اجتماعية مختلفة، مما أدى إلى بروز استقطاب أيديولوجي حاد، تحّول مع مرور الأيام، وتطور الأحداث، إلى صدام مسلح وعنف إرهابي. وفي هذا السياق المتوتر، تبرز مجموعة من الأدباء للكتابة عن تلك الأوضاع المتسمة بالفظائع والقتل الهمجي الذي لم يسلم منه أحد، وقد ذهب ضحيته كثير من المثقفين والإعلاميين والادباء. ومن بين الذين كتبوا في هذه المرحلة المؤلمة نذكر بشير مفتي وحميد عبد القادر وياسمينة صالح وإبراهيم سعدي وغيرهم، وتأتي نصوص هؤلاء لتمثل شهادة حية عمّا جرى من أحداث قاسية، وتعبيرا عن معاناة الشعب الجزائري في مواجهة هذه الأزمة الأمنية الحادة. مع نهاية التسعينيات وحلول الألفية الثالثة، تتغير الأحوال السياسية بتراجع الإرهاب حيث تتجه الجزائر نحو مرحلة جديدة سميت سياسيا «المصالحة الوطنية»، توقف فيها كثير من المسلحين عن حمل السلاح، وتنازلوا عن القتال وانخرطوا في الحياة الاجتماعية من جديد. وشهدت هذه المرحلة أيضا ظهور أسماء أدبية جديدة لتطرح موضوعات متنوعة ومختلفة عمّا عُرف في السابق، مع العلم أن جميع الأدباء الذين أشرت إليهم قد واصلوا الكتابة وعايشوا هذه المراحل كلها وكتبوا عنها، وقد توفي بعضهم مثل عبد الحميد بن هدوقة سنة 1996، والطاهر وطار سنة 2010، ومرزاق بقطاش سنة 2021. سنتحدث في هذه الورقة عن مجموعة من النصوص الروائية لأدباء برزوا في التسعينيات وأيضا ممن برز في هذه الألفية الثالثة، وهي الأعمال التي تمّ نشرها فيما بين سنتي 2018 وسنة 2019 أي كل من أحمد عبد الكريم والعربي رمضاني وبشير مفتي وحميد عبد القادر وعمارة لخوص.
- 1 - صدمات وعودة المكبوت: - أ - بشير مفتي واستحالة النسيان: تدور أحداث هذه الرواية التي تحمل عنوان «وحيدا في الليل»، والتي صدرت سنة 2019 حول موضوع النشر والكتابة في فترة التسعينيات بالجزائر، وهو موضوع يهيمن على كتابات بشير مفتي، إذ تتكرّر هذه المسألة في كثير من رواياته منذ بداية مساره الأدبي الذي تصادف مع تصاعد الأعمال الإرهابية والاغتيالات الكثيرة التي مسّت الصحافيين والمثقفين، وكذلك عامة الناس، وتقوم هذه الرواية على ثلاث شخصيات رئيسية، ياسين الناشر العجوز الذي يتحدّث عن مخطوط رواية كاتبه المفضل رشيد كافي، صاحب الموهبة الذي لم يسعفه الحظ في نشر أعماله، الشخصية الثانية هو رشيد كافي، كاتب يعيش للكتابة ومن أجلها، وتعيش هذه الشخصية (كما يظهر من عنوان الرواية) ظروف العزلة والقهر والنفور. الشخصية الثالثة، هشام ماضي ورسالته الطويلة التي تشبه الاعترافات أو السيرة الذاتية التي تتضمن كثيرا من الأسرار حول حياته وحول معاناته المختلفة، إذ عرف تحولات عميقة في مساره المهني، وقد رمى به القدر لأن يصبح جزءا من هذا العنف بدخوله إلى جهاز مكافحة الإرهاب، كما تحدثنا الرواية عن الاختفاء الغامض لهذه الشخصية، وما تحمله من أسرار دفعت بها إلى هذا السلوك. تروي الرواية تراجيديا الجزائر في التسعينيات، وما تعرض له المثقف من مآس، فقد كان عليه أن يختار المعسكر الذي لا بد أن ينتمي إليه، وهو في كلتا الحالتين معرض للقتل والتنكيل.. لم يكن الاختيار سهلا، في زمن أصبح فيه اتخاذ المواقف جرأة وشجاعة يدفع صاحبها الثمن غاليا، وحتى ولو لم يتخذ موقفا، قد يتعرض للظلم والقهر؛ لأن وجود المثقف في هذه الأجواء، هو تهديد للمتصارعين حول السلطة. وتتعرّض الرواية للتحليل النفسي العميق لتلك الشخصيات القلقة والمتوترة توتر وقلق الأحداث والوقائع، كما تكشف عن طريقة الكتابة لدى بشير مفتي الذي يخضع شخصياته للبوح عما تكتمه في نفسها، من عواطف مضطربة، فقد جرب بطل الرواية كل الطرق لإنقاذ نفسه من هذه الصراعات الكثيرة والمتعدّدة التي رافقته في حياته التي تميزت بالفشل على جميع الأصعدة.. تخليه عن الدراسة، فشله في الحب، التحاقه بالخدمة العسكرية في زمن الإرهاب والقتل الهمجي ومن ثم انخراطه في عمليات التقتيل، وعن فراره إلى بلد بعيد حيث قد يختفي عن الأنظار وينجو بنفسه، لكن الهواجس تلاحقه في كل مكان. وتتضمن الرواية أسئلة ذات طابع فلسفي تدور حول مسألة الوجود والجدوى من العيش في عالم مليء بالزيف وبالعنف المجاني والموت. - ب - حميد عبد القادر: محن وزوال الوهم: هي قصة «رجل في الخمسين» من عمره كما يبدو من العنوان - غادر الجزائر في اتجاه مدينة مرسيليا الفرنسية للبحث عن «أميرة أنوار» التي عرفها قبل أن يعود إلى الجزائر لمحاربة الفكر الظلامي المتطرّف. وينتقل الراوي بالقارئ، ومن غرفته بالسفينة إلى أجواء الخيبة والبحث الدؤوب عن الذات الضائعة وعن المعنى وعن مخرج بواسطة الرحلة نحو الهناك، على متن سفينة «طارق بن زياد» بحثا عن السعادة، عن «نور» التي غادرت حياته دون رجعة»، وقد يكون ذلك الهناك في رواية «رجل في الخمسين»، منقذا له من إكراهات الحياة اليومية، فيعيد زيارة التاريخ والذاكرة.. التاريخ الشخصي والوطني معا، من خلال التأمل الباطني والعميق في ذاكرته الجريحة. ولا يتوقف الراوي عن حكاية أفراحه وأحزانه فحسب، بل ينقل جميع التحولات الصعبة والمربكة التي مر بها الوطن؛ فالرواية هي سيرة حياة لصحافي يشتغل في الحقل الثقافي يعيش حالة الإخفاق والخيبة مما يجعله يعود إلى حيث كان.. وتعلم هذه الرحلة المتجدّدة عن استحالة العيش في بلد يعرف البؤس في كل تفاصيل الحياة؛ فإبحاره على متن سفينة (طارق ابن زياد) والعودة حيث كان، يحمل دلالة التخلي، وبالتالي الهجرة، فتخليه عن حبيبته وعن مقاعد الدراسة آنذاك لأجل مشاركة مواطنيه في النضال خلال فترة الانفلات الأمني، وتصاعد الأعمال الإرهابية، كانت عبارة عن رعونة وتهور، وهي تجربة غير مجدية. وفي قالب قصصي مثير لذكاء القارئ، يحكي إبراهيم الذي كان وحيدا في غرفته طوال الرحلة تفاصيل حياته، طفولته وشبابه ومختلف المراحل التي مرّ بها وكل ما تركته تلك التجارب من آثار في نفسيته، وهو يقوم بذلك كأنه يقوم بعملية تطهير لذاته.. تلك التعاسة التي حفرت في وجدانه جراحا واسعة، وينظف روحه من ذلك البؤس الذي هيمن عليه في الأيام التي قضاها في بلده الجريح.. لقد عانى كثيرا وهو يعيش متخفيا في أحد الفنادق الذي خصص للصحافيين لحمايتهم من القتل والتنكيل، فعاش تجربة زواج فاشلة مع أنثى انتقلت إلى الفكر المتطرف والمتشدد. كما تنقل الرواية مجموعة من المواضيع المثيرة للجدل، وهي تتعلق بالتاريخ والسياسة والثقافة والهوية: أي حقيقة خطبة طارق ابن زياد ( فاتح الأندلس ) باللغة العربية الفصيحة وهو من أصل بربري، كما تعرّض لتاريخ الأتراك في الجزائر وما قاموا من أعمال شنيعة في حق الجزائريين، وتطرّق إلى الموقف من الأقدام السوداء (جون سيناك وألبير كامو) وغير ذلك من الموضوعات التي نقلت أجواء الرواية من السيرة الذاتية إلى المطارحات الفكرية العميقة. فالرواية، ورغما عن صغر حجمها، غنية بالدلالات والمواقف الذاتية والموضوعية ترسم حالة من حالات الضياع التي يعاني منها بعض المثقفين بالجزائر. للدراسة مراجع