«مكانة الشّعر الملحون في الثقافة الوطنية الجزائريّة»..هو عنوان المداخلة التي ألقاها البروفيسور عبد الحميد بورايو خلال اليوم الدراسي التكريمي للشاعر عبد الله بن كريو، الذي أقيم في المكتبة الوطنية، بتنظيم من بيت الشعر الجزائري. وعاد بورايو في مداخلته إلى التمييز بين مصطلحي «الشعر الشعبي» و»الملحون»، وروّاد هذا الشعر وأعلامه بتبيان الأزمنة والأمكنة، وكذا جامعيه ودارسيه، مؤكّدا على أهمية جمع الموادّ الشعرية وتسجيلها. تحت العنوان الفرعي «البدايات والتسميات والروّاد الأعلام»، قال بورايو إنّ عنوان مداخلته المقترحة في المناسبة المذكورة كان قد استعمل مصطلح «الشعر الملحون».. شعر شعبي..أم ملحون؟ لكنه أضاف: «غير أنّ صديقي عاشور فنّي فضّل استعمال مصطلح الشعر الشعبيّ، لما يثيره المصطلح الأول من مشاكل»، يقول بورايو، مذكّرا بأنّه قرّر، منذ زمن طويل، أن يميّز بينهما؛ وذلك «لوجود فرق واضح بينهما فيما أعتقد، يتمثّل في كون مصطلح «الشعبي» يُطلق عادة على الشعر الجمعي المجهول المؤلف (شعر المناسبات الاجتماعيّة)، بينما الملحون يصلح لأن يُطلق على الشعر الفردي (الغنائي) المنطوق باللغة الدارجة. لن أتطرّق لمناقشة هذه المسألة، بل سأنتقل إلى الحديث عن طبيعة هذا الشعر وتاريخه وأهمّ فترات ازدهاره»، يخلص بورايو. واعتبر صاحب المداخلة أنّ الإنتاج الثقافي للمجتمع الجزائري عرف، عبر قرون خلتْ، حركة شعريّة قويّة اتخذت من لغة الحياة اليوميّة وسيلة للتعبير، أجمع الدارسون والشعراء والهواة على تسمية إنتاجها بالشعر الملحون، وهي تسمية تمييزيّة ارتبطت بالشعر الفرديّ في البلاد المغاربيّة، نظرا لارتباطه بالغناء والتلحين. ومرّت هذه الحركة الشعريّة في الجزائر بفترات ازدهار، ظهر فيها شعراء أفذاذ انتشرت أشعارهم في رقعة جغرافيّة واسعة، ومن بين هؤلاء شعراء حاضرة تلمسان في القرنين 17 و18، وشعراء منطقة الهضاب العليا والأطلس الصحراوي في القرنين التاسع عشر والعشرين مثل شعراء ذوي منيع (العبادلة - بشّار) في أقصى الغرب الجزائري، وشعراء معسكر، وغليزان، والشلف، وشعراء بسكرة، وكذلك شعراء الجلفةوالأغواط ومتليلي وتبسة ووادي سوف (...إلخ)، ونالت إنتاجات هؤلاء الشعراء حظوة لدى المغنّين، فخلّدوا نماذج منها عن طريق اللحن والموسيقى والصوت الغنائي. ويشير بورايو إلى أنّ من خصائص هذه الحركة الشعريّة أنها نخبويّة، «نُطْلِق عليها أحيانا صفة الشعبيّة بالنظر إلى استعمالها للغة الحياة اليوميّة، ولِسعَة انتشار إنتاجها بين الجماعة، لكنها في الحقيقة مختلفة تماما عن الشعر الجمعي ذي الطبيعة الفولكلوريّة، والذي تنطبق عليه أكثر الصفة الشعبيّة نظرا لتعبيره الجمعي المجهول المؤلف»، يقول بورايو، «إنّها من نوع الشعر الفردي الذي يتمتع بتقاليد فنّيّة وببناء معيّن للقصيدة، وإيقاعات وأوزان وطرق في النظم يمكن رصدها وتقعيدها. يخضع تقريبا لجميع مواصفات الشعر النخبويّ الرسميّ المدوّن، تمّ تداوله شفويّا، لكننا كثيرا ما نعثر عليه مدونا في كنانيش وكراريس ومخطوطات. معظم منتجيه ذوي ثقافة تقليدية تلقّوها في الزوايا والمؤسسات التعليميّة التقليديّة، لهذا الشعر لغته الخاصّة ذات الطبيعة الأدبية المتميّزة عن لغة الحياة اليوميّة. صحيح أنّه يستقي معجمه من هذه الأخيرة، غير أنّه يضعها في سياقات تعبيريّة أدبيّة تعتمد على الاستعارة والمجاز والتصوير الرمزي، ولها معجمها الخاصّ الواصف لها. يستند إلى احتراف مجموعة من الأفراد قد تتّسع أو تضيق للإبداع الشّعريّ، بحيث يتمّ على مرّ التّاريخ بناء تقاليد متينة. يتميّز بطغيان الرّوح الفرديّة والتّعبير عن ذات الشّاعر والغنائيّة، والثّبات النّسبي للقواعد الفنّية، والحرص على المحافظة على ما ينتجه الشّاعر، بحيث يصبح أدنى تغيير مدعاة للانتقاد والاستهجان ليس فقط من طرف الشّاعر نفسه بل من طرف متداولي شعره ورواته». ومن بين هؤلاء الشّعراء، الذين يأتون في صدارة الحركة الشعرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في مناطق الهضاب العليا والصحراء، يخص بورايو بالذكر شاعر الأغواط «عبد الله بن كرّيو»، الذي حلّت هذه السنة ذكرى مرور قرن على وفاته. و»تمثّل موضوعة (ثيمة) الحبّ المدخل الأساسي لإنتاج هذا الشاعر الفذّ، هكذا يكون عبد الله بن كرّيو قد ولج للشعر من بابه الواسع عملا بقول ذي الرمّة شاعر الحبّ والصحراء في القرون الإسلاميّة الأولى، في مقولته المشهورة والْمُتَنَاقَلَة في كتب نقد الشعر: «الحبّ هو مفتاح الشعر»، يقول بورايو، قبل أن يتساءل: «هل يمكن الكلام عن بدايات لهذا الشعر؟». ويجيب قائلا: «سبق لي أن طرحت هذا السؤال في مقال سابق وأجبتُ عنه بالنفي؛ يدلّ على ذلك شعر سيدي لخضر بن خلوف الذي عبّر عن مرحلة نضج واكتمال. يقول عن صناعة الشعر: قَدْرْ النَّحْلَة اللِّي تْسَدِّي تَبْنِي شَهْدَة فُوقْ شَهْدَا الْغْزَلْ فِي خَشْبُه مْسَدِّي وَالْمَنْسُوجْ قْمِيصْ وَرْدَا الشِّعْرْ سَلْكْ حْرِيرْ بِيدِي مَا حَمْلَتْ بَضْنَاهْ دُودَا وهي لازمة كثيرا ما كرّرها المدّاحون في الأسواق، وتعاملوا معها باعتبارها فاتحة لحلقات رواية الأشعار والسرود، وهي بقدر ما تدل على نضج فكرة الشعر وقيمته الفنّيّة، بقدر ما تبعدنا عن اعتبار مثل هذا الشعر كونه في مرحلة البداية». وحسب الباحث الجامعي، فإن سؤال البداية يبقى إذن قائما، غير أنّ الإجابة عنه تظلّ معلّقة إلى أن تتوفّر الموادّ الكفيلة بدعم الطروحات المختلفة، التي لها علاقة بتاريخ استعمال اللغة العربية في المجتمع المغاربي، وخلفياته المتعلقة بالهجرات وتطور اللهجات وطبيعة التواصل السكاني والثقافي ما بين المنطقة المغاربية والمنطقة المشرقيّة من البلاد العربيّة. وإذا ما تجاوزنا مسألة البدايات اعترضتنا قضايا مختلفة تتعلّق بتطور هذا الشعر وبمدارسه، وبفترات ازدهاره وأزمنة خفوت صوته وعلاقته بالشعر الأمازيغي. وهي قضايا بدورها صعبة التناول بسبب طبيعة القناة الشفويّة التي اعتمد عليها تناقل هذا الشعر بصفة أساسيّة، مما تسبّب في ضياع أغلبه، وما تمّ حفظه منه يعود فضله للرواة النقلة والْحُفّاظ، ولأهل الكنانيش والمخطوطات والمطبوعات الذين زوّدونا بنماذجه، يؤكّد بورايو. الشّعر الملحون تحت مجهر الدّارسين تحت عنوان فرعي ثانٍ «حاضر العناية بالشعر الملحون من قِبَلِ الدارسين»، اعتبر عبد الحميد بورايو أنّ من حسن الصدف أن لقي هذا الشعر عناية مخصوصة من قِبَل عدد من الأساتذة الجامعيّين من أبناء مختلف المناطق المتخصصين في الدراسات الأدبية، وعدد منهم «يتمتّع بتكوين متين في مجال دراسة الشعر». وتمكّن هؤلاء الدارسون بفضل قدراتهم المنهجيّة التحليلية من التأريخ لهذه الحركة الشعريّة، وتقديم أعلامها وتحليل إنتاجاتهم، من أمثال محمد الغوثي بخوشة وأحمد طاهر، ومحمد بلحلفاوي لمين دلاي وعمر الزرهوني ولحبيب حشلاف وبوعلام بسّايح وسهيل ديب (منطقة الغرب الجزائري) وأحمد لمين (سيدي خالد ببسكرة) وبركة بوشيبة وعبدالقادر بن سالم (العبادلة ببشار) وأحمد زغب (وادي سوف) وأحمد قنشوبة وعبدالقادر فيطس ولخضر لوصيف (الجلفة) وبشير بديار (الأغواط) والعربي دحو (الأوراس) وعلي بولنوار (بوسعادة)، وهم من الباحثين الجادّين الذين استطاعوا أن يرصدوا الحركة الشعريّة في مناطقهم، وأن يتعرّفوا على أعلامها وأن يضعوها في سياقها الثقافي والأدبي في إطار تطور الشعر الملحون الجزائري عامة، وذلك من خلال ما نشروه من بيبليوغرافيات وأنطولوجيات ودواوين وبحوث تاريخيّة ودراسات حول الشعراء الأعلام. ويضيف بورايو في مداخلته، أن ما يمكن استخلاصه من هذه الدراسات هو وضوح الرؤية في الدرس الأدبي، الذي لا يميّز بين ما سمي بالشعر الشعبي (أو الملحون) والشعر العربيّ الفصيح، من حيث الأداة المنهجية التحليليّة، وهو توجّه نابع من إدراك لأدبية وشعرية فنون التعبير مهما كانت سياقات استعمالاتها وارتباطها بلغة الحياة اليومية الشفويّة أو باللغة الرسمية النمطية المتداولة في الكتابات الشعرية. في مثل هذه الدراسات يحتلّ الشعر الشعبي (الملحون) مكانته من بين الموادّ الخاضعة للدرس الأدبي دون أن يُنظر إليه كما هو شائع بين أغلب الدارسين للأدب العربي على أنّه في مرتبة أدنى من الشعر الفصيح، وهو موقف نخبوي نابع من آراء مسبقة غير صحيحة، لا يقبلها المنطق السليم، فيُتعامل معه بموضوعيّة ووفق آليات منهجية تراعي طبيعة جمالياته الشعريّة التي لا تقل قيمتها عن مثيلتها في الشعر العربي المدون، مع مراعاة طبيعة القناة الشفوية التي تمثل الأداة الأساسيّة لنقل هذا الشعر، وكذلك الخصائص اللغويّة للّغة الدارجة في مراحلها التاريخيّة المختلفة. حاضر العناية بجمع ودراسة الشّعر الملحون وإبداعه هو العنوان الفرعي الثالث، الذي يقول بورايو تحته إنه يجدر التنبيه إلى تزايد العناية بالشعر الملحون الجزائري في الجامعة في العقود الأخيرة في أقسام اللغة العربيّة وآدابها، وإدراجه كمادة بحثية تعالجها مذكرات الليسانس والماستر والدكتوراه، وقد أُنجز عدد من هذه المذكرات ومن أطروحات الدكتوراه، غير أنّها ظلّت في أغلبها مخطوطة حبيسة أدراج المكتبات، ولم يعرف الطريق إلى النشر إلا القليل منها. ويمكن الإشارة هنا إلى أهمية جمع الموادّ الشعرية وتسجيلها، وتهيئتها في مدوّنات كثيرا ما تُلحَقُ بهذه المذكرات والرسائل. وهي في حاجة إلى أن تتم مُراجعتُها وتصنيفُها ونشرُها أو تهيئةُ موادّها وفق قاعدة بيانيّة تسمح بوضع أطلس للشعر الملحون الجزائري، ومثل هذا الأمر لن يتيسّر إلاّ بدعم من هيئة رسمية، أو بمبادرة جمعويّة. أمّا بخصوص الحركة الإبداعيّة؛ تجدر الإشارة إلى دور المهرجانات في الربع الثاني من القرن العشرين في تنشيط حركة الشعر الملحون وتأطيرها، وكان من بين أهمها مهرجان تيسيمسيلت - على سبيل المثال - كما يمكن الإشارة أيضا إلى نشر عدد من دواوين شعراء الملحون المحدثين، من مناطق مختلفة مثل شعراء العبادلة ووادي سوف والجلفة وتيسيمسيلت، وهو شعر يتّبع في أغلبه النهج الموروث في نظم الشعر الملحون، ويُعدّ استمرارا له، وقد ظهرت محاولات للتجديد فيه من طرف عدد قليل من الشعراء، مثل شيخاوي (تيسيمسيلت) وحمداوي (خميس بني سنوس) وغيرهما. ويلاحظ بورايو أنّه، مع ظهور الوسائط الاجتماعيّة المعاصرة، ظهرت منتديات تعتني بالشعر الملحون الحديث، كما تمّ تسجيل عدد من الفيديوهات لحصص تلفزيونية قدّمت نماذج من شعراء الملحون من المناطق الداخليّة، وبالخصوص من الهضاب العليا (بسكرة، الجلفة، الأغواط، البيض، تيارت...)، كما ظهرت مواقع أنشأها عدد من شعراء الملحون نشرت عددا من القصائد، مثل شعر بلخيري محفوظ (من مسعد) والخثير بن السايح (من الأغواط) وعمر زيعر (من تيارت) وغيرهم. و»جميع هذه المنشورات الفايسبوكيّة تحتاج إلى معالجة من أجل ضمها في مدونة شاملة تتيح للمهتم والباحث الاطلاع على الإنتاج الإبداعي الشعري الوطني». ولم يغفل بورايو في نهاية مداخلته عن التنويه «الضروري» بما بذله أحد منظّمي اليوم الدراسي، عاشور فني، من جهد لتقديم صورة عن وضعية هذا الشعر في مختلف مناطق الجزائر، من خلال مشروعه المتمثل في «أطلس الشعر الجزائري»، وهو المشروع الذي «لم يميّز بين الشعراء الجزائريين بمراعاة طبيعة الوسيط اللغوي المستعمل، وهي قيمة إيجابيّة نعتبرها إنجازا مهما في سبيل بناء ثقافة وطنية شاملة تعبّر عن المجتمع الجزائري وتلبّي احتياجاته».