تنامي السّخط الشّعبي والتّأزّم الاقتصادي والاجتماعي يودّع المغرب عاما صعبا، عانى فيه كثيرا بفعل الأزمات التي أغرقته في مصاعب اقتصادية ومعيشية لفّت حبل الفقر حول عنق مواطنيه، وحوّلت حياتهم إلى جحيم حقيقي، وبفعل فضائح التّجسّس والابتزاز وشراء الذّمم التي عرّته أمام العالم أجمع، وبيّنت مدى استهتاره بالقيم والمبادئ واستعداده للمتاجرة بها في سبيل تحقيق أهداف هي في الأصل غير مشروعة ولا تحقّ له، دون الحديث عن انكساراته الدبلوماسية وإخفاقاته السياسية التي جعلته ينزلق نحو مسار العزلة الدولية. لم يعرف المغرب عاما كئيبا مليئا بالتّحدّيات والنّكسات والخطايا مثل عام 2022 الذي استهلّه بسخط شعبي عارم بسبب ارتفاع الأسعار وتدهور المعيشة، وختمه بنفس السّخط الذي زادت حدّته بعد أن وجد المغاربة أنفسهم في مواجهة أزمة اقتصادية خانقة، باتت فيها لقمة العيش صعبة المنال، في وقت تعيش فيه الطبقة الحاكمة ودوائرها ممّن وضعوا أيديهم على مقدّرات البلاد، في برجهم العالي لا يبالون بصرخات الشعب لا بمطالبه المشروعة، ما خلق شرخا حقيقيا بين السلطة والرعية وأخذ ينذر بانفجار يهدّد استقرار البلاد وأمنه. تردّي معيشي واحتجاجات مع بداية السّنة المودّعة، تفجّرت موجة احتجاجات ومظاهرات عارمة بالمملكة المغربية للمطالبة بكبح تدهور القدرة الشرائية وخفض الأسعار التي ارتفعت إلى عنان السماء، كما اهتزّت الشوارع عبر مختلف المدن للمطالبة بوقف القمع والانتهاكات الحقوقية التي زادت حدّتها وأصبحت واقعا مرّا يترصّد المعارضة والرأي المخالف في كلّ مكان. وتبقى أكبر احتجاجات شهدها المغرب في السنة المودّعة، هي تلك التي نظّمت في ذكرى 20 فبراير، واختيار هذا التاريخ للاحتجاج والتظاهر لم يكن صدفة بل على العكس تماما. ففي مثل هذا التاريخ من عام 2011 تشكّلت حركة "20 فبراير"، وبفضل تلك الحركة الشبابية التي انضمت إليها قوى سياسية وحقوقية، خرج عشرات الآلاف من المغاربة، يوم 20 فيفري 2011 في مظاهرات بعدد من المدن للمطالبة بدستور جديد، وبحل الحكومة والبرلمان، وإقرار قضاء مستقل ونزيه، ومحاكمة الضّالعين في قضايا فساد واستغلال نفوذ ونهب ثروات المملكة. وقد استطاع الملك المغربي آنذاك امتصاص غضب الشارع المنتفض بوعود إصلاحية، لم تحقّق في واقع الأمر أيّا من تطلّعات الشعب، إذ مازالت الحكومة غير مبالية بالتدهور الاجتماعي، واستقلال القضاء ونزاهة العدالة ما زالا في خبر كان، أما الفساد فقد واصل تغلغله في مفاصل الدولة والمجتمع، وهذا الوضع الكئيب هو الذي يقف وراء الاحتجاجات المتواصلة التي عجز المخزن بمقاربته الأمنية عن وقفها، فكانت سنة 2022 بالفعل هي سنة الغضب الشعبي الذي ترافق مع استفحال البؤس الاجتماعي بسبب اتّساع رقعة البطالة وزيادة الغلاء، فضلا عن العوامل الطبيعية كالجفاف. الاحتجاجات التي تفجّرت في فيفري الماضي لم تتوقّف حتى آخر أيام السنة المودّعة، ففي نوفمبر الماضي شهدت المملكة وقفات احتجاجية عديدة مندّدة بحكومة عزيز أخنوش وبمشروع قانون مالية 2023، وما تضمّنه من إجراءات ضريبية وتجاهل للظروف المزرية التي يعيشها المواطن. وقبل أيام عمّت المظاهرات مختلف المدن المغربية ضد ارتفاع تكلفة المعيشة وغلاء الأسعار، ورفع المحتجّون شعارات مندّدة بتدهور وضعهم، وداعية إلى تحسين قدرتهم الشّرائية. غضب ضدّ التّطبيع والتّراجع الحقوقي لكن المثير للاهتمام أنّ الاحتجاجات المغربية حملت أكثر من رسالة، فهي وإن كانت مدفوعة بالرغبة في تحسين الوضع المعيشي، فقد كانت مدفوعة أيضا برفض التطبيع والإصرار على وقفه، وأيضا بالتنديد بالقمع والانتهاكات التي تمارسها السلطات، ففي 24 ديسمبر الجاري، انتفضت أكثر من 35 مدينة مغربية، ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، وذلك ضمن فعاليات اليوم الاحتجاجي الثامن الذي دعت إليه الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع، بمناسبة الذكرى السنوية الثانية لاتفاقية التطبيع المشؤوم. وبالمناسبة، ندّد المحتجّون بخيانة المخزن للقضية الفلسطينية، وأكّدوا بأنّ التطبيع "وصمة عار في جبين النظام الغربي". إلى جانب ذلك، ندّد المشاركون في المظاهرات "بكل أشكال التضييق على حرية التعبير، وبالتراجعات الحقوقية في 2022"، وطالبوا بالإفراج عن المناضلين والمدونين والصحافيين في السجون. ولم يسلم نظام المخزن من انتقادات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية بسبب انتهاكاته التي تزايدت بشكل رهيب، فقد أكّدت العديد من المنظمات على غرار "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان"، بأنّ "انتهاكات حقوق الإنسان تضاعفت بالمغرب كمّا ونوعا،" وأبرزت بأنّ "المؤسسة القضائية بالمملكة، التي يفترض أن تحمي المواطن، أصبحت في خدمة الدولة وخدمة انتهاكات حقوق الإنسان". مذبحة مليلية بالرّغم من سجلّه الحقوقي الأسود، فلم يكن أحد يتصوّر بأنّ المخزن قادر على ارتكاب جريمة بفظاعة مذبحة مليلية التي حصدت الصيف الماضي أرواح عشرات المهاجرين الأفارقة، الذين ساقتهم الأقدار إلى مصيرهم المشؤوم أمام السياج الحدودي بين الناظور ومليلية الاسبانية. ففي ساعات الفجر من يوم 24 جوان الماضي، تدفّقت مجموعة من المهاجرين الأفارقة نحو السياج الحدودي الذي يفصل المغرب عن جيب مليلية الإسباني في محاولة للانتقال إلى الضفة الشمالية، لكن مع وصولهم استقبلهم حرس الحدود المغربي بالرصاص والهراوات والضرب والسّحق والغاز المسيل للدموع، ما خلّف عشرات الضحايا والمصابين في صفوف الهاجرين البؤساء. ورغم أنّ الرواية الرسمية للمخزن حاولت تحميل المهاجرين المسؤولية، وأوردت بأنّهم من بادروا بالعنف وقذفوا حرس الحدود بالصخور، فإن التحقيقات المستقلة والفيديوهات، بيّنت كيف أن الحرس المغربي هو من بدأ بمهاجمة المهاجرين، وإلقاء الحجارة، وإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي فسقط الكثير من الشباب الإفريقي وعلق داخل الساحة المسيّجة، ما سهّل مهمة قوات المخزن في ضربهم وسحقهم، وإبقائهم مكدّسين لساعات طويلة ينزفون دما ويتألمون بدون رعاية طبية. وفي السياق، كشفت جوديث سندرلاند، نائبة مدير أوروبا وآسيا الوسطى في "هيومن رايتس ووتش"، بأن الفيديوهات والصور أظهرت جثثا متناثرة على الأرض في برك من الدماء، وقوات الأمن المغربية ترفس وتضرب الناس، وقالت "ينبغي إدانة هذا العنف وضمان إجراء تحقيقات فعالة ونزيهة لتحقيق العدالة لمن فقدوا أرواحهم"، ولم تستبعد "هيومن رايتس ووتش" إمكانية وجود مقابر جماعية للتستّر على عدد الضحايا. وإذا كانت هذه المأساة تعكس بما لا يدع مجالا للشكّ، أن المغرب هو من أخطر مسالك الهجرة في العالم، وبأن سياسة الهجرة التي يطبّقها المخزن إجرامية، فالمفارقة العجيبة التي نقف عندها، أنه رغم الإدانات الحقوقية والأدلة التي تدين المغرب، فإن الدعوات للتحقيق والمحاسبة مازالت بعيدة عن التنفيذ، ما يؤكّد وجود جهات تتواطأ وتتستّر على انتهاكات المخزن، وهي بكل تأكيد، إما الجهات التي يبتزّها عبر جوسسته عليها، أو تلك التي اشتراها بأمواله ورشاويه. جوسسة وشراء ذمم لأنّ المصائب لا تأتي فرادى، فإن المغرب لم يواجه في 2022 تنامي السخط الشعبي والتأزّم الاقتصادي والاجتماعي فقط، بل لقد حاصرته الفضائح من كلّ جهة، فبعد فضيحة "بيغاسوس" التي ما زالت تكشف كل يوم عن حجم التورّط المغربي في التجسّس الذي طال حتى الرؤساء بقصد ابتزازهم ومساومتهم، يواجه نظام المخزن مشكلة جديدة في أعقاب تورط استخباراته في الرشاوي المقدمة الى برلمانيين أوروبيين لشراء ذممهم قصد التأثير على قرارات تخص مصالحه، خاصة ما تعلّق بقضية الصحراء الغربية. وبعد التحقيق الذي أجراه مكتب المدعي الفيدرالي البلجيكي مؤخرا، تأكّد تورّط 15 نائبا أوروبيا في القضية، واعترف بعضهم بأنهم كانوا طرفا ضمن منظمة تستعملها المخابرات بالرباط، ومن بين الشخصيات التي تبث تورّطها، النائب السابق في البرلمان الأوروبي الإيطالي "بيير أنتونيو يانزيري"، الذي ألقي عليه القبض وفي حوزته مئات الآلاف من اليورو. وكان هذا النائب السّابق، عبر نفوذه ومعارفه، يتدخل لتجنيب المغرب انتقادات، ويصف القضاء "يانزيري" بالعقل المدبر لشبكة الفساد الإداري التي عملت لصالح المغربمقابل المال طبعا. وضمن هذه الفضيحة القاتلة، تردّد اسم رئيس الحكومة المغربية، عزيز أخنوش، حيث كشف النائب الفرنسي السابق في البرلمان الأوروبي، "جوزي بوفي" بأنّ أخنوش وعندما كان وزيرا للفلاحة، عرض عليه رشوة في إطار اتفاقية التبادل الحر حول الخضر والفواكه بين الاتحاد الاوروبي والمغرب. وهذه هي المرة الثانية في ظرف سنة ونصف، التي تواجه فيها الاستخبارات المغربية مشاكل مع الاتحاد الأوروبي، حيث انفجر النزاع الأول بعد اتهام المخزن باستعمال برنامج "بيغاسوس" الصهيوني للتجسس على مسؤولين أوروبيين ومنهم قادة دول، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أخذ موقفا حازما بمقاطعة المغرب، كما تجسّس المغرب على رئيس الوزراء الاسباني بيدرو سانشيز من خلال اختراق هاتفه، واستعمل المعلومات التي حصل عليها لابتزازه ومساومته، وهو ما يفسّر الموقف الشاذ الذي اتخذه سانشيز بخصوص قضية الصحراء الغربية. معلوم أنّ المغرب اتّهم في صيف 2021 باستعمال البرنامج الذي صمّمته شركة "ان. اس. أو" الصهيونية، وذلك بعد تحريات مكثّفة أجرتها هيئة مشكلة من 17 وسيلة إعلامية دولية على أساس البيانات التي حصلت عليها منظمة "فوربيدن ستوريز" ومنظمة العفو الدولية. إنتكاسات دبلوماسية السنة المنصرمة، كانت أيضا سنة الإخفاق الدبلوماسي بالنسبة للمغرب، الذي وجد نفسه في عزلة دولية بسبب الفضائح التي حاصرته من كلّ جهة، والتي أدّت إلى فقده ثقة كلّ الدول. كما عجز، برغم كلّ مناوراته ومحاولاته شراء الذمم، عن كسب ما يعتبرها معركة سيادته على الصحراء الغربية، فقد توالت انتكاسته مع توالي الاعترافات بالجمهورية العربية الصحراوية، وإقدام العديد من البلدان التي كانت قد وقعت في مصيدة أكاذيب وابتزاز المخزن، على مراجعة مواقفها، وسحب تأييدها لأطروحته الاستعمارية، والاصطفاف إلى جانب الحقّ والشرعية الدولية. لقد شهدت سنة 2022 اعترافات متزايدة بالجمهورية الصحراوية، فمن كولومبيا والبيرو، مرورا بكينيا، ووصولا إلى جمهورية جنوب السودان، توالت هذه الاعترافات وتجديد العلاقات. كما تحوّلت الدورة 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت منتصف سبتمبر الماضي، إلى جلسات محاكمة للاحتلال المغربي، ورفض لأيّ حلول يفصّلها على مقاسه خارج الشرعية. هزيمة المغرب في معركة السّيادة لم تكن إلا مقدّمة لهزائم قضائية متتالية، فبعد الأحكام القضائية الصادرة عن محكمة العدل الأوروبية، والتي أقرّت الحق الحصري للشعب الصحراوي في التصرف في ثرواته الطبيعية، أصدر مجلس الدولة الفرنسي، على ضوء الإجراءات التي باشرها اتحاد الفلاحين الفرنسيين، قرارا يسمح بالتطبيق الفعّال لحكم محكمة العدل الأوروبية لعام 2016، الذي صنّف الصحراء الغربية والمغرب إقليمين منفصلين ومتمايزين، وأصرّ على أن الإتحاد الأوروبي لا يمكنه اعتماد "سلطة" المغرب في الإقليم، بالنظر إلى افتقاره إلى السيادة. وتبقى الضّربة القانونية التي قصمت ظهر الاحتلال المغربي، هي تلك التي وجّهتها له المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، من خلال حكمها القاضي بضرورة إيجاد حل دائم ينهي احتلال الصحراء الغربية. المجموعة الدّولية مع الشّرعية ورغم أنّ المغرب يخفي هزائمه الدبلوماسية وراء ما يعتبره النصر الذي حققه باعتراف ترامب بسيادته المزعومة على الإقليم الصحراوي، إلا أن الواقع يصدمه بحقائق تنافي اعتقاداته، فمنذ تولي جو بايدن رئاسة الولاياتالمتحدة، لم يتم إجراء أي اتصال بين البيت الأبيض والسلطات المغربية بخصوص تطبيق قرار ترامب الباطل، ما يعكس بوضوح أن إدارة بايدن تتجاهل تمام الجهل قرار الرئيس الأمريكي السابق، وهي لم تفتح قنصلية في الأراضي الصحراوية المحتلة كما كان مقرّرا، وأحجمت عن دعم الاحتلال المغربي في مشاريعه التوسعية بالصحراء الغربية، حيث أصدر الكونغرس الأمريكي ضمن ميزانية الدفاع، قرارا يمنع أي تمويل وأي تعاون عسكري مع الرباط قبل التزامها بحل نزاع الصحراء الغربية، ومنع بيعها بعض أنواع الأسلحة. فرنسا هي الأخرى التي ظلّت تدعم وتحمي النظام المغربي، صدمت مؤخرا المخزن بموقفها تجاه القضية الصحراوية، حيث قالت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية، أنييس فون دير مولأن بلادها "تؤيد حلا سياسيا عادلا ودائما ومقبولا من الطرفين". كما جدّدت ألمانيا تأييدها للمسار الأممي من أجل التوصل لحل سياسي "واقعي" و«مستدام" لملف الصحراء الغربية. من جهته شدّد الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، على ضرورة التشاور مع الشعب الصحراوي في أي حل للنزاع، وهو ما أقلق المغرب وجعله يلغي اجتماعا كان مقررا مع الدبلوماسي الأوروبي في سبتمبر الماضي. كما اصطدم المغرب بتولي جورجيا ميلوني، زعيمة حزب "فراتيلي ديتاليا" اليميني، رئاسة الوزراء الايطالية، على اعتبار أنّها أبدت دوما دعمها لحق الشعب الصحراوي في الحرية والاستقلال.