التقيت بكريم قبل شهر وأكثر وقد تعمدت في هذا اللقاء أن أسأله في كل يوم فقط سؤال أو سؤالين فهو في أيامه الأخيرة قبل الحرية ولا أريد ان أثقل عليه. وأستطيع الآن قبل يومين من الإفراج عنه أن ألخص انطباعاتي عن شخصية تلخص الحكاية الفلسطينية بكل تفاصيلها. كريم يونس الإنسان قبل المناضل والقائد المتوازن كما هو المفكر والمحلل السياسي، كما هو الطفل الخجول، كريم يونس الذي سيعانق أرض عارة بعد أربعين عاما على فراقها بدأ ينظر للحياة بألوانها الزاهية بعد أن غاب عنه بريقها طوال هذه السنوات. كان سؤالي الأول لكريم كيف هي مشاعرك؟ توقف ونظر إلي ثم شهق شهقة تحدث عن ما فيها من جروح فقال: «بتعرف مش عارف هو أنا لم يبق لدي مشاعر أم أن الأمر تداخل علي فعلا أنا مش عارف شو مشاعري وبصراحة بعدني ما فكرت بشيء محدد باشعر إن العاطفة عندي تجمدت بعد أربعين سنة». تدخلت بسؤال آخر وكيف تمر الأيام عليك هل هي ثقيلة؟ فقال:»بدك الصراحة بعدني شايف الأمر عادي يعني ما بفكر كثير في الأمر». تركت كريم لأيام وأنا أراقبه يخرج صباحا لساعة الرياضة ويتمشى بالساحة في ساعة الظهيرة وكذلك له ساعة مسائية كل يوم وأنا أتابعه عن بعد. يوم السبت الأخير جلست بالقرب منه وسألته إن كان بخير فضحك وهز برأسه فقلت له أنت الآن بالآواخر، والآواخر في لغة السجن تعني آخر سبت، آخر حلقة وآخر أكلة مقلوبة وآخر أكلة مجدرة سألته عن الاستقبال فقال:»أنا أبلغتهم بديش يصير إشي بالاستقبال وأنا مش معني بأكثر من سيارة أو سيارتين حد أقصى للاستقبال، إنت بتعرف الوضع السياسي والحكومة الجديدة بالكيان الصيهوني وبدناش يحصل أي مشاكل تعطل أو تأخر الإفراج». تحدث معي كريم كطفل بكامل أناقته وبرائته تحدث عن أفواج الزائرين لبيته وأنه محرج جدا من هذا الالتفاف الكبير حتى أنه يخجل من التحدث معهم فهو كما يقول: «مش شاطر كثير بالعلاقات الاجتماعية» ولا يعلم بعد كيف سيبدأ من جديد بعد أربعين سنة، حتى الإعلام فهو يرى بأن الإعلام يسلط الضوء بشكل كبير عليه حتى قبل الإفراج عنه. استفزني تواضعه فقلت له إنهم تأخروا كثيرا أربعون عاما قضيتها لكي يعيش شعبنا بحرية. كريم يونس... الرجل العنيد الذي استدعاه ضابط الشاباك قبل أيام ليخيفه فرد عليه بكبرياء الفلسطيني الشامخ قائلا له: «أنت ودولتك الفاشيين أنتم دولة إرهاب وعنصرية وأنت لا تمن علي بالإفراج بعد أربعين عاما حكومتك الجديدة فيها ثلاث شخصيات إرهابية أدينوا بقتل فلسطينيين ولم يمضوا بالسجن أكثر من ثلاثة أعوام وهم الآن من أكثر الشخصيات المؤثرة في ائتلافكم الحكومي. بعد أيام تحدثنا عن الأحوال السياسية وأوضاعنا الداخلية فطلبت من كريم أن يعبر عمّا يجول بخاطر كل أسير وأن لا يجامل الفصائل أو القيادة فلم يبقى أي مجال للمجاملات، حتى سألته أن لا يشكر أحد فالجميع قصر معه ومع الأسرى حتى هذه فقد رفضها كريم وقال أنه لا يستطيع إلا أن يشكر من يقيم له احتفال أو يقدم له درع أو يقول بحقه كلمة خير، فهو يرى أن من واجبه كواجهة للأسرى أن يمثلهم بأفضل شكل. اليوم الإثنين اتفقنا انا وباسم خندقجي على زيارة كريم زيارة الوداع جلسنا وتحدثنا مطولا حول أوضاعنا السياسية وإجراءات حكومة الاحتلال وأهمية ان يكون لدينا استراتيجيات مختلفة فالكيان الصهيوني لا يقيم أي اعتبار لأي قرارات أممية أو دولية وهذا لا يعنيها بشيء . وقبل أن ننهي حوارنا قال كريم بعض كلامات زلزلت كياني رأسا على عقب، قال كريم يونس:» أنا أعلم بأن رائحة السجن سترافقني طوال حياتي حتى لو خلعت جلدي فأنا لن أستطيع ذلك فكل شيء في يفوح منه السجن، السجن يسكن في كل جوارحي وسيرافقني حتى أيامي الأخيرة، كذلك أنا لن أجامل أحد في موضوع الأسرى».. ..هذا هو الكريم الذي حاولت دولة الكيان قتل روحه فخرج بروح تفوح منها رائحة الكرامة خرج منها بوطنية جامعة تتعدى حدود الوطن ليحمل هم أهله في الشتات خرج منها معتذرا لإخوانه على تحرره على الرغم من أنهم وأنا منهم لم نكن قد خلقنا عند اعتقاله وهو يعتذر منا الآن، نحن وفلسطين نعتذر منك أيها الكريم على هذا الكرم بالعمر والتضحيات والأخلاق والمُثل التي ستبقى تدرس سنوات طويلة. كتبت في معتقل هداريم