التقيتُ أواخر شتاء 1987 في ساحة سجن نابلس القديم أسيراً في أواسط الستينات من العمر، يسير بتثاقل وبحركة جسد متعب بسبب مرض هاجمه في السنة الأخيرة من اعتقاله، وقد حافظ الصلب على كرامة مرتفعة وقامة عالية تليق بمناضل فذّ. خلال تعارف سريع مع الرفيق محمد يونس (أبو بهيج) اكتشفتُ أنه الشقيق الأكبر لزميل دراستي في جامعة بغداد عزام يونس نهاية السبعينات؛ وقد لَمَعَ عزام في مسيرته المهنية كمحرر بارع في صحف كويتية وأردنية، وتسلم فيها مناصب رفيعة. غاب الزميل عزام، للأسف، عن المهنة منذ أواسط نيسان 2017، عندما رحل في ذروة إنتاجه الصحفي، وعطائه النقابي الوطني، وقبل تجاوزه الستين من العمر..لا أحد يمتلك حق الاعتراض على قدر الغياب وإن امتلأ بالحزن. قرأ (أبو بهيج) على حواسي في ساحة سجن نابلس المركزي بعض الرسائل التي تبادلها مع نجله البكر الذي كان معتقلا في سجون النمسا. طوى الأسير رسائل الأسير وهمس لي: «أنا معتقل منذ خمس سنوات بنفس فترة اعتقال رفاقي كريم وماهر وسامي يونس المحتجزين في سجن نفحة الصحراوي جنوبفلسطينالمحتلة، واقترب حكمي بالسجن الفعلي على الانتهاء منتصف كانون ثاني المقبل».نهاية الأسبوع الثاني للعام الجديد 1988 ودّع الأسرى رفيقهم المناضل (أبو بهيج).. ولا أعرف كيف تدبر أمر نزول الأمتار العشرة الحادة من باب سجن بريطاني قديم، أقيم في كعب صخري أسفل سفح جبل جرزيم بمدينة نابلس، نحو رصيف الشارع الرئيس. للأسف، لم ينم (أبو بهيج) سوى ليلتين في بيته، ولم يتسنى للأسير المحرر استقبال المهنئين، وغاب المناضل أواخر نيسان 1988 قبل أن يتجاوز الخامسة والستين من عمره؛ وقضى معظم الأيام في غيبوبة وعلى سرير الشفاء. رحل محمد يونس تاركاً نجله بهيج في سجون النمسا، حمزة يونس في المنفى، ورفاقه ماهر وكريم وسامي يونس في سجون الاحتلال: تحرّر بهيج من سجنه النمساوي أواسط التسعينات، وتحرّر سامي في صفقة تبادل أسرى (وفاء الأحرار) أواسط تشرين أول 2011 ورحل، للأسف، أواسط حزيران 2015، واستقر حمزة في المنفى السويدي، وتحرّر كريم في الأسبوع الأول من العام الجديد 2023 ويفصلنا ساعات قليلة عن تحرر ماهر. روايات كفاح شباب عائلة يونس منذ ثورة 1936 تحتاج فيلماً وثائقياً وألف صفحة في كتاب.. كيف نشأ ماهر يونس وقايض عمره بكرامة شعبه؟ ماذا عن السنوات الطويلة القاسية في سجون الاحتلال؟ كيف كابد ماهر مرارة العزل بكبرياء وقبض بصمت على الجمر؟ وتمكن من الانتصار بعد أربعين سنة على الاعتقال. ولد ماهر عبد اللطيف يونس سنة 1958 لعائلة ذات نفوذ وأملاك وأراضٍ في بلدة عارة المجاورة لمدينة أم الفحم؛ في منطقة المثلث الفلسطيني المحتل خلال نكبة فلسطين أواسط أيار 1948: يتشكل المثلث الفلسطيني الشمالي والجنوبي من ست مدن و22 قرية يعيش فيها الآن نحو ربع مليون فلسطيني محاصرين برقعة واسعة من المستوطنات. وقعتْ منطقة المثلث في قبضة الاحتلال عقب اتفاق رودس (اليونان) بين الكيان المغتصب والأردن مطلع نيسان 1949؛ نالتْ بموجبه كيان الاحتلال وادي عارة وقرى المثلث مقابل التلال الجنوبية في الخليل! استشهد شريف يونس، عم ماهر، في حيفا برصاص الاحتلال الانجليزي بذريعة مناصرة ثورة عز الدين القسام التي اندلعت أواسط ثلاثينيات القرن الماضي ضد احتلال بريطاني ساند الهجرات اليهودية إلى فلسطين، فيما أقدم الاحتلال الصهيوني سنة 1950 على ابعاد جد ماهر، لأمه، سليمان سعيد يونس (أبو بديع) إلى الضفة الغربية، وأستقر مع معظم أفراد أسرته بداية في قرية رمانة قرب جنين، ثم تابع هجرته القسرية إلى مدينة نابلس. ظلتْ وداد سليمان يونس، والدة ماهر، في بيتها مع زوجها وأفراد أسرتها في عارة، وعاشت بعيداً عن والدها ووالدتها وأشقائها وشقيقاتها في نابلس؛ وقد كانت المدينة تحت الحكم الأردني. أقدم الكيان المغتصب مطلع حزيران 1967 على احتلال ما تبقى من فلسطينالضفة الغربية (تحت السيطرة الأردنية) وقطاع غزة (تحت الإدارة المصرية) والتقتْ وداد (أم نادر) بوالدها ووالدتها وأشقائها بعد 17 سنة من الابعاد القسري لأفراد أسرتها عن بلدتها عارة. أحتجز الاحتلال والد ماهر (أبو نادر) في السجون الصهيوني سنة 1965 ومكث في الاعتقال سبع سنوات بتهمة مناصرة المقاومة الفلسطينية، وتحرر من سجنه أثناء حرب تشرين أول 1973. واظبتْ (أم نادر) وأطفالها الصغار نادر، ماهر ونهاد على زيارة والدهم طوال فترة اعتقاله في سجني الرملة والدامون.. وعَلَقت هذه التجربة القاسية طويلا في ذاكرة الطفل ماهر، واحتفظ بأسرار معاناته جراء احتجاز والده طويلا خلف القضبان في سجون الاحتلال. أنهى ماهر دراسته الاعدادية في مدارس عارة، والتحق في المدرسة الثانوية الصناعية في الخضيرة؛ مستوطنة أقيمت سنة 1891 جنوب مدينة حيفا. اشتغل فترة قصيرة في مجال تخصّصه المهني الحدادة قبل اعتقاله أواسط كانون ثاني 1983 بتهمة الانتماء والمقاومة، وأصدرتْ محكمة اللد العسكرية حكماً باعدام ماهر ورفيقيه كريم وسامي يونس، وارتدى بدلة الاعدام البرتقالية طوال تسعة أشهر، قبل قرار المحكمة العسكرية باستبدال الاعدام بالسجن المؤبد مدى الحياة. رفض الاحتلال الافراج عن ماهر في كل صفقات تبادل الأسرى، ورفض إلتماساً تقدم به سنة 2011 لرؤية والده على فراش الموت، وقد رحل دون وداع نجله الأسير، وغاب الوالد عن زيارات نجله قبل رحيله بسبب مرضه، وعدم قدرته على استيعاب مشاهدة نجله محتجزاً خلف زجاج الزيارة. حدد الاحتلال أواسط أيلول 2012 حكم المؤبد بالسجن الفعلي 40 سنة بحق ماهر، وقد خاض أواخر شباط 2013 اضراباً عن الطعام لمدة عشرة أيام احتجاجاً على معاناة الأسرى في السجون. أبرم الاحتلال والسلطة الفلسطينية اتفاقاً أواخر تموز 2013 يقضي باطلاق سراح 106 أسرى معتقلين قبل اتفاق أوسلو: 57 من الضفة، 26 من غزة، 14 من أراضي 48 و 9 من القدسالمحتلة. أقر الاتفاق الافراج عن الأسرى على أربع دفعات بواقع 26 أسيراً للدفعة الواحدة، وتحرر ثلاث دفعات قبل نهاية العام 2013، لكن الاحتلال لم يلتزم باطلاق سراح الدفعة الرابعة والأخيرة (27 أسيرا) بضمنهم الأسير ماهر يونس، وقد كانت مقرّرة صباح 28 آذار 2014. واصل ماهر مسيرته الكفاحية في سجون الاحتلال منذ أربعين عاماً، قابضًا على الجمر متماسكاً في درب الآلام؛ حاملا «صليبه» على ظهره و»أكليل الشوك» فوق جبينه العالي، صامداً تحت شمس حارقة في سجن النقب الصحراوي جنوبفلسطينالمحتلة، رافضاً التنازل عن مواقفه الصلبة بحرية الوطن والشعب، متمسكاً بعناده التاريخي في حق شعب فلسطين بالحرية، وحق اللاجئين في العودة إلى الوطن المحتل.. وقد حانت الآن لحظة الانتصار. الشمس لا تشرق إلا من الجنوب.. يا ماهر، وتزحف الآن برفقتك إلى عارة في شمال فلسطين.