القضاء على إرهابي وتوقيف 66 تاجر مخدرات    عطاف يستقبل رئيس مجلس العموم الكندي    الرئيس يستقبل أربعة سفراء جدد    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    شرفة يلتقي نظيره التونسي    عرقاب: نسعى إلى استغلال الأملاح..    هذه حصيلة 200 يوم من محرقة غزّة    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 34 ألفا و305 شهيدا    المولودية في النهائي    بطولة وطنية لنصف الماراطون    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    مهرجان الجزائر الأوّل للرياضات يبدأ اليوم    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي "علامة مرموقة في المشهد الثقافي"    جهود مميزة للجزائر لوضع القضية الفلسطينية في مكانها الصحيح    تمرين تكتيكي بالرمايات الحقيقية.. احترافية ودقة عالية    مسرحية "المتّهم"..أحسن عرض متكامل    إتلاف 186 كلغ من اللحوم البيضاء الفاسدة    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    ارتفاع رأسمال بورصة الجزائر إلى حدود 4 مليار دولار    قسنطينة: تدشين مصنع لقطع غيار السيارات ووحدة لإنتاج البطاريات    تفعيل التعاون الجزائري الموريتاني في مجال العمل والعلاقات المهنية    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    شبيبة سكيكدة تستعد لكتابة التاريخ أمام الزمالك المصري    الجزائر-تونس-ليبيا : التوقيع على اتفاقية إنشاء آلية تشاور لإدارة المياه الجوفية المشتركة    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي بالناحية العسكرية الثالثة    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    عائلة زروال بسدراتة تطالب بالتحقيق ومحاسبة المتسبب    29 جريا خلال 24 ساعة الأخيرة نتيجة للسرعة والتهور    عنابة: مفتشون من وزارة الري يتابعون وضع بالقطاع    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    إنجاز ملجأ لخياطة وتركيب شباك الصيادين    "عودة مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي تعكس الإرادة الجزائرية لبعث وتطوير السينما"    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    "العفو الدولية": إسرائيل ترتكب "جرائم حرب" في غزة بذخائر أمريكية    فتح صناديق كتب الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس الموقوفة على جامع الجزائر    إهمال الأولياء يفشل 90 بالمائة من الأبناء    نصف نهائي كأس الجمهورية: اتحاد الجزائر – شباب بلوزداد ( اليوم سا 21.00 )    وزير البريد في القمة الرقمية الإفريقية    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الجزائر تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    مباراة اتحاد الجزائر- نهضة بركان : قرار الكاف منتظر غدا الاربعاء كأقصى تقدير    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    سايحي يشرف على افتتاح اليوم التحسيسي والتوعوي    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جيل نوفمبر أعاد الجزائر إلى محفل الأمم..
نشر في الشعب يوم 18 - 03 - 2023

قادة الثورة.. ملهمون للأجيال التي تستكمل البناء الاقتصادي والتنموي
علينا قراءة التجربة الجزائرية بالخصوصيات الجزائرية
التاريخ أثبت أن الجزائر دولة محورية
جيل اليوم مطالب بالتجنّد ضد كل المناورات التي تستهدف الجزائر
يصف البروفيسور حسان مغدوري، 19 مارس 1962، بأنه محطة معلمية في تاريخ الجزائر، فصلت بين مرحلة مأساة وطنية عاشها الجزائريون تحت ضيم الاستعمار ابتداء من الغزو الأول في 1830، مرورا بالتضحيات في إطار سلسلة من المقاومة لاسيما في القرن ال19، ويبرز مغدوري في حوار ل«الشعب" بمناسبة الذكرى ال61 لعيد النصر، عبقرية قادة الثورة في توظيف كل طاقات الجزائريين لاسترداد السيادة الوطنية، وتوجه جيل اليوم بمسؤوليته في حماية هذا البلد كل في اختصاصه، وأن يكون في مستوى التحدّيات التي تواجهنا، ويتجنّد ضد كل المناورات التي تستهدف الجزائر.
الشعب: 19 مارس.. يوم يصطلح عليه ب«عيد النصر"، يؤرخ للاتفاق على وقف إطلاق النار بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وحكومة الاحتلال الفرنسي، ما هي الرسالة التي نستلهمها من هذه المحطة التاريخية ونبلغها للأجيال؟
البروفيسور حسان مغدوري: عيد النصر يمثل محطة معلمية في تاريخ الجزائر، لأنه يفصل بين مرحلتين.. مرحلة مأساة وطنية عاشها الجزائريون في كنف الاستعمار ابتداء من الغزو الأول في 1830، مرورا بالتضحيات التي عاناها الجزائريون في إطار سلسلة حركة المقاومة لاسيما في القرن ال19، وفي إطار ما قدّمته الحركة الوطنية من تضحيات، وأيضا في إطار الثورة التحريرية التي أسفرت إلى غاية ذلك اليوم عن استشهاد مليون ونصف المليون من الشهداء، هذا اليوم يعبّر عن حصيلة ثقيلة من التضحيات التي قدّمها الجزائريون في سبيل استرداد السيادة الوطنية.. هذه المحطة جاءت عقب سلسلة من المفاوضات وكانت عسيرة، لأن الجزائريين كانوا في ساحة المعركة واستنفذوا جهدا مضنيا، وقدموا تضحيات جسيمة وحصيلة هذه التضحيات أصبحت مثار خوف بالنسبة للمستقبل على اعتبار أنه كان يجب أن تتكلّل هذه التضحيات بالانتصار.
في هذا السياق، مثلما تعلمون أن شارل ديغول صرّح منذ أفريل 1956، بما يسمى بحق الشعوب في تقرير المصير، لكن المنطق الاستعماري آنذاك طرح فكرة تقرير المصير من أجل المناورة في استغلال الثغرات حينما يجلس المفاوض الجزائري من أجل التلاعب على بعض المبادئ الأساسية، ولاسيما وحدة التراب الوطني، ووحدة الجزائريين، وفيما يتعلق بالجانب الإجرائي الذي يسبق وقف إطلاق النار أو المفاوضات أو العكس، أيضا كان النقاش حول من يمثل هذا الشعب الجزائري، باعتبار أن المنطق الاستعماري أراد إنشاء قوى أخرى يحاول من خلالها اختراق التمثيل الجزائري من أجل تكريس الفُرقة مرّة أخرى.
هذه هي الصورة السياسية من خلال طرح فكرة حق الشعوب في تقرير المصير، المفاوضات انطلقت بصفة غير رسمية منذ 1956، ولم تأت بالنتائج إلا في مارس 1962، هذه الفترة الزمنية كلها كانت فترة مناورات على الصعيد السياسي بالنسبة لفرنسا دوما، استنادا إلى فكرة حق الشعوب في تقرير المصير.. ونشير إلى أن جبهة التحرير الوطني، عبر بيان نوفمبر 1954، تحدثت عن أن هذه الثورة التي تجنح إلى السلم، وأنها مستعدة للتفاوض من أجل حقن الدماء، فالبيان لم يستبعد هذا الخيار، وعبّر بكلمة: "وان فرنسا إذا كانت تحدوها النية".
فكرة المفاوضات وإيجاد حلول سلمية كان مطلب الثورة من حيث المبدأ، وأراد ديغول الاستثمار في هذا المطلب، ولكن بطريقة مناورة، فهو كان يريد في كل مرّة أن يخترق الصفّ الجزائري عبر المساومة على مبادئ أساسية تتعلّق بوحدة التراب الوطني والجزائريين، ووحدة التمثيل وفكرة هل هي سيادة أم استقلال ذاتي.. وبالموازاة، لم يدّخر ديغول أية وسيلة من أجل إجهاض الثورة الجزائرية، والدليل أن مرحلته التي انطلقت بعد الانقلاب الشهير في 13ماي 1958، إلى غاية 1962، كانت تعجّ بمختلف المشاريع الوحشية، وهذه الأخيرة كانت على مستويات سياسية فيما يعرف بسلم الشجعان، اقتصادية اجتماعية فيما يعرف بمشروع قسنطينة، وحربية عسكرية من خلال رفع تعداد الجنود الذي تجاوز تقريبا نصف مليون من العساكر الذين جندوا ابتداء من 1958، وزادوا باستمرار، إضافة إلى استخدام أسلحة محظورة دوليا، مثلما هو معروف النابلم، وتسييج الحدود بما يعرف بخطّي شال وموريس، إلى المناورات عبر التراب الجزائري التي انطلقت من الشرق إلى الغرب، وأيضا فنون سياسة التعذيب والمحتشدات وغيرها.. كانت سياسة ديغول، قد استنفذت كل الوسائل على الصعيد الحربي، الاقتصادي والسياسي، وأرادت من خلال الدخول في المفاوضات من أجل إيجاد ثغرات لدى الطرف الجزائري لإجهاض مشروع الثورة، هذه مجموع التحدّيات التي كانت مطروحة أمام الجزائريين.. لهذا، نعتبر أن الجزائريين كانوا في مستوى الحدث التاريخي، وتمكنوا من الكشف عن عبقرية فذّة حينما أرغم الطرف الفرنسي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات ثم إملاء شروط الجزائريين، والتي تكللت بوقف إطلاق النار في 19 مارس 1962، على الساعة الثانية عشرة، وهذا كان نصرا للجزائريين الذين استطاعوا فك شفرة هذا الاستعمار الذي دام 132سنة.حقّق الجزائريون الأهمّ في هاته المهمة، وهو استرجاع السيادة الجزائرية، والاعتراف الدولي بهذه السيادة، وحدة التراب الجزائري، وتمكن الطرف الجزائري من إفشال مخطط ديغول الذي أراد تقسيم الجزائر إلى فصل الصحراء أو فصل الشمال وفي كلتا الحالتين، فشلت هذه المناورات وبقي الشعب موحدا، إضافة إلى أنه تمكن من قيادة المرحلة الانتقالية فيما اتفق عليه في الجوانب الإجرائية، وهكذا استعادت الجزائر بعد استفتاء 1جويلية 1962، ثم إقراره في 5 جويلية 1962، فهذه المهمة نعتبرها أنها كانت منجزة بكل شرف وإحكام بالنسبة للشعب الجزائري.. الآن مسؤولية الأجيال، أنتم تعلمون أن هذا الاستعمار الذي دام 132سنة لم يخرج دون أن يترك وراءه سلسلة من المخلفات التي ما تزال مطروحة إلى اليوم ومازالت آثارها مستمرة إلى اليوم، بعضها موجودة على الصعيد النفسي المتعلق بالذاكرة وما تحمله من آلام عن هذه الفترة، وهناك كذلك بعض المخلفات المتعلقة بآثار الاستعمار على الصعيد الحربي فيما نتحدث اليوم عن بعض الملفات الحساسة مثل التفجيرات النووية، ملف المنفيين، المفقودين، موضوع الاعتراف بالحقبة الاستعمارية، الذي يعتبر موضوع مهم بالنسبة للجزائر.
بلدنا بحكم موقعه الجغرافي كدولة جارة بالنسبة لفرنسا إذا حسبنا المياه، التي تقدر تقريبا بمسافة تفوق ألف كلم في حدود مائية بيننا، فمثلما يقال لا يمكن تغيير الجار، ولذلك مسؤولية هذه الأجيال هي في محاولة التكفل بتبعات الفترة الاستعمارية لهذه الملفات، التي نتحدث عنها اليوم في إطار ملف الذاكرة، إضافة إلى فكرة التجنيد.. الشعب الجزائري بناءً على هذه التجربة التاريخية وفي صراعه المرير مع القوى الغازية، عليه أن يتنبه إلى هذه المسألة، ولذلك مهمة هذه الأجيال أن تحرص دوما على حماية هذا البلد، وان تكون في مستوى التحدّيات المطروحة على سبيل تقوية الجزائر بمختلف النواحي الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والعلمية، فهذه مسؤولية كل الأجيال فمثلما شاركت كل أطياف المجتمع في تحرير الجزائر، فكذلك كل أطياف المجتمع اليوم مطالبة كل حسب مجاله واختصاصه والمهمة الموكلة لديه، أن يتجند في سبيل حماية الجزائر مما قد ينتظرها من تحديات على اعتبار أن هذا التاريخ يعلمنا بأن الجزائر كلما كانت ضعيفة كلما كانت مهددة، وبما أن الجزائر دولة محورية في منطقة البحر المتوسط.
وهذا هو الذي نقرأه من خلال استطلاعنا للتاريخ، أن هذه البلاد لها مهمة أن تكون أجيالها على مستوى من اليقظة والتجنيد، والعمل من أجل حماية حدودها ومراقبة كل المناورات، لأن هذه الأخيرة والمخططات لا تقف عن استهداف الجزائر لاسيما اليوم مثلما تلاحظون أنه في إطار هذا الانفتاح الواسع للعولمة وتدفق المعلومة غير الخاضع للرقابة، علينا كذلك أن نكون في مستوى التحدي في مراقبة كل موجات التشويش، التي تحاول اختراق العقل الجزائري وتسقطه فيما يسمى بالاستلاب أو الاغتراب أو ما يجعل هذا الشعب الجزائري يبتعد عن هويته والدفاع عن أرضه.
إذن الرسالة، التي يمكن تقديمها للأجيال هو أن هذه السيادة استعيدت بتضحيات جسيمة، تمثل تضحيات لخمسة أجيال متعاقبة، إضافة إلى مليون ونصف المليون من الشهداء، والآثار الجسيمة التي مازالت تجرها الجزائر إلى اليوم والناجمة عن الفترة الاستعمارية، هذه التضحيات كلها يجب وضعها في الميزان وأمام مسؤولية الضمير وعلينا دوما أن نحتفظ بهذه المحطات والتجربة باعتبارها المعلم والمحفز، الذي يجعلنا دائما على مستوى الحدث التاريخي، والتحديات التي تحوم بهذا البلد.
- هل يمكن اعتبار 19 مارس 1962 يوما يمثل الاستقلال الفعلي؟
لا شك في ذلك بدون تردد، يمكن القول أن 19مارس1962، هو استقلال فعلي، باعتبار أن فرنسا اعترفت بصفة رسمية بوقف إطلاق النار، وبأنها كانت مستعدة للاستمرار في استكمال الإجراءات المتفق عليها من أجل إقرار المرحلة الانتقالية، والاستفتاء، وهذا الذي سار فعلا إلى غاية استعادة السيادة الوطنية.. طبعا هناك بعض ممن يحاولون التشكيك في قيمة هذا اليوم، على اعتبار أن الجزائر في إطار مفاوضات ايفيان قد قدمت - حسب ما يرونه - تنازلات، لكن علينا أن نقدر بأن ما تحقق في 19مارس1962 لم يكن محسوبا في دائرة الخيال، إذا ما قارنا الإمكانات التي كانت آنذاك أو اختلال التوازن في الإمكانات بين الجزائريين وفرنسا، كقوة دولية آنذاك، وفي أرض الجزائر، لأنه لا يمكن نسيان أن فرنسا استقدمت إلى هذه الأرض ما يقارب مليون من الأوروبيين، وكلهم كانوا يسيطرون على مقاليد الحكم والسلطة، ويتحكمون في الثروة ويملكون كل شروط التدبير والتسلط، إضافة إلى أن شعبنا كان منهكا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فلذلك علينا أن نعترف أن ما حققه جيل نوفمبر كان شيئا عظيما؛ لأنه لم يحدث في تاريخ الاستعمار الاستيطاني أن استطاعت دولة في العالم أن تتخلص منه بمقدار ما تخلصت منه الجزائر... يبقى ما حققه الجزائريون شيئا عظيما، واليوم، علينا الانطلاق من هذه الفكرة على أن هاته العبقرية التي أبداها الجزائريون في استرجاع السيادة الوطنية، هي موطن الاستلهام بالنسبة للجيل الحالي لاستكمال مسار تحرير الجزائر اقتصاديا وتنمويا، لاسيما في ظل تجاذبات العولمة والوصاية التي تحاول فرضها القوى الدولية الكبرى، ومعها الدول الاستعمارية السابقة على غرار فرنسا وبريطانيا وغيرها، ولكن ما يهمنا هو في علاقتنا مع فرنسا من منطلق أنها الدولة الجار على الصعيد الجغرافي، والدولة التي تجمعنا معها - للأسف الشديد - ذاكرة مؤلمة، تمثل مأساة 132سنة من الاستعمار.
أعتقد أن جيل نوفمبر حقق الأهم، وهو أنه أعاد الجزائر إلى مسرح التاريخ وأعاد الفعل الجزائري في إطار المساهمة الإنسانية، ويبقى مسؤولية الأجيال هو أن تكون في مستوى أمانة الشهداء في استكمال المسار لتحصين الجزائر من كل ما يحيط بها من تهديدات، ولا يكون هذا إلا من خلال بلورة رؤية واضحة المعالم من أجل انخراط الجزائر في مسار المساهمة الإنسانية، وان تستعيد دورها في إطار الفعل الإنساني.
- كيف تقرأ عبقرية قادة جبهة التحرير الوطني في مفاوضات إيفيان، والذين حدّدوا معالم الدولة الجزائرية المستقلة؟.
في واقع الأمر حينما نقرأ بيان نوفمبر، فإننا نحن كأكاديميين، ومن يثيرون أكثر من سؤال حول مستوى التصميم الذي تقدم به بيان أول نوفمبر في مضامينه على الصعيد الفلسفي، السياسي، الاجتماعي، الاستشرافي، والدبلوماسي، فعبقرية الجزائريين تجلت أولا في الوثيقة المرجعية الأولى لبيان أول نوفمبر.. ويمكن ملاحظة تجليات البيان تحققت في الميدان في مختلف الإنجازات التي حققتها الثورة ككيان روحي، تناغمت فيه الأنفس والقوانين والأعراف، وأصبحت الثورة - في اعتقادي - سلطة تعلو فوق الجميع، وتمكنت من الاستمرار وحصد كل العراقيل، التي صادفتها سواء على الصعيد السياسي أو الحربي أو الدبلوماسي، وهكذا تمكن هذا الجيل الذي أبدى عبقرية لافتة لاسيما في مرحلة المفاوضات من التفوق على الطرف الفرنسي.. وما يلاحظ على سير هذه المفاوضات التي انطلقت تقريبا منذ 1956 مرورا بلوسارن إلى مولان إلى ايفيان الأولى والثانية، أن الجزائر كانت تتمتع في مرحلة الثورة بمشتلة من العباقرة الجزائريين الدبلوماسيين الذين أبدوا في كل مرحلة تفوقا في مناظرة الطرف الفرنسي وإقناعه، ولا ننسى أن الجزائريين كانوا يشتغلون على أكثر من جبهة، فكانوا يشتغلون على صعيد التعبئة الشعبية التي كانت على المحك باعتبار أن الاستعمار في سياسته بشكل عام، كان يهدف إلى فصل الجزائريين عن الثورة هذا من جهة.. ومن جهة أخرى كانت الثورة تشتغل على صعيد الجبهة الحربية من خلال نشاط وعمل جيش التحرير الوطني، كانت الثورة تشتغل على صعيد حماية الجبهة الداخلية مما يسمى "زرع اليأس" في أنفس الجزائريين، الذين قتلوا وأبيدوا وشردوا وجوّعوا وهجروا، ولهذا كان على الثورة حماية هذه الجبهة، وفي الوقت نفسه كان عليها الاستمرار في هذه المفاوضات، وأن تناور أيضا على جبهتين على خصومها الذين حاولوا الدخول على الخط من أجل إنشاء طابور يعمد إلى إجهاض الثورة، ومن جهة أخرى على إقناع الطرف الفرنسي بضرورة الجلوس إلى المفاوضات، وان يكون جادا في معالجة المشكلة بشكل حاسم.
إضافة إلى أن هذا الجيل، تمكن من تجاوز مناورات منظمة الجيش الفرنسي السري التي دخلت كطرف ثالث معرقل، بالنسبة للمفاوضات التي كانت تجري بين الدولة الفرنسية الرسمية وبين جبهة التحرير، فكان الطرف الثالث وهو اليمين المتطرف، الذي بقي متمسكا ومغمورا بنرجسيته في الاحتفاظ بما كان يتوهم أنه الجزائر فرنسية، فأقول أن هذا الجيل تمكن من تجاوز كل هذه العقبات، وان يسترجع الاستقلال.
- شخصيات ثورية قادت المفاوضات بحنكة نذكر منهم كريم بلقاسم، محمد الصديق بن يحيى، الطيب بولحروف، سعد دحلب، أحمد بومنجل، رضا مالك وغيرهم، ما قولك عن كل شخصية؟.
كريم بلقاسم كان رجلا عسكريا حازما، وكان مثلما يقول الفرنسيون يتمتع بعقل ديكارتي، بمعنى نظرته كانت تقوم على عملية حسابية، فإذا ما توصل إلى النتيجة بالنسبة له انتهت المفاوضات.
محمد الصديق بن يحيى، كان رجلا دبلوماسيا يتمتع بشخصية هادئة بحكمة كبيرة، وكان يحسن اختيار المصطلحات في الحديث، وهذا الهدوء والرزانة مكنته من تمرير رسائله دونما شوائب وان يحقق الأهداف في وقتها.
بالنسبة للطيب بولحروف، كان رجلا متفتحا عاش في ايطاليا وأوروبا وكان دبلوماسيا وسمحت له علاقاته وثقافته المزدوجة كإبن الشعب الجزائري والبيئة الجزائرية، بالموازاة كفهم لثقافة الأوروبيين على أن يكون على قدر من الاستماع، كان مستمعا جيدا، وكان بنفس التعليمات دون تأخير.
سعد دحلب، يمثل الدبلوماسي الذي ينطلق من عمق القبيلة الجزائرية، كان يتمتع بروح الدعابة التي تعبر عن العبقرية وهي السمة التي كانت تتميز بها القبائل الجزائرية، لأنه ينتمي إلى قبائل السهوب الوسطى في منطقة تيارت وهو تحديدا من قصر الشلالة.. كلمة له قالها حينما قال لويس جوكس بأنه لم يعرف مفاوضات أشق وأعسر من المفاوضات التي خاضتها فرنسا مع ممثلي جبهة التحرير الوطني، فرد عليه دحلب بكل أريحية: "لأنكم وبكل بساطة لم تتعودوا على التفاوض مع الجزائريين"، هذا الرجل يعكس روح الدعابة العميقة والشائعة عند الجزائريين، ولكنها كانت في اتجاه تحاول دوما ربط العقل الجزائري بالمسؤولية المنوطة به كمفاوض.
أحمد بومنجل، بصفته رجل قانون كان من الشخصيات التي تأثرت بالفكر القانوني السائد في أوروبا وكان رجلا نشيطا وعلى دراية عميقة بالقوانين، وكان يتصرف دوما في إطار ما يكيف المطالب الوطنية بالقواعد القانونية، ويمكن القول أنه كان محاميا بارعا ولكنه وظف فكر المحاماة في خدمة الدبلوماسية الجزائرية.
رضا مالك، كان المقرر بالنسبة للوفد المفاوض، ويحسن إلى حد كبير حوصلة الأفكار وتقديمها بشكل واضح بما يحفظ بكل أمانة ما أرادت الثورة أن تصل إليه، دونما الإخلال بالأبعاد الأدبية والدبلوماسية والسياسية والقانونية.
كل شخصية كانت لها ميزاتها، وهذه هي عبقرية الثورة، أنها عرفت كيفية استغلال كل طاقات الجزائريين وتوظيفها في مكانها المناسب، هذا مهم وبحد ذاته يمثل موضوع يمكن معالجته لنقف عليه من أجل استخلاص هذه التجربة وتأصيلها كتجربة جزائرية أصيلة، وهذا هو الذي يمكن التعويل عليه بالنسبة للمستقبل.
مثلما تلاحظون، هناك عبقرية متعددة الأوجه لدى الشعب الجزائري، وهذه في اعتقادي يجب أن نقف عندها حينما نقرأ التاريخ، علينا قراءة التجربة الجزائرية بالخصوصيات الجزائرية، وهذه هي عبقرية الشعب الجزائري.
حينما يلتف حول مشروع لا نحاول أن نعطي الدور نفسه لجميع الأشخاص المكلفين بالمهام، بل علينا كذلك أن نثق في الشعب الجزائري وان نترك له الحرية في خدمة وطنه بما يملكه من طاقات وإمكانيات ومهارات وعبقرية، لأن الثورة الجزائرية كشفت عن هذا الوجه من العقل الجزائري، وهذا هو العقل الذي يجب استعادته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.