الجزائريون تفاعلوا بعفوية مع الأحداث المتعلقة بالقضية الوطنية مظاهرات 11 ديسمبر 1960 أكدت التفاف الجزائريين حول القضية الوطنية في مرحلة حاسمة من عمر الثورة، وأنه في الموعد حينما يتعلق الأمر بقضية المصير الوطني، هذا ما يبرزه الدكتور حسان مغدوري من جامعة الجلفة في حوار خص به جريدة "الشعب"، ويشير إلى أن الجنرال شارل ديغول أراد تقسيم الجزائر إلى أقاليم عرقية ودينية من خلال مشروعه "الجزائر جزائرية"، لكن المظاهرات أفشلت مخططه. - الشعب: تشكل مظاهرات 11 ديسمبر 1960 محطة مفصلية في مسار الثورة، ما هي قراءتك لأبعاد هذه المحطة التاريخية؟ حسان مغدوري: هذه المحطة أكدت مرة أخرى التفاف الجزائريين حول القضية الوطنية في مرحلة حاسمة من عمر الثورة، وأمام عديد المناورات التي طرحتها الحكومات السابقة لشارل ديغول، ومحاولة عودة مناورة قادها هذا الجنرال في إطار إفشال آنذاك عرض القضية الجزائرية في هيئة الأممالمتحدة في ديسمبر 1960، وهذه المحطة تؤكد مرة أخرى على غرار ما وقع في السابق، على أن الجزائريين كانوا دوما في الموعد حينما يتعلق الأمر بقضية المصير الوطني. لا يخفى أن الجزائريين شاركوا في مظاهرات سابقة لعل أبرزها 8 ماي 1945 والتي قدم فيها الجزائريون قوافل من الشهداء، واستمرت هذه المظاهرات نفسها في إطار الحركات الاحتجاجية على غرار إضراب الطلبة أو المظاهرات التي ظهرت في عديد المدن الجزائرية احتجاجا على قضايا متعددة تتعلق بالوطن، في هذا السياق يمكن أن نضع هذه المظاهرات. ومثلما تعلمون، أن هذه المظاهرات جاءت على خلفية مشروع شارل ديغول لأنه في 4 نوفمبر 1960 ألقى كلمة أثار اهتمام الأوروبيين آنذاك في الجزائر، مدنيين أو عسكريين وهي الكلمة التي احتوت مفهوم الجمهورية الجزائرية.. شارل ديغول كان من أكثر المقتنعين بفكرة أن جزائر الأجداد مثلما يسميها المستوطنون قد ماتت، وبالتالي أراد تحوير موضوع جزائر الأجداد في إطار ما يسمى بالجمهورية الجزائرية والتي عبر عنها لاحقا بالجزائر جزائرية، وهو المشروع الذي كان يحلم به ديغول. ولو انه في الظاهر هذا المشروع يبدو وكأن ديغول يعترف بحق الجزائريين في هذه الجزائر، لكن هي محاولة لطرح فهم مغلوط لعرقلة مفهوم حق الشعوب في تقرير المصير، هذه الكلمة التي استرعت آنذاك اهتمام الأوروبيين أحدثت هلعا لدى المستوطنين، وبدأ البعض يفكر بأن ديغول يحاول أن يقوم بانقلاب على فكرة الجزائرية فرنسية، وإذا أردنا الرجوع إلى الوراء، كان متوقعا أن يكون هذا الانقلاب في 11 نوفمبر، لذلك فالمستوطنون حاولوا استباق هذا الانقلاب المزعوم مثلما تصوروا واخرجوا الصبيان آنذاك إلى الشارع، وقاموا بعملية احتجاجية تمثلت وقتذاك في دفع بحافلة نحو الدكان من الزجاج، وهي التي أخذت مساحة واسعة في الصحف الفرنسية وكانت تنبيها بالنسبة لديغول على أن المستوطنين يرفضون رفضا مطلقا فكرة التراجع عن الجزائر فرنسية، هذا إذا أردنا إعطاء أهم الخلفيات لمشروع ديغول. ديغول بعد هذه الحركة الاحتجاجية التي قام بها الصبيان الأوروبيين، وهم مدفوعين من طرف المستوطنين، دخل في سلسلة من المشاورات أخذت أسبوعا كاملا استقبل فيها ديغول حوالي 18 وزيرا من بين 24 وزيرا، وكان قد أسر لهم بأنه يعتزم القيام بمحاولة تحوير لموضوع حق الشعوب في تقرير مصيرها، وبأنه مقدم على جملة من الإصلاحات الكبرى، وفي الأخير، طلب من كل وزير الانتظار والوقوف إلى جانب هذه الإصلاحات المحتملة. طبعا حتى يعطي فرصة لهذا العمل، وان كان مناورة فقط، كان يقول إن هذه الإصلاحات بإمكانها أن تكون عاجلة، وقد تتأخر، وهنا كانت المناورات التي كان يقوم بها من اجل إقناع الرأي العام الفرنسي، وكان يحضر أيضا لطرح هذه القضية في اللجان البرلمانية التي كانت تعتزم مناقشة القضية الجزائرية، ويريد أيضا طرح فكرة ما يعرف الجزائر جزائرية. بعض المقدمات التي مهدت لفكرة زيارة ديغول المعروفة في 9 ديسمبر1960 الى مدينة عين تموشنت، طبعا، كان قد هيأ المناصرين لفكرة الجزائر جزائرية، وهم الفرنسيون الجزائريون، وزار منطقة عين تموشنت على أمل أنه سيلقى دعما من هؤلاء، وبالتالي يطرح فكرة هذا المشروع الذي سيخلد في النهاية أرضية مقسمة بين دعاة الجزائر فرنسية وبين دعاة الجزائر جزائرية. وبالتالي تعطي نظرة للأمم المتحدة على أن المسألة غير محسومة، وبأن هناك مشروعا في الأفق يحاول شارل ديغول أن يطلقه بالجزائر، وحتى تمر القضية الجزائرية في هيئة الأممالمتحدة مرورا فاترا باهتا ، بمعنى أن هذه الفكرة التي جاء بها ديغول كانت تحاول أن تلتف فقط على الأممالمتحدة حتى لا تأخذ موقفا حاسما إزاء القضية الجزائرية التي كانت تعتزم عرضها آنذاك في شهر ديسمبر. لما زار ديغول عين تموشنت، وجد من يناصر فكرته، لكن في الوقت المناسب قام المستوطنون بمعارضة فكرة شارل ديغول، واعتبروه بأنه - على غرار الحكومات التي سبقته - يحاول أن يقوم بانقلاب على حق هؤلاء المستوطنين في الجزائر. في اليوم العاشر ديسمبر1960 خرج المستوطنون للتعبير عن استنكارهم لسياسة ديغول، غير أنه في 11 ديسمبر، خرج الجزائريون على حين غرة، ولم يكن متوقعا في حسابات الفرنسيين آنذاك أن الجزائريين سيدخلون في معترك هذا الصراع القائم بين دعاة الجزائر فرنسية ودعاة الجزائر جزائرية، فعبر الجزائريون على أن الجزائر جزائرية مسلمة كتعبير عن الرأي العام الجزائري الذي التف حول جبهة التحرير الوطني وقت ذاك، والذي تمسك بحق الشعوب في تقرير المصير. هذه المظاهرات انتشرت إلى عدد من المدن الجزائرية الكبرى على غرار عين تموشنت، وهران، الشلف، البليدة ، تيبازة ثم الجزائر العاصمة وحتى خنشلة، وفي عديد مناطق الجزائر وبمستويات مختلفة، ولكن كلها التفت حول القضية الوطنية، وهناك تأكد للرأي العام العالمي بأن الجزائريين متمسكون بحق الشعوب في تقرير المصير، بنفس المنطق الذي تطرحه هيئة الأممالمتحدة ، وليس مثلما أراد ديغول أن يقدمه، لأنه في حقيقة الأمر مشروع الجزائر جزائرية الذي تقدم به ديغول، أراد من خلاله تقسيم الجزائر إلى أقاليم عرقية ودينية، بحيث يبقى المستوطنون هم الذين يمثلون العنصر المتفوق من الناحية السياسية والاقتصادية، وهو جوهر النظام الاستعماري، وبالمقابل، يصبح الجزائريون بمثابة شتات في إطار تقسيم عرقي بين قبائل وعرب وبين سكان الجنوب، لأن مخطط ديغول فصل الجنوب. وبالتالي، أراد أن يقدم الجزائر على أساس أنها فسيفساء، وتبقى مركزية القرار والسلطة والنفوذ لفائدة المستوطنين، بمعنى أراد أن يفرض أمرا واقعا جديدا اختلقه من منطلق الفكرة التي دعا لها.. الجزائر جزائرية، وإذا رجعنا إلى الوراء، هذه الفكرة هي نفسها تقريبا التي قدمها قبله غي مولي، ثم كذلك بورجاس بونوري، في إطار تقسيم الجزائر إلى أقاليم بمعنى ديغول لم يأت بجديد. إذا أردنا الكشف عن موقف الثورة آنذاك من هذه المناورة التي قام بها ديغول، فيمكن الرجوع إلى جريدة المجاهد العدد 73 في الصفحة الثالثة الذي علق على هذه المناورة بعنوان "الجزائر جزائرية مثلما يحلم بها شارل ديغول"، وطبعا هذا المقال قدم تفسيرا مفصلا عن حيثيات هذه المؤامرة التي طرحها ديغول والتي أدت في النهاية إلى إفشالها من طرف الجزائريين الذين التفوا حول القضية الوطنية، وحول التحرير الوطني وحق الشعوب في تقرير المصير. هذا العدد من "المجاهد" مهم جدا، لأنه مصدر أرخ للأحداث في وقتها وقدم تفسيرا مقنعا ويعكس مستوى الوعي بالنسبة للقيادة السياسية وقتذاك، ولكل الحيثيات والتدابير التي كانت تجري في الخفاء، وكان وعيا عميق بتفكير وسياسة ديغول ومناوراته، نلاحظ أن جبهة التحرير الوطني كانت في الموعد. وهكذا تمكنت القضية الجزائرية أن تعرض على هيئة الأممالمتحدة، وتلقى ردا حاسما على القضية الجزائرية، وألقى فرحات عباس تقريبا في 16 ديسمبر 1960 خطابا أشاد به ببسالة الجزائريين وبالتفافهم حول القضية الوطنية، كما أن هذه المظاهرات عرفت بالقضية الجزائرية على الصعيد الخارجي، وكانت الدول العربية السباقة في تقديم الدعم للقضية الجزائرية، والوقوف إلى جانب الشعب الجزائري، ولا ننسى أن هذه المظاهرات خلفت ضحايا في صفوف الجزائريين على غرار ما اعتاد الفرنسيون القيام به في مثل هذه المناسبات. - هل يمكن القول إن المظاهرات عجلت في المفاوضات مع الطرف الفرنسي؟ بطبيعة الحال، لأن شارل ديغول كان يراهن على مشروعه من أجل عرقلة عرض القضية الجزائرية في هيئة الأممالمتحدة، لكن بعد فشل هذا المشروع نلاحظ أن شارل ديغول دخل في أزمة في النظام السياسي، وكانت أزمة عميقة، وأدرك ديغول أن القضية الجزائرية لا يمكن حلها إلا عن طريق المفاوضات؛ لأنه أصبح أمام تهديدين بالنسبة له تهديد جبهة التحرير الوطني التي تدعو إلى الاستقلال بالمعنى المبدئي الحاسم، وتهديد المستوطنين الذين أصبحوا ينظرون إلى ديغول على أنه جاء خلافا لطموحاتهم ومطالبهم وبأنه يخون القضية الجزائرية بمنطق الجزائر فرنسية. إذن ديغول هنا أدرك بأن مسار السير في الكفاح سوف لن يؤدي إلا إلى إنهاك القوة الاستعمارية الفرنسية، وسيهدد حتى أمن فرنسا و صرح بهذا حين قال :« اليوم المستوطنون ليسوا فقط ضد الجزائر، ولكن ضد فرنسا نفسها"؛ ولهذا سنرى أن ديغول سيدخل مباشرة بعد هذه الأحداث في مفاوضات، يمكن أن نقول إنها جادة والتي طبعا أخذت سلسلة من الأشواط انتهت بتوقيع ما يعرف باتفاقيات ايفيان النهائية التي اعترف فيها ديغول بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم أي حقهم في استرجاع السيادة الوطنية التي اغتصبت في 1830. - المظاهرات كانت عفوية أو كان وراءها قيادة جبهة التحرير الوطني، لأن هناك الكثير من التضارب في هذه المسألة؟ سؤال وجيه، المظاهرات من جهة كانت عفوية من حيث ردة فعل الجزائريين على موقف المستوطنين، وعلى موقف الرأي الذي كان يؤيد ديغول في فكرة الجزائر جزائرية مثلما كان يحلم بها ديغول، لكن يحسب لجبهة التحرير الوطني أنها كانت على موعد، واستطاعت احتواء هذه المظاهرات بسرعة، ووقع هذا التفاهم غير المعلن بين الجزائريين وجبهة التحرير الوطني في تقديم صورة، وعلى أن العمل كان منظما ومدبرا من حيث البداية. طبعا انطلق في هذا من شهادة المرحوم المجاهد لخضر بورقعة، في إحدى الندوات التاريخية بجامعة يحي فارس بالمدية في 2018، تحدث فيها عن هذه المظاهرات وقدم هذه الرؤية،وان الجزائر لم تكن من حيث المبدإ قد أطرت هذه المظاهرات، ولكن حينما رأت أن ردة فعل الجزائريين العفوية وتناغم مع موقف القضية الوطنية، سارعت إلى احتواء هذه المظاهرات،هذا هو الرأي الذي يبدو لي منطقيا. لأننا نعلم أن الجزائريين في المناسبات الكبرى، حين كان يتعلق الأمر بالقضية الوطنية كانوا دائما حاضرين وبإيعاز، صحيح أنه دوما هياكل تأطيرية تحاول تنظيم المجتمع لكن عامة أن الجزائريين كانوا يتفاعلون بتلقائية وبعفوية في جميع الأحداث التي تتعلق بالقضية الوطنية. - كيف تعاطت الصحافة الاستعمارية مع هذه المظاهرات؟ الصحافة الاستعمارية، مثلما هو معروف، هي صحافة المستوطنين التي كانت تستنكر هاته الأعمال وتصنفها ضمن خانة الإرهاب، كما كان يسمى وقت ذاك، وهناك بعض الجهات التي حاولت تقديم الموضوع بشيء من الموضوعية، لكنها لم تعترف صراحة بحق الجزائريين بمقدار ما كانت تحاول أن تقدم صورة بكل موضوعية بأن الأزمة عميقة وهي فعلا جادة وينبغي على السلطات الاستعمارية أن تجد لها الحل. بصفة عامة هذا هو الموقف الذي كان سائد في الصحف الفرنسية آنذاك سواء تلك المؤيدة للمستوطنين أو تلك التي كانت تعبر عن طموحات المستوطنين أو بالنسبة للصحافة الفرنسية بشكل عام، فهي كانت تعبيرا حول التيارات السياسية التي كانت تحكم النظام الاستعماري سواء المؤيدة أو المعارضة. - ما الذي نستخلصه من هذه المحطة التاريخية لإيصال الرسالة للأجيال القادمة بضرورة الحفاظ على ذاكرة الأمة؟ طبعا هذه المحطة هي من محطات الذاكرة الوطنية،والفائدة من هذه المحطات أنها تذكرنا بأن الشعب الجزائري دوما على أهبة الاستعداد للدفاع عن الوطن حينما يكون أمام تهديدات خارجية، وان هذا الشعب الجزائري يتسم بنوع من الوعي العميق حينما يتعلق الأمر بتهديد المصلحة الوطنية و لذلك فهذه تعتبر قوة دافعة لاسيما في الوقت الراهن أمام هذه الموجات الجديدة التي جاءت مع التطور التكنولوجي والتشعب والتشابك في الرسائل الإعلامية ولاسيما عبر ما يعرف بشبكات التواصل الاجتماعي، والتي تحاول التشكيك من خلال طرح أفكار مغلوطة. هذا كله يفيدنا اليوم بأنه حينما يتعلق الأمر بمحاولة تمرير رسائل تلتف حول المصلحة الوطنية، فإن الشعب الجزائري يتمتع بهذا الحس التاريخي الذي يعود إلى غابر الأزمنة في علاقة الجزائر مع كل الأقوام التي حاولت أن تهدد هذا الوطن، وهي الجينوم التي تحرك الشعب الجزائري في الوقت المناسب من أجل أن يلتف حول القضايا المصيرية للوطن ومن أجل أن ينأى بهذا الوطن عن هذه المؤامرات والمناورات التي تحاك ضد المصلحة الوطنية.