لم يكتف الاحتلال بطرد ونفي المحامي والأسير السابق والمدافع عن حقوق الإنسان صلاح الحموري الى فرنسا، بل أضحى يوظّف جماعاته من اللوبي الصهيوني لملاحقته، ومنعه من التحدث عن قضيته بتفاصيلها على الملأ لفضح انتهاكات الاحتلال بحقه وبحق الشعب الفلسطيني، وذلك عن طريق محاولة وسم النضال الفلسطيني وشخص صلاح "بالإرهاب" لفضّ لقاءاته وإسكاته بالقوة وإفشال الفعاليات التي تستضيفه، بدعوى أنّ عقدها من شأنه أن يثير "الفتنة والسلم الأهلي"، ما اضطر الشرطة الفرنسية في محافظة نانسي صباح الخميس 16 آذار/مارس 2023 لإلغاء مؤتمر، كان مزمعا في تمام الثامنة مساء من اليوم نفسه تحت عنوان: "ابن القدس..الذي طرده الكيان الصهيوني من موطنه الأصلي". لم يهتز الحموري حيال ذلك، لكنه أثار جلبته المعتادة، فهو من النوع الذي وإن حَدَثَ وهَمَسْ، فوَشوَشاته مسموعة وعالية. قابل الحموري المنع باللجوء الى القضاء الفرنسي، للبتّ في قيام المؤتمر من عدمه، تحت شعار حرية الرأي والتعبير، بالرغم من تجربته السيئة وعديمة الفائدة مع الحكومة الفرنسية آنفاً. قبل ساعة فقط من إلغاء المؤتمر، انتزع الحموري قرارا من المحكمة الفرنسية لصالحه، شكّل وسيبقى يشكّل أرضية خصبة يواجه بها المتربصين له من اليمين المتطرف والصديق للكيان الصهيوني، ويكبح جماح من يعمل على إسكات صوته. ليس هذا فحسب، بل ارتأت المحكمة الفرنسية تعويض الحموري مبلغ 1000 يورو، ومثلها للمؤسسات الثلاث المنظمة للمؤتمر، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية. وعليه، تمّ عقد المؤتمر بنجاح كبير، رغم المحاولات الملتوية لإبطاله. لم يكن التعويض المالي ذي دلالة، لكنه كان رسالة صارخةً، وبحكم القانون، أن أي محاولة لتعطيل الحموري أو تقزيم تجربته ستعود على مُحدِثها بالخسارة الموجعة. -«كان غير شكل الزيتون..مش كاين هيك تكون" في بلد الفرنكفونية، يصحى المُبعد صلاح الحموري كل صباح ليحضّر فطور العائلة. بعيدا عن الكرواسون، يختار الزعتر المليء بالسمسم المقدسي، ويضعه على الطاولة، يستقدم زيت البلاد، ويلتف مع زوجته وأطفاله حول المائدة. تلك هي طقوسه الصباحية التي بات يمارسها، دامغاً فلسطينيته في كل مكان، منذ أن رحّله الاحتلال قسراً الى فرنسا في 18 من ديسمبر الماضي. لا ينفك صلاح بتذكّر فطوره الاستثنائي في القدس، ترافقه متلازمة فيروز، خلفية موسيقية في ثنايا التفاصيل. فكل شيء في البلدة القديمة "غير". حينما كان يبتاع كعكها المطاول من حيّ المصرارة، يملأه زعتراً ويخشمها وهو ينزل درجات باب العامود. مُكَوّرَ الفم وهو يمضغ، يستمر صلاح بطرح الصباحات على أصدقائه الباعة، "من كيفك عمي الحج؟ ع ايش أبو الهدمي..ع حيّو حمودة". -«سنرجع يوماً إلى حيّنا..سنرجع مهما يمرّ الزّمان..وتنأى المسافات ما بيننا" يختار "الكاردو" الرئيسي، طريق خان الزيت، يمر بطبيعة الحال على صديقه الحلّاق، ويتوعده بزيارة قريبة. يشدّ الرحال الى مطعم لينا، يبتاع الفلافل، متوجها الى سيدة تبيعه الصفيحة الأرمنية، ويذهب بعدها للفطور مع أصدقائه في ساحة القيامة، ومن ثم لاحتساء قهوتهم المعهودة في ساحة سوق أفتيموس. كان هذا تقليده الشريف في إعداد الفطور كل سبت على وجه الخصوص. - «بشتاقلك لا بقدر شوفك..ولا بقدر احكيك..بندهلك خلف الطرقات وخلف الشبابيك" أما الآن، فجسده قابع في فرنسا، إلا أن عقله وقلبه في القدس، وهي تجول في ذهنه طوال الوقت. يعرّج على التاريخ حينما كانت القدس منفىً لأمراء المماليك البطّالين ومسكناً لهم، ممّن أرادت الدولة المملوكية حينها أن تَعْزِلَهم عن الدنيا وتُعاقِبهم، فكانوا يُذهِبونهم إليها قسراً. يتمنى صلاح عقاباً كهذا، تنحياً يُقْعِدَهُ في القدس وليس عنها، أن يُنفى إليها وليس منها. بالرغم من واقع الحال، فصلاح منفيّ في القدس وجدانيا، يحفظ أزقة البلدة القديمة عن ظهر قلب، ويجوب شوارعها على الدوام. يمعن قلبه بالاطمئنان على مدرسته (الفرير) وشارعها، تلك التي أكمل فيها تعليمه الثانوي، ينظر إلى ملعبها، حيث كان يلعب كرة السلة مع أصدقائه، يغلق عينيه، ويتذكر الأيام الخوالي عندما كان يقفز متسلقاً "رينغ الشبكة" قبل أن يستقر (البلاتين) رجله، بعد رصاصة متفجرة أطلقها عليه جندي صهيوني، وهو في الخامسة عشرة من عمره، نالت من عظام فخذه اليمنى، فهشمتها، وهو بعد طفل صغير. يتذكّر اعتقاله الأول، والذي حرمه لبرهة من الأشهر الانتظام على مقاعد الدراسة مع أقرانه. تنهال بعدها ذاكرته بسلسلة اعتقالات، نصفها إداري، يقارب مجموعها العشر سنوات، يتبعها اعتقال ثان، وثالث، ورابع، وخامس، وسادس، وسابع، وثامن أخير، قبيل ترحيله إلى فرنسا. - «رُدّني إلى بلادي" يحاول صلاح التكيّف مع حياته الجديدة، واستئناف مسيرته في المنفى. "فلسطين قضيّة وليست جغرافيا" هذه قناعة الحمّوري، وتصريحه الأول عندما حطّت قدماه مطار شارل ديغول، معبراً عن إرادته الصلبة الممزوجة بحزن مفرط حال إبعاده، بعد اعتقال إداري دام تسعة شهور بذريعة ملف سري، محاطاً بأربعة رجال مخابرات صهاينة، ومقيدا في يديه ورجليه طوال فترة مكوثه على متن الطائرة. -«إحكيلي إحكيلي عن بلدي إحكيلي" لم يرد الاحتلال صلاح حاضراً في القدس، لكنه لم يستطع إسكاته حتى بعد إبعاده عنها. صدح صوت الشاب الأشقر الطويل، ذي العينين الزرقاوين عالياً، وأجرى عشرات المقابلات مع جميع المحطات الإذاعية والتلفزيونية حول العالم. بل وتعدى حدود المقابلات المسقوفة بسياساتها التحريرية، وشارك وجاهيا في العديد من النشاطات والفعاليات، ملبياً دعوات شخصية، فتحدث في مجلس الشيوخ الفرنسي، والبرلمان، والاتحاد الأوروبي، وأعطى شهادته في الأممالمتحدة، كما تبنى بالمقابل قضيته عدد كبير من المنظمات الحقوقية والدولية بصفته مدافعاً أصيلاً عن حقوق الإنسان. - «أنا على بابك قصيدة..كتبتها الرّيح العنيدة" إنّ العابث مع صلاح، سيجد نفسه مضطراً لمواجهة عناد صلاح. كان عقد المؤتمر في مدينة نانسي، وانتزاع قرار محكمة بشأنه خير دليل على ذلك. هذه ليست المرة الأولى التي يحتكم فيها الحموري للقضاء، فبحكم مهنته التي حرمه الاحتلال من مزاولتها فيما بعد؛ يدور في فلك صلاح العديد من القضايا الخاصة بموكّلين له، لطالما رافع عنهم في المحاكم، لكن الملفت في حالته ممارسته للمهنة في قضايا تخصه، حيث نال نصيبه من ملاحقة قضايا وجرائم الحرب ارتكبها كيان الاحتلال بحقه، لقاء انتهاكات طالته هو وعائلته. عدا عن قضية الإداري المفلسة، والتي يلخص فيها الاحتلال لملف سري، يلاحق الحموري شركة NSO الصهيونية برفعه دعوى عليها لقاء اختراق هاتفه والتجسس عليه عبر برنامج بيجاسوس. يتوازى ذلك مع قضية أخرى، تمسّ وجوده الإنساني في مسقط رأسه: القدس، حيث صادر الاحتلال حقه، وسحب هويته، وألغى إقامته فيها، تخللها تكتيكات لفصله عن أسرته، ومنع زوجته الفرنسية وأولاده من القدوم الى فلسطين، ولمّ شملهم سوياً. ليست هذه الانتهاكات التي طالت صلاح فحسب، بل أخرى انتهجها الاحتلال والحموري بعد قابع في السجن، إذ تم نقله إلى سجن "هداريم" جراء تصنيفه "سجاف" أي أسير شديد الخطورة، والتضييق عليه أكثر من خلال وضع الأصفاد في يديه وقدميه أغلب الأوقات، واقتحام زنزانته ليلا مع التفتيش المتكرر، وذلك عقاباً له كونه وجه رسالة الى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من زنزانة رقم 4 في سجن "عوفر"، والذي وصفه بالباستيل المقام على الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، مذكّرا ماكرون والعالم بسقوط سجن الباستيل واستقلال فرنسا على إثرها، مسلّطا الضوء بأن الشعوب وحدها صاحبة الحق في تقرير المصير. أكثر ما غاظ الاحتلال عنونة الحموري لممارسات الاحتلال بالأبارتهايد المستمر في سياسة التطهير العرقي الكولونيالي، وأن نفيه خارج قدسه، وإحلاله في فرنسا، أكبر جريمة على ذلك، وقد عاقبته إدارة السجن على ذلك، بوضعه في سجن مركزي آخر. عاتب الحموري ماكرون وحكومته، برسالة أجمَلَ فيها مطالبته إياه والعمل على إطلاق سراحه كونه مواطنا فرنسيا. والجدير ذكره هنا أن الحكومة الفرنسية قد بذلت في السابق جهوداً جمة لإطلاق سراح الصهيوني الفرنسي جلعاد شاليط. كتب صلاح في رسالته لماكرون أنه يعيش وسط تخاذل فرنسي، حيث يشعر بأنه مواطن من الدرجة الرابعة أو الخامسة بالنسبة للدولة الفرنسية، في ظل استمرارها بالتغاضي، والسماح لدولة الاحتلال بالاستمرار في اعتقاله دون تهم، وخضوعه - رغما عنه - لمحكمة عسكرية صورية تحمل نفس الشكل والمضمون للمحاكم العسكرية التي كانت في فرنسا، والتي حكمت بالإعدام وسحب الجنسية للجنرال ديغول. تساءل الحموري في رسالته أيضاً حول معايير ماكرون المزدوجة في التعامل مع الشعوب التي تخضع للظلم، بالرغم من ادعاء الأخير التزامه بقيم الديمقراطية وشعار الجمهورية الفرنسية: "حرية، إخاء، مساواة"! -«راجعين يا هوى راجعين" كل رسالة كتبها صلاح في الأسر، دفع مقابلها قيدا جديدا. فمن "الضحية تتحدّث ولا تعتذر"، إلى رسالة أخرى بعنوان "إلى متى سأحمل الرقم 1124052"، والذي ظل مقترناً به أكثر من 20 عاما في سجون الاحتلال؛ لم تنخر قواه أبدا ولن يكمم فاهه، بل سيظل عاقدا العزم على مواصلة الدفاع عن عدالة قضيته، وصدى صوت فيروز يتردّد خلفه، مدندناً كلمات أغانيها إلى قدسه: "حبسي إنت..إنت حبسي وحريتي إنت"، ومتوعّدا الجميع بالعودة يوماً الى حيّه..إلى قدسه.