شكّل موضوع "المساءلة الأخلاقية لإنسان اليوم" محور ندوة فكرية نظّمتها الجمعية الجزائرية للدّراسات الفلسفية، بالتنسيق مع المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية "عبد الرحمن بن حميدة" ولاية بومرداس، أمس الأول، شارك فيها نخبة من الباحثين والمهتمين بالفكر الفلسفي بمداخلات تكاملت في مقاربة جوانب الموضوع. ذكر الأستاذ الدكتور رشيد دحدوح في مداخلته المعنونة "أخلاق الرعاية في الصحة والتعليم"، أنّ الأخلاق العقلية المجرّدة بنيت بادئ ذي بدء على مبدأ المبادلة Principe de reciprocite وهو ترجمة لمبدأ العدالة، الذي يعني أن الأفراد ضمن مجتمع مدني أحرار يتعاملون فيما بينهم بطريقة ندية، بحيث كل من يطالب بالاحترام يجب هو بدوره أن يحترم الآخرين. وحسب قول المتحدث، فإنّ هذا الأمر في جوهره تعبير عن فكرة الحقوق والواجبات واستقلالية الأفراد، إلا أن هذه الأخلاق اصطدمت بالأفراد الذين يعانون من هشاشة وضعفا، بحيث لا يستطيعون أن يتأسّسوا أندادا لأقرانهم من المواطنين الآخرين؛ لأنّهم ببساطة: مرضى أو معاقين أو أطفال ما زالوا تحت سن الرشد والإدراك، ليتساءل بعد ذلك: ما العمل مع هؤلاء؟! هل يتخلى عنهم المجتمع ويعتبرهم أفرادا دون الاعتراف لهم بالاستقلالية الفردية والحق في صون كرامتهم؟! قائلا "استجابة لهذه الإشكالية طوّرت الأخلاق التطبيقية المعاصرة في مجالي الصحة والتعليم أخلاقا جديدة، تتجاوز تلك الاخلاق الصورية المجردة إلى أخلاقية علائقية Relationnelle وهاجسها الانهمام بالآخر الهش والضعيف أو المعوز والعاجز، وكل من هم دون معايير السواء السائدة في مجتمع ما. تلك الأخلاق هي أخلاق الرعاية أو العناية وهي تتمظهر أكثر في مجالي الطب والصحة مع المريض والشيخ العجوز؛ وفي مجال التعليم مع الطفل دون سن الرشد. فإذا كانت المسائل واضحة في المجال الأول، حيث المحرك الذي يدفعنا للاهتمام بالمريض هو إرادة التعاطف معه ومشاركته ألمه؛ فإن المسألة في مجالي الطفولة والتعليم مازالت غامضة. لذلك اجتهدت في إسقاط تلك الأخلاق التطبيقية الجديدة على عالم الطفولة، وعلاقته بعالم اليوم والمعادلة الخطيرة المختلة التي تعرضها الرقمنة والأنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي وخصوصا الذكاء الاصطناعي: فالطفل يواجه قوّة جبّارة من المعلومات المتدفّقة لا يملك أدنى الأدوات والمعايير التي تمكّنه من فهمها ومعالجتها وتجاوزها؛ حيث يتعرض الطفل إلى تشويش وتشويه واختراق معلوماتي وأخلاقي جد خطير من الضروري المبادرة إلى معالجته". كما أكّد الدكتور هشام معافة خلال مداخلته "الهندسة الوراثية: مساءلة ايتيقية"، أن الأخلاق الراهنة لا تنفصل عن ثنائية (علم وتقنية)، من جهة أن التنامي الأنطولوجي لوضع الإنسان المعاصر يسير بشكل مطرد مع تنامي تطبيقات التقنية على الإنساني، على نحو قادت التقنو-علمي إلى توسيع غير مسبوق للغايات الإنسانية، وأوضح - في السياق ذاته - أن هذا التوسيع الكينوني للوضع الإنساني صاحبه في المقابل - أفول القيم الإنسانية سقوط الأخلاق وهشاشة الايتيقي. وأشار هشام معافة إلى أنّه إذا كانت التطورات التي عرفتها الهندسة الوراثية واعدة نظراً لأنها ستسمح - في وقت قريب - بعلاج الكثير من الأمراض الخطيرة والمستعصية، فهي تمثل في الوقت نفسه مشكلة بما تُمكن للإنسان من التلاعب بطبيعته الخاصة؛ سيسمح "تحسين النسل" في المستقبل بتحسين أو زيادة قدراتنا الجسدية فوق ما هو عاد، مثل الطول ولون البشرة والقوة العضلية، وقدراتنا العقلية والذهنية كالذاكرة والمزاج، فضلا عن اختيار الجنس وسمات وراثية أخرى. وقال المتحدث في السياق ذاته "هذا ما أثار الكثير من القلق والتوجس تجاه بعض الأشكال من الهندسة الوراثية، وهو قلق مشروع من ناحية علمية وطبية لأن نتائجه غير مضمونة، زيادة على ذلك ينتهك تحسين النسل حق الطفل في الاستقلالية، فاختيار الخصائص الجينية بشكل مسبق يجعل من الطفل مجرد شيء أو موضوع في يد الآباء، يشكّلون منه ما يشاؤون بحيث يعيش داخل مشروع حياة محدد مسبقا يحرمه من حقه في أن يكون لديه مستقبلاً مفتوحاً، أو حقه في أن يمتلك مشروع حياة خاصاً يفعل به ما يشاء".