تنسج الكلمات لتركبها ضمن سياقات جديدة ضمن حياة لغوية مغايرة. يترتب عن هذا أنها تعرف جيدا كيف تؤثث لغتها الشعرية الفاتنة بكثير من خيالات الطفولة حين تتعامل مع اللغة ومحمولاتها، وكثير من النضج في نظرتها إلى الذات، العالم، وإلى الآخرين.. يبدو شعرها نوعا من الطفولية الحالمة، كمن ينتظر بابا نويل، لكن هذا معناه الظاهر فقط، لأن المعنى العميق في المقطوعة أعلاه أن المتحدث في النص ينتظر غودو الذي لا يجيء. هنا تنتظر الطفولة تحقّق الأحلام، وينتظر الصوت الناضج في النص "لا شيء"، كأنما ينتظر كثيرا كثيرا ليجد اللاجدوى فقط، ربما مع الوقت يعيش اليأس ويتوقّف عن الانتظار البائس ويكتفي بذاته وما فيها، وقد نسِب للإمام علي بن أبي طالب قوله مخاطبا الإنسان: «وتحسب أنك جرْمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ". ولأواصل الحديث عن تجربة الشاعرة مريم بوشارب لا بد من الإشارة إلى أن لغتها الشعرية تنهل من بحيرة المختلف.. إنها تجعل الكلمات تنخلق من جديد، وتتعامل معها كأنها بناتُها، وكأنها هي الأخرى طفلة الكلام التي تنقب عن الشعر في تربة الممكنات، لا الكائنات السائدة.. وهذا الطريق الذي تسلكه يمنحها كثيرا من الوحدة التي تقول أكثر عن العالم، والتي تقطف من شجرتها ثمرة الحقيقة التي تكشف أننا في سجن مفتوح فقط: «كلّ الأحداث الأخيرة سيئة على نحو جميل أستيقظ فأجد النافذة مغلقة وكأنها نامت في طوف الأبد الباب موصدٌ والأغطية ثقيلة طرف لساني متجمّد ومذاقٌ لاذعٌ في فمي صوتُ هديل الحمام وزقزقة العصافير موسيقى السكون وهيّ تؤكد لي وِحدتي البائسة أرانب الأفكار وهي تقفز داخل حُلمِ امرأة ميّتة الزمن وهو يمضي، العقارب وهي تُتكتكُ على عجلٍ الموت... هبة النهاية". هنا بالذات، رمزيات شعرية مهمة: (النافذة المغلقة، سيئة على نحو جميل، الباب موصد، الأغطية ثقيلة، لساني متجمد، موسيقى السكون، داخل حلم امرأة ميْتة...إلخ). ومن البارز في هذا النص أنه اشتغل على تقنيات المفارقة على أكثر من مستوى وبأكثر من طريقة. فالمفارقة الأولى كانت بين الإقامة في سجن الوحدة، وفي الآن نفسه فضح قيود العالم الخفية التي تطلّ عليه من نافذة مغلقة في الواقع مفتوحة في المخيال. والمفارقة الثانية تتجلى في الجمل التي انتقيتها أعلاه بين قوسين. وأعتقد أن الشاعرة نجحت في بناء مفارقاتها بذكاء لأنها اعتمدت تقنية قصيدة التفاصيل التي جعلت مرايا وحدتها عيونا على حقيقة الواقع القبيح. ومثلما تكتب الشاعرة عن المفقود في العالم وهو جماله وعدله؛ تكتب عن فقدها هي، أتحدث عن قصيدتها عن أمها المؤثرة جدا: «حكّة في القلب يا أمي وامتدادٌ إلى عينيكِ يحملني لتهدجات صوتك وألوان طيفك إلى صورتِك ودبّة الخُطى التي تحملني إليكِ ما عاد في المقابر إلا الصمتُ والخوف والريحُ تعوي كالذكريات البائدة أود أن أصرخ.. أنْ عودي ولكنّ العائد من الموت كالعائد بالزمن محضُ تهيؤاتٍ وخيالاتٍ تسقطُ كالأدعية الحزينة كالأماسي الباهتة ك ليلة فِراقك .. نمتُ ولا زال مشهد الياسمين فوق قبركِ يؤرقني يا أماه..".. يأخذ هذا النص بعدين؛ الأول ذاتي خاص بالشاعرة، والآخر جمعي لأنها استطاعت أن تجعل فقد أمها قيمة إنسانية مشتركة يشعر بها كل من جرب هذا النوع من الفقد. ولأن مريم تملك خلطتها الشعرية السحرية تعرف كيف تعمٌق الألم إلى أقصاه، وهي بهذا لا تكتب للقارئ ما يغازل حياته البائسة، بل تكتب له ليستفيق من وهمه ليدرك الكابوس البائس الذي يسميه الحياة في واقع يحاصر الإنسان من كل ناحية وسبيل. لا تتوقف فلسفة الفقد هنا، خاصة في قصيدتها "مشهد ألم"، حيث تقوم ببناء مفارقة رهيبة: «أشعة الشمس الدافئة زرقة السماء ومزق الغيوم الامتداد الأخضر الحقول الوارفة زقزقة العصافير فوق رؤوس الشجر الأزهار والبساتين المثمرة الأسطح القرميدية للمنازل الريفية موسيقى الطبيعة ونغمات الكون كل هذا الجمال غير قادر على إزاحة لحظة فقد واحدة الألم المبرح للخسارة الأبدية". قامت الشاعرة في هذا النص بتقديم كل جماليات العالم، لتجعلها بلا قيمة أمام فقد عظيم، لتكون باهتة أمام ألم أسطوري. إنها في هذا النص تؤثث مفهوم القيمة.. أن ما نملكه أهم من العالم وما فيه، وأن ما نفقده يجعل العالم فارغا من المعنى. في مجموعتها الشعرية الأولى: "كدغلة في فم السراب"، أثبتت أنها تكتب قصيدة النثر بوعي كبير، على عكس كثير من الشواعر اللواتي يجعلن نصوصهن غارقات في العواطف الرومانسية شبيهاتٍ بالخواطر. لكن نص مريم متأمل، مفكٌر، يستعمل تقنيات كثيرة كالتفاصيل والومضة والمفارقة والسرد ...إلخ. مع لغة تترواح ما بين الكثافة التي يتطلبها المعنى، أو البساطة التي يستعملها الخطاب الخفي وراء الكلام الهادئ. بقي على مريم بوشارب أن تواصل مغامراتها الشعرية، ومقامرتها من أجل القبض على الممكن والجديد، ومن وجهة نظري النقدية أعتبرها من أهم الشواعر اللواتي كتبن قصيدة نثر حقيقية بعيدة عن شوائب الخاطرة هي وقليلات ممن يكتبن قصيدة النثر ببراعة. مريم بوشارب اسم شعري جزائري تشق طريقها بخطى واثقة في كتابة الجملة الشعرية الأكثر اختلافا غالبا، مع وجود جمل مألوفة لكنها قليلة جدا، وعلى مريم أن تتجاوزها لأنها تمتلك قدرات شعرية مهمة تستطيع تطويرها لتقدم لقصيدة النثر مثالا سيكون من أجمل متونها المعاصرة.