أظهر العدوان على غزّة حجم اللاّعدل في النّظام الدولي ممثلا في هيئة الأممالمتحدة، التي وقفت موقف المتفرّج من حرب الإبادة التي يشنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، مستهدفا المدنيّين العزل، و على وجه التحديد الأطفال والنساء، بعد فشله في الوصول إلى المقاومين. هذا الصّمت يذكّرنا بالهبّة غير المسبوقة لهذه الهيئة عندما تعلق الأمر بالحرب الروسية الأوكرانية، فبمجرد إعلان روسيا عن تنفيذ عملية عسكرية في أوكرانيا، اجتمع مجلس الأمن في جلسة طارئة لإيقاف العملية. أمّا في حال الحروب المتكرّرة على غزة، فلم يحرّك هذا المجلس ولا الهيئة ساكنا، بسبب استخدام حلفاء الكيان حق النقض "فيتو"، لمجرد فرض هدنة إنسانية للسّماح بدخول المساعدات إلى القطاع. وبدل ذلك فرض حصارا دوليا على غزة المحاصرة منذ 16 عاما، فمنع عن الفلسطينيّين الماء والغذاء والدواء والوقود، ليقضي النّاجون من القصف نحبهم في مراكز صحية لا وقود فيها لتشغيل المعدات، وليحلّ الموت في كلّ مكان، قصفا أو جوعا أو صدمة. في وقت زوّد الغرب الذي يرفع شعارات الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، أوكرانيا بالعدّة والعتاد لمواجهة روسيا، راح يزوّد الكيان الصهيوني بشتى أنواع الأسلحة، ويقدّم الدعم المالي والإعلامي لتنفيذ إبادة جماعية ضد سكان غزة، يهدّد كل من يحاول مساندتها بحاملات الطائرات الراسية شرق المتوسط. هذه الإزدواجية تؤكّد فشل الأممالمتحدة التي أنشئت غداة الحرب العالمية الثانية، والتي كان هدفها الأساس حفظ السلم والأمن الدوليين، وتمكين الشّعوب من العيش بحرية على قدم المساواة، لكن الظاهر أنّ الشّعوب المعنية هي الشعوب التي كانت تتمتّع بحرية وقت تأسيس الهيئة، بدليل أنّ الشعوب المستعمرة لم تستشر حينها، ولا يؤخذ برأيها الآن، رغم أنها أغلبية في الجمعية الأممية التي لا تملك قراراتها الصفة الإلزامية، عكس قرارات مجلس الأمن، الذي يسيطر عليه ثلاثة من حلفاء الكيان الصهيوني: الولاياتالمتحدةالأمريكية، فرنسا وبريطانيا. 16 عاما من الحصار بعد 56 عاما من الاحتلال، استطاع الفلسطينيون في غزة دحر المحتل الصهيوني عن أراضيهم، بعد الانتخابات التشريعية 2006 التي فازت فيها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بأغلبية برلمانية، ومذاك اعتبر الكيان الصهيوني القطاع إقليما معاديا. وفي العام الموالي، حاول المحتل شق الصف الفلسطيني باختلاق صراع سياسي بين "منظمة التحرير الفلسطينية" فتح، وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" لإضعاف الطرف الفلسطيني وتشتيت جهود المقاومة، إلى جانب تحويل الصراع من فلسطيني - صهيوني، إلى فلسطيني - فلسطيني، وبالتالي، تقليل تكلفة الحرب على نفسه. وفي العام 2008 نفّذ الكيان الصهيوني هجوما دمويا على القطاع أسفر عن سقوط 1410 شهيداً، منهم 355 طفلاً و240 امرأة و134 شرطياً و1032 من المدنيين، و18 نتيجة عمليات اغتيال، وبلغ عدد المصابين 5380، منهم 1872 طفلاً و800 امرأة. حسب ما أوردته وزارة الصحة الفلسطينية آنذاك. ولم يكن هذا العدوان هو الأخير إذ أتبعه المحتل بعمليات أخرى لا تقل دموية، وخلفت الاعتداءات آلاف الشّهداء، ودمّرت - في كل مرة - عددا هائلا من البنى التحتية، دون أن تستطيع دولة الاحتلال تحقيق هدفها على مدار 16 عاما من الحصار، والمتمثل في القضاء على حركة "حماس" التي يصنفها المحتل وحلفاؤه اليوم ب "منظمة إرهابية"، رغم أن الإرهاب الحقيقي هو ما يجري في قطاع غزة من حرب إبادة. تكييف المصطلحات من بين الأمور التي كشف عنها العدوان الجاري على غزة، هو تكييف المصطلحات وإخراجها عن سياقها القانوني الذي وجدت لأجله، إذ ومنذ بدء الهجوم الصهيوني الدموي ضد المدنيين في قطاع غزة، يكرّر ممثّلو الكيان في الهيئات الأممية وأمام وسائل الإعلام مصطلح "الدفاع عن النفس"!! ويشير مصطلح الدفاع عن النفس إلى "الحق الذي يقرّره القانون الدولي لدولة أو لمجموعة من الدول بأن تستخدم القوة لصد عدوان مسلح في حال ارتكب ضد سلامة إقليمها أو استقلالها السياسي. ويجب أن يكون الدفاع متناسبا مع العدوان، ويتوقف حين يتمكّن مجلس الأمن من اتخاذ التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين، أي أن الدولة التي تتعرّض لهجوم مسلّح مباشر وجسيم، يمكنها استعمال القوة المسلحة من أجل ردّ العدوان عن نفسها بشكل فردي أو جماعي، ويجب أن يكون الدفاع الشرعي هو الطريق الوحيد أمامها، ويجب أن يكون متناسبا مع أعمال العدوان وغير متجاوز لها، وأن يكون الدفاع موجّه بشكل مباشر ضد مصدر الهجوم المسلح، ولكن بمجرد تدخل مجلس الأمن يمكن وقف الهجوم وحل النزاع". هذا بالنسبة للتعريف القانوني للدفاع الشرعي عن النفس، لكن في الحالة الفلسطينية، لا يمكن أن يتذرّع المحتل بالدفاع عن النفس، لأنّ الاحتلال في حد ذاته هو حالة اعتداء على سلامة أراضي دولة أخرى. ورغم ذلك وإذا اعتبرنا أنّ الأمر يتعلق بحرب بين كيانين، فإن المحتل الصهيوني قد كسّر كل قواعد الاشتباك، وانطلاقا من التعريف أعلاه، فإن الرد لم يكن متناسبا أبدا، بفعل استخدام المحتل العنف المكثف واستهداف كل ما هو مدني، كما أن حلفاءه الفاعلين في مجلس الأمن حالوا دون إقرار وقف إطلاق النار بل وحتى دون هدنة إنسانية. ومن المصطلحات الأخرى التي تم تكييفها جريمة الإبادة الجماعية، والجريمة ضد الإنسانية، وجرائم الحرب التي كيّفت على أنها مكافحة للإرهاب، وتعرف جريمة الإبادة الجماعية حسب المادة 2 من اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعية على أنها "أي من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا؛ فرض تدابير تهدف إلى الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى". وقد ارتكب الكيان الصهيوني معظم هذه الأفعال، لكن الممارسة السياسية كيّفت ذلك على أنه دفاع شرعي عن النفس ضد "حركة حماس"، وليس ذلك بجديد على الكيان وحلفائه، فقد ارتكب مجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا وغيرها من الجرائم التي لم يحاسب عليها، بل وَفّر له الغرب الحليف الغطاء السياسي والعسكري. الإرهاب لصد المقاومة لم تتّفق الدول على تعريف موحّد للإرهاب، فهو يكيف حسب أهواء الدول، فما يقوم به الكيان الصهيوني والذي يشتمل على كل أركان العمل الإرهابي، يدخل في خانة الدفاع عن النفس، بينما تعتبر المقاومة في فلسطين سواء تعلق الأمر بحركة المقاومة الإسلامية "حماس" التي اتخذت من السلاح نهجا لتحقيق الاستقلال، أو منظمة التحرير الفلسطينية "فتح" التي تعتمد القنوات الدبلوماسية والسياسية والحوار طريقا لتحقيق السلام، فكلاهما منظمة إرهابية في تصنيف الولاياتالمتحدةالأمريكية، رغم أن "فتح" طلبت من هذه الأخيرة شطبها من قائمة المنظمات الإرهابية، إلا أنها لم تفعل. وعليه وافق الغرب بأن يستعمل المحتل الصّهيوني الإرهاب لصد عمل المقاومة المشروع. دمار جسيم خلّف العدوان على غزة المتواصل منذ شهر ويزيد، خسائر جسيمة وفظائع مروعة قدرت بأزيد من عشرة آلاف شهيد، أكثر من 70 بالمائة منهم أطفال ونساء (إلى غاية كتابة هذه الأسطر)، وتدمير لأكثر من 60 بالمائة من البنية التحتية، ناهيك عن استهداف المستشفيات المكتظة بالجرحى المتطلعين لتلقي الإسعافات، ليجدوا أنفسهم عرضة للقصف. وسجلت وزارة الصحة تعرّض 15 مرفقا صحيا و51 عيادة صحة أولية للتدمير، إلى جانب وقوع 130 اعتداء على القطاع الصحي، حيث استشهد 192 من الكوادر الصحية و36 من الدفاع المدني، بينما تضرّرت 50 سيارة إسعاف، بينها 32 تعطلت عن العمل بشكل كامل، وتم إغلاق 16 من أصل 35 مستشفى في قطاع غزة و51 من أصل 72 مركز رعاية صحية أولية. ولم تسلم منشآت "الأونروا" من الهجمات المسعورة للمحتل الصهيوني، حيث دمّر القصف 42 منشأة تابعة لها. مصداقية على المحك أنشئت الأممالمتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بديلا عن عصبة الأمم التي فشلت في منع نشوب حرب عالمية أخرى. وكان هو السبب الرئيس في فشلها إلى جانب محدودية تمثيلها على اعتبار أن معظم دول العالم كانت تحت الاستعمار الأوروبي، كما أنّ الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تكن عضوا فيها ما تسبّب في اختلالات هيكلية، لكن السبب المعنوي الأول هو أنها كانت عصبة المنتصرين كما سماها البعض، وهي لم تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول المنهزمة، وراحت تفكّكها وتفرض عليها عقوبات قاسية، باختصار هي عصبة الأقوى. وبمقارنة ظروف فشل عصبة الأمم مع وقائع هيئة الأممالمتحدة، يمكن القول إن هناك وجه تشابه كبير من حيث النقطة الأخيرة، فهيئة الأمم لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الضعيفة والصغيرة، ولا تلك التي لم تكن مستقلة أثناء التأسيس، يضاف إلى ذلك ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا متشابهة، وتكييف المصطلحات القانونية طبقا للأهواء السياسية، وغيرها من التجاوزات التي أضعفت الهيئة التي تأسّست منذ ثمانية عقود. وأوضح موقف هذه الهيئة التي وصفها القائمون عليها بالفاشلة، الازدواجية في التعامل وتطبيق القوانين التي سبّبت الإخفاق في إيقاف حرب جرّدت الإنسان الفلسطيني من أية حقوق، ووضعت مصداقية الهيئة الأممية على المحك، خاصة في ظل تنامي الدعوات لتغيير نظام عملها، وضرورة إصلاح هيئاتها على رأسها مجلس الأمن الذي يتحكّم فيه خمسة من أصل أكثر من 190 دولة عضو في المنظمة، تديره وفقا لمصالحها هي لا وفق المصلحة العليا للشعوب وتحقيق السلام العالمي. من المؤكد أنّ العدوان على غزة وبعد أن يصل إلى نقطة لن يستطيع معها المحتل فعل شيء آخر، وبعد أن يوقف عدوانه ستّتضح ملامح أخرى في الشرق الأوسط الذي لن يبقى على حاله، وستتغيّر فيه موازين القوى لصالح قوى جديدة صاعدة، وتتراجع قوة الكيان الذي عمّر قرابة ثمانية عقود، لأن التاريخ يؤكد أن اللجوء إلى استعمال القوة المفرطة إنما ينذر بنهاية ذلك الطرف؛ لأن ذلك مرادف للاستبداد والظلم. وفي هذا الصدد، يقول مؤسّس علم الاجتماع العلامة، عبد الرحمن بن خلدون، إن الظلم مؤذن بخراب العمران، وما طال الفلسطينيين طيلة عقود فاق كل مظاهر الظلم، ووصل ذروته في العدوان الجاري على غزة، الذي أسقط قناع الصهيونية، وفقد الكيان تعاطف الشعوب في الدول الحليفة التي انتفضت رفضا للظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، مطالبة بالحرية لفلسطين وإنهاء الاحتلال. صور ومشاهد الشّعوب من كل أصقاع الأرض، وهي تتظاهر نصرة لغزة، وتغريدات المؤثرين الاجتماعيين على مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، فيسبوك، تويتر، انستغرام، ورغم الحظر الذي يفرضه مالكوها على حرية التعبير استطاعت أن تفتح عيون الشعوب على حقيقة الإرهاب الصهيوني، الذي لا يعنيه السلام في شيء بل همّه الوحيد هو الإبادة وإراقة الدماء، تلك الصور والمشاهد تشبه تلك التي حدثت عندما قرّرت أمريكا خارج إرادة مجلس الأمن شنّ العدوان على العراق، لكن الفرق بين الواقعتين هو ظهور فواعل دولية جديدة تسعى لتغيير النظام الدولي، فهل تعجّل الحرب على غزّة بإنهاء القطبية الأحادية؟