في مطلع 1956 أوصى الشهيد العربي بن مهيدي نائبه سي مبروك الذي كان مرفوقا بالنقيب هواري بومدين الذي كان التحق في 31 مارس 1955 بالثورة أن يفكّروا في إطلاق إذاعة باسم الثورة تكون سندا للثورة في مواجهة الدعاية الاستعمارية وتقدّم للشعب الجزائري صفحات من تاريخه المجيد، وتبثّ بياناتها وأخبارها إضافة إلى تقديم تعليقات سياسية لمواجهة الحرب الدعائية من قبل فرنسا التي كانت تحاول زرع الشكّ والتعتيم في صفوف الشعب وخلق الدعايات المغرضة عن الثورة. كانت فرنسا تلك الفترة قد استحدثت إذاعة (صوت البلاد) وهو برنامج يومي راحت فرنسا تبثّ من خلاله مختلف السموم بأصوات جزائرية مُوحية كلّ مرة للشعب الجزائري بأنّ الثورة من صنع مجموعة من (الفلاقة) وقُطَّاع الطرق والمخرّبين والإرهابيين وغيرها من الأوصاف المشينة بحقّ المجاهدين والفدائيين، وأنّه سيتم القضاء عليهم قريبا، ثم استحدثت فرنسا إذاعات في مختلف المدن الجزائرية، إضافة إلى ما كانت توزّعه من بيانات مكذوبة وما توزّعه الطائرات من أطنان المنشورات في مختلف جهات الوطن وما تقوم به من دعايات وحرب تعتيم بواسطة المصالح المختصة من مخابرات ومختصين في الحرب النفسية والدعائية، كما كانت فرنسا تستعدّ لإطلاق التلفزيون قبيل نهاية ذلك العام ضمن حربها النفسية والإعلامية والدعائية الشاملة التي خصّصت لها حوالي مليار ونصف المليار من الفرنكات يوميا. وقبل التحاق الشهيد بن مهيدي بلجنة التنسيق والتنفيذ وبالعاصمة، بدأ بو الصوف في التفكير الجدّي في انطلاقة تلك الإذاعة. غير أنّه لا يجب أن يفوتنا هنا أنّ قيادة الثورة كانت قبل ذلك العام، ومنذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة، قد شرعت في بث برامج وتعاليق وتحليلات سياسية خاصة في إذاعة صوت العرب بالقاهرة قبل أن تتوسّع العملية لتشمل 15 إذاعة في مختلف جهات العالم التي تمكّنت فيها قيادة جبهة التحرير الوطني من إسماع صوت الثورة لمختلف أنحاء المعمورة. وإذا كان بيان أول نوفمبر يعدّ أول عمل إعلامي جسّد أهداف الثورة ووضع معالمها بكلّ جلاء ووضوح خصوصا في ما يتعلّق باستعادة الاستقلال واسترجاع بناء الدولة الجزائرية وفق منظور ديمقراطي اجتماعي ضمن المبادئ الإسلامية، فإنّ البيانات والمناشير وكذا صحيفة المقاومة في 22 أكتوبر 1955 ثم المجاهد في جوان 1956 لم تكن كافية لتحقيق أهداف الثورة، ولذلك فإنّ المرحوم بو الصوف أخذ توصية المرحوم بن مهيدي على محمل الجدّ. وهكذا، مع مطلع 1956، بدأ عبد الحفيظ مع محمد بوخروبة الذي أطلق عليه بو الصوف اسم هواري بومدين الإعداد لذلك المشروع، وهذا قبل أن ينظم لهما بعد إضراب الطلبة في ماي 1956 كلّ من أحمد التاوتي المعروف بشعبان والذي استشهد في أول نوفمبر 1957 والسايح الميسوم المعروف بالحنصالي. كانت قيادة تلك الناحية تتوفر على عدد من التقنيين الجزائريين الذين بدأ الراحل بو الصوف في إعدادهم. كان بو الصوف إلى جانب كلّ الصفات التي يتميّز بها القائد يمتلك استراتيجية متكاملة للثورة في بعدها العسكري والأمني والاتصالي والإعلامي والدعائي والنّفسي. وخلال تلك الفترة التي كان فيها الراحل بو الصوف يعدّ الخطة لبعث تلك الإذاعة، وصلته معلومات من داخل القصر الملكي المغربي في عهد الراحل محمد الخامس الذي كانت علاقاته وثيقة مع الثورة الجزائرية وقادتها. كانت تلك المعلومات تقول إنّ فرنسا قد أرسلت للقصر الملكي المغربي ضابطا متميّزا في سلاح الإشارة تابعا للقوات الفرنسية من أصل جزائري لتنصيب أجهزة تنصّت وإرسال داخل القصر ولصالح الجيش الملكي المغربي، وأنّ ذلك الضابط سبق له أن شارك فرنسا في حرب فيتنام. كان هذا الضابط هو النقيب علي ثليجي الذي أصبح اسمه الحربي لاحقا تحت قيادة الثورة الرائد عمر ثليجي، والذي تحمل جامعة الأغواط اسمه حاليا. كان العقيد بو الصوف صارما يختار مساعديه بدقّة، كان هذا الرجل الثوري يدقّق في كلّ شيء، فهو يبحث في الصغيرة والكبيرة فيما يتعلّق بالأحداث وبالأشخاص قبل أن يسند لهم أية مهمة أو مسؤولية، وكان يبحث عن أكفإ الرجال والنساء. طلب من رجاله أن يأتوه بهذا الضابط المجنّد في صفوف القوات الفرنسية ثليجي. وهكذا تمت ترقية هذا الضابط ليصبح رائدا تحت لواء جيش التحرير الوطني، ومن هنا كانت البداية مع عمر ثليجي وموسى صدار ومسعود زقار وعبد الكريم حسني للإعداد لانطلاقة الإذاعة وتحضير عمل شامل يساعد قيادة جيش التحرير في الحصول على المعلومات المتعلّقة بتحركات العدوّ، وكذا إقامة قاعدة اتصال لتنفيذ أهداف الثورة في دحض سياسة العدوّ، وإقامة شبكة اتصالات بين مختلف قيادات الولايات ومع مختلف هيئات الثورة داخل وخارج الوطن. ومع إضراب الطلبة في ماي 1956 جاءت مجموعة من الشباب الذين قرر بو الصوف أن يجمعهم ضمن 36 متربّصا في دورة مغلقة مدة شهر ابتداء من 8 أوت 1956. وقد قام الثلاثي ثليجي وصدار وعبد الكريم حسني بتدريب هؤلاء الشبان الذين شكّلوا النواة الأولى في سلاح الإشارة وفي إطلاق إذاعة الثورة صوت الجزائر الحرة المكافحة في 16 من ديسمبر 1956. كان التدريب قاسيا يبدأ يوميا من السادسة صباحا إلى غاية منتصف النهار، ثم يستأنف بعد الظهر إلى غاية السابعة مساء. وهكذا فإنّ المرحوم مسعود زقار الذي كانت تربطه علاقات وثيقة مع بعض الضباط الأمريكيين في قاعدة نواصر الأمريكية بالمغرب، قد تمكن مع مطلع أكتوبر 1956 من شراء معدّات هامة وشاحنة من نوع GMC استخدمت في سلاح الإشارة، وانطلاق البث لصالح إذاعة الثورة. أشرف على عملية انطلاق إذاعة الثورة في 16 ديسمبر 1956 العقيد عبد الحفيظ بو الصوف الذي كان مصحوبا بنوابه الثلاثة في الولاية الخامسة التي أصبح على رأسها عقب مؤتمر الصومام وانتهاء مهمة العقيد الشهيد محمد العربي بن مهيدي كلّ من : الرائد محمد بوخروبة المعروف بهواري بومدين والمكلّف بالجانب العسكري في الولاية الخامسة آنذاك. الرائد أحمد التاوتي المعروف بالرائد شعبان المكلّف بالجانب السياسي في الولاية الخامسة والذي استشهد في أول نوفمبر 1957. الرائد السايح الميسوم المعروف بالرائد حنصالي المكلّف بالمخابرات في الولاية الخامسة والذي استشهد في 27 جويلية 1957. وكان إلى جانب هذه الكوكبة الرائد علي ثليجي. وقد تشكّل الفريق الأول لتلك الإذاعة من عدد من المذيعين والمحرّرين من بينهم : رضا بن الشيخ الحسين الذي كان يحمل اسم عقبة بالعربية. وعبد المجيد مزيان الذي كان يحمل اسم صلاح الدين بالفرنسية. وأحمد بن عبد الله الذي كان يحمل اسم يوغرطة بالقبائلية. كانت برامج الإذاعة مع انطلاقتها الأولى عبارة عن بثّ أخبار عن الثورة وتعليقات سياسية وبرامج تتمحور حول تاريخ الجزائر بما فيه تاريخ المقاومات الشعبية ضدّ المحتل. وبعد فترة من البث، تعرّض جهاز الإرسال إلى خسائر نتيجة القصف الذي تعرّضت له من طرف طائرات الاستعمار الفرنسي الذي أقلقته تلك الإذاعة بما كانت تبثه. ثم عاودت هذه الإذاعة البثّ من جديد في 1959 إلى غاية استعادة الاستقلال في 1962، حيث كان على رأسها طيلة هذه الفترة الملازم محمد السوفي رحمه الله الذي سبق لي أن تطرقت إلى جزء من مساره في كتابي : (الرجل الذي رفض الوزارة ). وإذا كانت المرحلة الأولى التي تولى فيها مسؤولية تلك الإذاعة عبد الحميد غوار قد تميّزت ببثّ مباشر وبعمليات تغيير لجهاز الإرسال كلّ مرة، فإنّ المرحلة الثانية انتهجت فيها الثورة أسلوبا مغايرا، وهو فصل جهاز الإرسال عن البرنامج الذي كان يتم بثه، حيث كان يتم تسجيل الأخبار والبرامج ليتم بثها لاحقا. وقد جرت عملية انطلاق الإذاعة في المرحلة الثانية بعد تشكيل الحكومة المؤقّتة برئاسة فرحات عباس في 19 سبتمبر 1958 حيث أصبحت استراتيجية الثورة واضحة في مختلف المجالات بما فيها الجانب الإعلامي والدعائي الذي تم إسناده إلى رجل الثورة الفذ والإعلامي المميّز امحمد يزيد الذي أضافت خبرته السياسية في مجال الدعاية والإعلام جرعات قويّة للثورة فأربكت خطط الاستعمار رغم الآلة الحربية والدعائية التي وظفها في محاولة للقضاء على الثورة، وخاصة بعد الانقلاب العسكري الذي قاده مجموعة من الجنرالات الفرنسيين الدمويين الذين وعدوا دوغول بعد تنصيبه في 13 ماي 1958 بالقضاء على الثورة في ظرف قصير لا يتجاوز النصف الأول من العام الموالي 1959. حضر عملية انطلاق إذاعة الثورة في مرحلتها الثانية كلّ من سعد دحلب الأمين العام للحكومة المؤقتة وبوعلام بالسائح ممثلا للوزير العقيد بو الصوف وزير العلاقات العامة والاتصالات. وكان من أبرز الرجال الذين عملوا كطاقم في تلك المرحلة: المدني حواس ورشيد النجار كمحررين للتعليقات السياسية والأخبار وعيسى مسعودي كصوت جهوري مميّز، حيث كانت التعليقات التي يبثها عبر تلك الإذاعة تهزّ مشاعر الشعب الجزائري وتلهب حماس المجاهدين، إلى جانب الشاعر الفذّ صاحب الصوت الجهوري هو الآخر محمد بوزيدي، وعبد العزيز شكيري صاحب القصة المعروفة في 28 أكتوبر 1962 عندما قام بإنزال العلم الفرنسي من فوق مبنى الإذاعة والتلفزيون وأصبح منذ ذلك اليوم جزائري الهدف والصوت والصورة بعد أن كان قبل ذلك يبث كلّ سموم الاستعمار وأكاذيبه. كما كان عدد آخر من المجاهدين يعمل بإذاعة الثورة سواء بالفرنسية أو القبائلية، من أمثال عبد السلام بلعيد ومصطفى التومي وكمال داودي. وكان يسهر على تلك الإذاعة فريق تقني كان من بين أعضائه عبد الرحمن الأغواط المعروف بالعروسي والسعيد كشرود وقدور ريان والعقيد السابق في الجيش الوطني الشعبي عمار معمري وغيرهم رحمهم الله. وكان لهذه الإذاعة صدى كبيرا في أوساط الشعب الجزائري وفي أوساط المجاهدين لما كانت تبثّه من تعليقات حماسية عمّقت درجة الوعي لدى الشعب الجزائري بحتمية الانتصار وجعلت فرنسا تقدم على أكثر من مشروع فاشل ومن بينه ستوديو كليبير بفرنسا الذي حاول تقديم نسخة مفبركة من إذاعة الثورة تماما كما فعلت فرنسا قبل ذلك مع صحيفة المجاهد التي زوّرت بعض نسخها. ولكن كلّ تلك الألاعيب لم تنطل على الثورة ولا على الشعب الجزائري، فقد توقف استوديو كليبر تماما كما انكشفت قبله لعبة تزوير المجاهد. وبذلك ربحت الثورة معركتها في الكفاح المسلّح ميدانيا، وفي معركة المواصلات والاتصال والإعلام، فانهزمت فرنسا وخرجت مدحورة في جويلية 1962 بعد ثورة كانت من أعظم ثورات القرن العشرين. الحلقة الثانية