على رأس العام يتصّدرُ الحالَ مناخاتُ اشتباك أيام الميلاد بمناخات ذكرى حرب الإبادة التي لم تكن على غزّة فقط، ولكن على كلّ فلسطيني في الوطن والشتات، في مفارقة اقتران الموت بالميلاد، ومشوباً بذكرى الانطلاقة إصراراً على الولادة في الأيام التي سمع فيها الرعاة في الجليل ترانيم الملائكة في السماء التي تحتفي ببشارة الملكوت الأخير، مرتلةً المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، كأنّ دورة الإنسان ودورة الزمان تستدعيان مغزى المكان حيث تُكتم صرخات الولادة ويُسحق الأطفال وتُصلب الآمال، مرةً على خشب الصليب، ومرة بالطائرات والفوسفور والحديد، لم تكن على الفلسطينيين فقط ولكن على كلّ من يجرؤ على النظر للسماء والاستماع لترانيم الحقّ والأيمان باحتمال البشارة، التي أرادوا كبتها وإخراس صوتها في المهد، كما كانوا دوماً وكما قتلوا الأنبياء ويواصلون قتل الفلسطينيين، على رأس العام حصيلةٌ تضاف إلى حصيلة كلّ الأعوام، ها نحن نحصي شهداءنا وأسرانا وجرحانا ولاجئينا ومشرّدينا، ها نحن نحصي عددنا وقد تكاثرنا، في يومٍ ما قال محمود درويش "مليون عصفورٍ على أغصان قلي ... تعزف اللّحن المقاوِم"، ها نحن الآن أحد عشر مليوناً، ها نحن أيضاً نحصي عدد بيوتنا المدمّرة والمغتصبة، وعدد المعاقين، نحصي حصاراتنا وعدد الحواجز بين مدننا وقرانا، والحواجز التي وضعوها بيننا وبيننا، والأراضي المصادَرة وأشجار الزيتون والأراضي المجرّفة، وطول الجدار، وعدد المستوطنات، والمستوطنين، جنود بلا بزّات يمارسون هوايتهم في اللصوصية وحرق المحاصيل، أين يجدون خيراً من هذه البلاد، يتمتّعون فيها بحرية النهب والتملّك كما يشاؤون، ويفرزون عقدهم وساديّتهم كما يشتهون، يدمّرون ويطلقون الرصاص، بتفويضٍ كاملٍ من نصوص العهد القديم، وبغطاءٍ شاملٍ من الكونغرس ومجلس الأمن، ماذا تغيَّرَ في النَّصّ، ألم يكن هذا هو الحال منذ عدّةِ آلافٍ من الأعوام، ومنذ أن تجاوزوا العدوان على الأشياء والإنسان إلى الاعتداء على السبت والزمان، حتى بدّلوا الكلِم عن مواضعه، وحرفوا الكلام، ونقضوا المواثيق والاتفاقيات، وحرّفوا مسارات المفاوضات، وغيّروا معالم المكان، وصادروا التاريخ والآثار، على رأس العام نعرف أنّهم وبعد أكثر من مائة عامٍ على بداية الهجمة علينا، وبعد ستين عاماً من النكبة مازالوا لم ينجحوا في تحقيق ذاتهم، ولم يفلحوا في إنجاز مشروعهم، ما زالوا يشنّون الحروب والنصب والاحتيال، ويتاجرون بأرضنا وأعضائنا، وكلّما هبّت ريحنا عليهم تحسّسوا كامل وجودهم، وما زالوا مستنفرين خوفاً من طفلٍ يولدُ في الناصرة والجليل، وما زالوا يلبسون الدروع والأقنعة ويهرعون إلى الملاجئ، ما زالوا محاصَرين خلف الحواجز في الخليل، ومازالت غزّة تحلم بالعودة إلى قريتها الأولى، ومعتصمةً بأحلام اللاجئين، مازلنا بعد كلّ هذه العقود ننزف ثورةً ومناضلين، رغم الانتدابات التي مازالت تمارسُ علينا، ورغم تحالفات الدول العظمى، ورغم انسداد المسارات مازال حقُّنا أبلجا، ما زلنا نملأ المشهد كاملا، وما زالت صورتنا التي أرادوا أن يُطفئوها معلّقةً كالشمس على حائط الضمير، مازال المتضامنون يزدادون إيماناً بنا والمثقفون، مازالت المؤسّسات الحقوقية والمنظمات الدولية محرَجةً أمام حقوقنا، مازالت حقوقنا كما بدأت، كاملة ما انتقصت، مازال وطننا بحجم الوطن، ومقاومتنا بحجم بلعين، وإصرارنا بحجم أمّ كامل الكرد، ما زلنا ننزف الشهداء، وما زلنا "نُربّي الأمل"، بعد ستين عاماً وكلِّ الحروب ها نحن نحصي أنفسنا، أربعة عشر مليوناً، ملء الوطن والشتات، نستعصي على اليأس ومشهد الخراب، أربعة عشر مليوناً من العاشقين، يعزفون لحن الوطن، ويسكنون الحنين.