لا يمكن تقديم الحضارة الغربية بقيادة القوى الغربية الكبرى ذات أولويات إنسانية أكثر من أنها بأبعاد توسعية في العالم. وما تحقّق بما يسمى بالحضارة الغربية هو في الحقيقة نتاج لممارسات استعمارية واستغلال موارد وإمكانيات الشعوب. وصول الغرب لنهضة صناعية وتكنولوجية راجع للاستعمار والهيمنة والتوسّع في العالم لأكثر من 300 سنة. بالمقارنة.. الصين مثلا وصلت لنهضة صناعية وتكنولوجية كبرى تجاوزت الغرب في فترة قصيرة لا تتجاوز أربعة عقود بإمكانياتها الذاتية وليس بالاستغلال والتوسّع. خامسا. الحضارة الشرقية وحوار الحضارات.. الصين نموذجاً : في مقابل الطرح المادي المنطلق للمنظومة الغربية تأتي الحضارة الشرقية القائمة على التباين في الثقافات والقيم والتواصل المتبادل. تعتبر الصين نموذجاً لذلك. يتمثل المنظور الصيني في أن التباين والاختلاف الثقافي والحضاري متغيّر للتواصل والتعاون وتبادل التجارب والمكتسبات وليس للتفوق والتميز. عاش الشعب الصيني، وتعيش الصين الحديثة هذا المنظور وتلك المقاربات في مواجهة التحديات والممارسات الغربية والاستفزازات بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد استرجاع أراضيها وجزرها المفصولة عن الصين الأم، وفي مقدمتها تايوان، أو بابتزاز الصين من خلال ما يسمى بحقوق الإنسان للتجمعات الصينية الموجودة مثلاً ب«شينجيانغ" بمبرر الدفاع عن المسلمين هناك، أو التبت، بمبرر الدفاع عن هوية سكان التبت، وفي الحقيقة أن ذلك لا علاقة له بمصالح سكان "شينجيانغ" والتبت. الهدف هو المسّ بنهضة الصين الصاعدة ودورها الدولي والإقليمي المتزايد وطرحها الديمقراطي والإنساني الفعلي ضمن التنمية العالمية المشتركة، والمنفعة المتبادلة من خلال مبادرات متعدّدة في العقدين الأخيرين على غرار مبادرة الحزام والطريق، والتي هي تحويل الفكر والتجارب القديمة إلى مشاريع مستقبلية للإنسانية جمعاء بما فيها الإنسان الغربي من خلال التوافق والانسجام بدل الصراع، كما عبّر عن ذلك الرئيس "شي جينبينغ" في لقاء الحزب الشيوعي الصيني مع الأحزاب السياسية في العالم (15 مارس 2023) بأن التعايش السلمي ومنع الحروب وإبعاد التوترات واحترام التنوّع الحضاري شروط مصيرية لنهضة وتعاون الأمم والشعوب.. ذلك ما تقوم به الصين في مناطق متعدّدة في العالم بالوساطة لحلول سياسية للأزمات الإقليمية والدولية (أوكرانيا، الشرق الأوسط: إيران والسعودية).. تعتبر الصين وسيط أمثل للأزمات بحكم أنها كانت وما زالت بعيدة عن الصراعات والتدخلات العسكرية. الشعوب تواقة لوضع حدّ للمآسي الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والأمنية التي تعيشها والتي هي سبب وخلفية ومنطلق الاحتجاج والمقاومة من أجل التغيير. المتغير الاقتصادي والتنمية المستدامة من خلال الاستثمار في البني التحتية هي رهان تعايش وتكامل الأمم والشعوب في مواجهة الاستغلال والتوسّع الغربي على غرار ما يحدث في إفريقيا في الوقت الراهن. سادسا. الحوار الحضاري العربي الصيني: يشكّل التواصل والحوار العربي الصيني نموذجا مثالياً لحوار الحضارات بحكم العمق التاريخي العريق والمجال الحضاري والجغرافي المترابط (الحضارة الشرقية) والتحديات المشتركة للطرفين من طرف الغرب في العصر الحديث. ترجع العلاقات العربية - الصينية بمحتوى التواصل الحضاري إلى أكثر من 2000 سنة، منطقاتها كان طريق الحرير الذي يضمن التبادل التجاري واكتساب الصناعات الصينية في مجال صناعة الخزف والورق وتبادل التجارب في مجال الاختراعات والمعارف الطبية والفلكية والتواصل الثقافي والدبلوماسي التي فتحت المجال للتعاون الصيني العربي وأسست لتواجد جاليات عربية بالصين بما فيها تبني الصينيين للثقافة الإسلامية والدخول في الإسلام في أماكن متعدّدة بالصين ليصبح ذلك رافداً للتواصل بين العرب والمسلمين من جهة والصينيين من جهة أخرى. مع تأسيس جمهورية الصين الشعبية (1949) التي كانت نتاجاً لتحدّ طويل للاستعمار المتعدد للصين (الاستعمار الغربي والياباني)، أصبحت الصين قوة أمامية في مناصرة الشعوب والأمم ضد الاستعمار والهيمنة.. يأتي في مقدمة ذلك العالم العربي. عقب انتصار الثورة الصينية معظم الدول العربية كانت تحت الاستعمار. بل أكثر من ذلك الاختراق الغربي للعالم العربي تضاعف بعد الحرب العالمية الثانية من خلال تأسيس الكيان الإسرائيلي (1948). هذا الأخير الذي أصبح محطة أساسية للاستعمار الغربي في المنطقة، مثلما عبر عنها الرئيس الصيني ماوتسي تونغ".. لآسيا بوابتان يدخل منهما الاستعمار، بوابة غربية واسمها (الكيان الصهيوني) وشرقية واسمها تايوان"، الصين نفسها كانت في مواجهة الغرب على حدودها الشرقية عبر تايوانالصينية. وجدت الشعوب العربية والشعب الصيني أنفسهم في جبهة واحدة ضد الاستعمار والهيمنة الغربية. شكّلت الثورة المصرية في المشرق العربي (1952) والجزائرية (1954-1962) في المغرب العربي مجالين كبيرين للدعم الصيني العربي المتبادل. أصبحت المبادئ والمنطلقات المشتركة للثورة الصينية والثورات العربية مرجعية ومصدر دعم لتحرير الشعوب من الهيمنة والتمييز العنصري. وضع عمق الترابط والدعم المتبادل العربي الصيني لتصبح الدول العربية قوة دعم لاسترجاع الصين لمكانتها في الأممالمتحدة سنة1971. لعبت الجزائر دوراً أساسياً في طرد تايوان من منظمة الأممالمتحدة واسترجاع الصين لمكانتها في المنظمة، وينتقل حجم التعاون العربي – الصيني من أقل من 40 مليار دولار قبل التسعينيات من القرن الماضي، إلى أكثر من 400 مليار دولار سنة 2023 وانضمام كل الدول العربية، تقريباً، في مبادرة الحزام والطريق (20 من 22 دولة عربية) وتدخل دول عربية في العقد الأخير في علاقات تعاون استراتيجي مع الصين. يرجع التطور السريع والمتزايد في العلاقات العربية الصينية إلى: - 1. الصعود السلمي للصين والتطور الصناعي والتكنولوجي الصيني المتزايد بمنظور وآليات المنفعة المتبادلة. - 2. المنظور العربي للصين يتمثل في أنها كحضارة ودولة عبر تاريخها العريق لم تمارس فيه الاستعمار والتوسّع، بل الصين نفسها كانت ضحية لذلك. - 3. التوجّه العربي المتزايد للانتقال من الصناعات التقليدية إلى التطور الصناعي والتكنولوجي والرقمنة أين أثبتت الصين تفوقها ودعمها للآخرين لاكتساب ذلك. - 4. متغيّر النفط والغاز وحاجة الطرفين لذلك. العالم العربي بحاجة لتصدير النفط والغاز والموارد الأولية مقابل عائدات لدعم المشاريع التنموية، والصين بحاجة لذلك لصناعاتها واقتصادياتها الكبيرة والمتطوّرة. سابعا. آليات لتعزيز الحوار الحضاري العربي الصيني: الحوار الحقيقي هو الذي يستهدف التنمية والرفاهية للشعوب، وليس البحث عن الفوارق في الثقافات والمعتقدات.. التطور الصناعي والتنمية لا يتماشى مع القوى الغربية الكبرى؛ لأنه يبعد التبعية ويزيح الروابط الاستعمارية. العناصر الفاعلة في المنظومة الغربية تريد وتعمل على ترسيخ التبعية واستمرارها على حساب الأولوية القصوى وهي التنمية البناءة والمستدامة؛ وذلك لأسباب متعددة من بينها: - 1. أن التنمية تكشف خلفية الاستعمار والذهنية الاستعمارية بترك الشعوب تعاني التخلف والتهميش.. شعوب العالم تدرك الفارق بين الصين والغرب.. الشعوب العربية والإفريقية عاشت الدعم الصيني للمشاريع التنموية حتى في العقود الأولى عقب تأسيس جمهورية الصين الشعبية رغم الحصار والانغلاق الغربي على الصين خلال هذه الفترة (1949-1980) بما فيه الدعم الصيني لمشاريع تنموية بإفريقيا والعالم العربي ومناطق أخرى من العالم مثل خط السكة الحديدية الكبير الممتد على مسافة طويلة بين تانزانيا وزامبيا (1900كلم)، السدود المتنوعة وصناعة الخزف والصناعات الميكانيكية والفلاحية عبر دول متعددة بإفريقيا والعالم العرب. وفي العقود الأخيرة، تضاعف دعم الصين للبنى التحتية لمختلف دول العام، يأتي العالم العربي في مقدمة ذلك (الموانئ، الطرقات، السكك الحديدية، السدود،الصناعات الفلاحية والميكانيكية، الطاقة الشمسية، الصناعات البترولية.. إضافة إلى العمران والمؤسسات الصحية والهياكل الإدارية....). - 2. تكشف ممارسات وسلوكيات المنظومة الغربية المتطرّفة في تأزيم الأوضاع باسم صراع الهوية أو العقيدة، وبالتالي خلق بيئة للاستثمار في الأزمات من خلال سوق الأسلحة التي تتطلب وضعا متوترا لمضاعفة الطلب على الصناعات والتجهيزات العسكرية مصدرها الشركات والمؤسسات الصناعية الغربية المنتشرة عبر العالم. شكل التواصل الحضاري العربي – الصيني نموذجاً أمثل للعالم من خلال: - 1. مبادرة الحزام والطريق بمحتواها الثقافي والعلمي والاقتصادي والصناعي والتكنولوجي رافداً أساسياً ومجالا أكبر للتعاون العربي الصيني ومستقبل العلاقات العربية الصينية، أثبتت أنها في مستوى تطلعات الشعوب والأمم للتنمية والمنفعة المتبادلة، وها هي السعودية مثلاً تتحول من دولة تتحفظ في العلاقات مع الصين عقب تأسيس جمهورية الصين الشعبية، إلى دولة في مقدمة الدول العربية في حجم التعاون والتبادل الاقتصادي مع الصين. - 2. تشكّل القمم العربية على مستوى هرم السلطة مجالاً أوسع وواعدا للعلاقات العربية الصينية وأكثر التزاماً بمبادئ وأطر العلاقات العربية الصينية. شكلت القمة العربية الصينية بالمملكة العربية السعودية (من 09 إلى 10 ديسمبر 2022) محطة جدّ هامة في تاريخ العلاقات العربية الصينية. قمة توصلت إلى الاتفاق حول 8 نقاط للتعاون بين الصين والعالم العربي متمثلة في الأمن الغذائي، الصحة، التنمية الخضراء، الابتكار، أمن الطاقة، الحوار بين الحضارات، العمل المشترك لتأهيل الشباب والأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي. تمّ التأكيد في هذه القمة على القيم المشتركة للإنسانية والرفاهية والمساواة والديمقراطية البناءة والحرية، وحق الشعوب في اختيار الطرق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتماشى مع أوضاعهم الوطنية ورفض التدخل في الشؤون الداخلية بحجة الديمقراطية وحقوق. نقاط تعكس المنظور الصيني الموثق في الكتاب الأبيض للصين المتضمن الشراكة الإستراتيجية عبر التعاون الاقتصادي والتعايش السلمي، وعبر عنه الرئيس الصيني شي جينبينغ في مناسبات متعدّدة بأن حوار الحضارات يتمّ من خلال التنوع الحضاري الذي هو مسار يعزز التعايش السلمي ويصنع الأسس الحقيقية للتنمية العالمية المشتركة. - 3. العلاقات العربية الصينية على المستوى الثنائي في مختلف المجالات تشكل رافدا مباشر ومصدرا ثابتا لتعزيز الحوار العربي الصيني من خلال مؤسسات رسمية لذلك (السفارات) وفي مقدمتها تفعيل الاتفاقيات الثقافية والإعلامية المصادق عليا بين الطرفين على غرار ما تمّ بين الجزائروالصين عقب زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى الصين (جويلية 2023). - 4. توجيه الإعلام لتقديم صورة مضيئة عن الحضارتين العربية والصينية في مواجهة التغليط والتشويه الإعلامي الغربي. - 5. منتدى التعاون العربي الصيني: يشكل المنتدى الذي تم تأسيسه منذ عقدين مجالاً أساسياً للتعاون العربي الصيني والتواصل الحضاري بين الشعوب العربية والشعب الصيني، لأنه قائم على نبذ الانحياز الأيديولوجي وتجاوز صراع الحضارات واحترام طرق التنمية الوطنية وإقامة علاقات على أساس التسامح والتواصل الإنساني. - 6. الأحزاب السياسية: العلاقات العربية – الصينية على المستوى الحزبي تضاعفت في العقد الأخير وآخرها حوار الأحزاب السياسية العربية مع الحزب الشيوعي الصيني (67 حزبا ومؤسسة عربية :11-15جويلية 2023)، والذي انتهى بالاتفاق حول رفض سياسة القوى والهيمنة والعمل على الدعم المتبادل وتدعيم السلام في الشرق الأوسط وتعزيز المشاريع التنموية الوطنية المشتركة، كل حسب وضعه، ورفض الإرهاب بديانة أو عقيدة أو ثقافة معينة، وتعزيز التواصل الإنساني لدعم حوار الحضارات واحترام تنوع الحضارات في العالم وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة وإدراك أهمية التراث العالمي وتعزيز التبادل والتواصل الإنساني. - 7. تشكل رابطة جمعيات وروابط الصداقة العربية – الصينية والتي تحت إشراف جامعة الدول العربية محطة جد هامة للتواصل والترابط بين الشعوب العربية والشعب الصيني من خلال جمعيات وروابط الصداقة العربية - الصينية وجمعية أصدقاء الشعب الصيني مع البلدان الأجنبية. - 8. التعاون والتبادل العلمي بين الجامعات ومراكز البحوث خاصة ما يتعلّق بالاهتمامات الوطنية للدول العربية في التنمية والتكنولوجيا حيث أثبتت الصين دعمها لذلك. - 9. تعزيز وتكثيف المراكز الثقافية الصينية بالعالم العربي، والعربية بالصين لتعميق ثقافة التواصل بين الشعوب العربية والشعب الصيني خاصة تدريس اللغة العربية بالصين والصينية بالدول العربية. - 10. تشجيع التواصل الإنساني من خلال السياحة التي تشكل مجالا ميدانيا للتواصل واكتشاف حضارات الجانبين (الثقافات المتنوعة، المعالم الأثرية، التاريخ، العادات والتقاليد، الطبيعة...) - 11. الرياضة لها تأثير متزايد على الجماهير. التكثيف من تنظيم مباريات ولقاءات رياضية ودية دوريا في مختلف الرياضات بين الأمم يعمق العلاقات الإنسانية ويضاعف التواصل. الحلقة الثانية