وقائع الهزيمة الصهيونية لا شكّ في أنّ التوحّش الصهيوني والاستهداف المباشر للمدنيين، ومشاهد التدمير المروّعة، وتفاقم الوضع الإنساني نتيجة الحصار، ومنع دخول الغذاء والوقود، مثلت كلّها عوامل أساسية ساهمت في ظهور سرد عالمي جديد حول ما يحدث في غزّة، ودفعت الجمهور في أنحاء العالم إلى طرح أسئلة كبرى حول الوجه الحقيقي للجيش الصهيوني، وحول السياق الذي تقع فيه الأحداث، وأسئلة حول جذور الصراع، وأخرى حول شرعية ما يقوم به الكيان : ما جعل الدعاية الصهيونية في مأزق عملي شديد. لقد سيطرت الرواية الصهيونية في الأسابيع الثلاثة الأولى، لكنّ البذور الأولى للتحوّل في السرد العالمي بدأت منذ ليلة 17 أكتوبر، ليلة قصف المستشفى الأهلي العربي المعمداني. ثمّة سرد جديد مناقض للسرد الدعائي الصهيوني بدأ يتشكّل، وبات يظهر بوضوح، مع نهاية الأسبوع الرابع من الحرب. ونلاحظ شواهد دالة في مسار التحوّلات التي شهدها الرأي العام وفق استطلاعات متعدّدة في أوروبا والولاياتالمتحدة، وفي المواقف السياسية الدولية، وبداية تفكّك الإجماع الدولي الذي كان مؤيّدا للكيان الصهيوني في بداية الحرب، وفي التصويت على مشاريع قرارات مجلس الأمن، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة. السرد الجديد وتغيّر الاتّجاهات أخذ السرد الجديد ينمو مع كشف سلسلة من الأخبار الكاذبة التي روّجت لتهويل ما حدث يوم 7 أكتوبر، وأخذ هذا السرد يجد طريقه في بداية الأمر إلى وسائل الإعلام الغربية الليبرالية، ووصل في الأسبوع الثامن من الحرب إلى وسائل إعلام صهيونية حاولت الانفكاك من الرقابة العسكرية. أثبت السرد الجديد أنّ ما جرى نشره في الأسابيع الأولى حول سردية ما حدث في يوم الهجوم الفلسطيني كان في معظمه تضليلاً، ويشمل ذلك قصص قطع رؤوس الأطفال، وتعرّض نساء للاغتصاب خلال هجوم المقاومة على مستوطنات غلاف غزّة. وبعد إثبات أنّ صورة الطفل المحروق التي انتشرت على نطاق واسع، لم تكن سوى صورة منشأة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، قامت وسائل إعلام غربية، وخاصة أمريكية، بحذف تقارير عن اغتصاب المقاومة للنّساء، أو تعديلها، كما فعلت صحيفة لوس أنجلوس تايمز، في حين لم يتبنّ حتى الجيش الصهيوني رواية قطع رؤوس 40 طفلاً"، بعد أن تراجع البيت الأبيض عن تبنّي هذا الادعاء. شكّلت عملية قصف المستشفى العربي الأهلي (المعمداني)، في ليلة 17 أكتوبر، نقطة تحوّل في السرد العالمي. وبعد تحميل الجيش الصهيوني حركة الجهاد الإسلامي مسؤولية قصف المستشفى، نشرت صحيفة ذي نيويورك تايمز، في 24 أكتوبر، تحقيقا شاركت فيه مجموعة من مراسلي الصحيفة شكّكت في الرواية الصهيونية، وقدّمت أدلّة على أنّ الصاروخ الذي شوهد في الفيديو ليس على الأرجح سبب ما حلّ بالمستشفى". وذهب تحقيق آخر أجراه فريق صحيفة لوموند الفرنسية إلى أنّ رواية الجيش الصهيوني المتمثلة في أنّ الصواريخ الفلسطينية تسبّبت في انفجار المستشفى غير صحيحة؛ إذ تمكّن فريق التحقيق التابع للصحيفة من التأكّد من أنّ القذيفة التي ضربت المستشفى انطلقت من الكيان الصهيوني". وفي 11 ديسمبر، نشرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية تحقيقا حشدت فيه العديد من الأدلة والشهادات، في محاولة لإجراء تقييم شامل لما حدث في يوم الهجوم الفلسطيني بعد شهرين من هذا الحادث، ووصلت إلى أنّ ما وصف بأنّه فظائع، ارتكبها المقاومون ونقلها الإعلام العالمي وتبناها سياسيون غربيون، لم يحدث البتّة، موضّحة أنّ هذه الأكاذيب روّج لها، خلال أسابيع، رجال إنقاذ متطوعون، وجنود ومسؤولون من الجيش الصهيوني، وقادة سياسيون صهاينة وأمريكيون". وأشار التحقيق إلى أنّ المعلومات التي نشرت حول أرقام القتلى الصهاينة والضحايا من الأطفال تتعارض مع الأرقام الرسمية الصهيونية، لأنّ الشرطة الصهيونية أبلغت الضمان الاجتماعي، بأسماء أصحاب 789 جثّة لمدنيين جرى التعرّف عليها، وجرى العثور على طفل واحد فقط بين المدنيين الذين قتلوا يوم 7 أكتوبر 2023. وربما كان هذا جانبا من الجوانب المفسّرة لتغير السرد الصهيوني حول أرقام القتلى في ذلك اليوم من 1400 إلى 1200 شخص؛ إذ كان الكيان الصهيوني قد أعلن، في 14 أكتوبر، أنّ "أكثر من 1400 شخص قتلوا على أيدي المقاومين، ثم إنّ وزارة الخارجية الصهيونية نشرت في 10 نوفمبر، "تقديرات محدثة مفادها أنّ المقاومة قتلت في ذلك اليوم نحو 1200 شخص. وأعادت وسائل إعلام نشر المزيد من التقارير التي أشارت إلى أنّ القوّات الصهيونية مسؤولة عن مقتل مدنيين وعسكريين صهاينة في أعقاب هجوم 7 أكتوبر". وفي حين، شهد حصار مستشفى الشفاء واقتحامه منذ الأسبوع السادس من الحرب سردا مختلفا قام على نفي الروايات الصهيونية أو التشكيك فيها، نشر الحساب الرسمي لبنيامين نتنياهو، على موقع إكس، مقطع فيديو من المفترض أنّه يظهر منشأة عسكرية تابعة لحماس تقع تحت المستشفى". لقد قام الخطاب الدعائي الصهيوني حول استهداف المستشفيات على زعم متمثل في وجود مقار عسكرية للمقاومة أو أنفاق تحت المستشفيات، وحاول الكيان أن يحشد ذلك لمصلحته إعلاميا ودعائيا، وهو الأمر الذي لم يستطع إثباته بعد اقتحام مستشفى الشفاء. وكان الدليل الوحيد ذلك الفيديو، وهو مجرد "رسم متحرك " أنتجه خيال مصمّمي الجرافيك الصهاينة. تكرّر الأمر في الفيديوهات التي بثّها الجيش الصهيوني من داخل المستشفى، والتي تظهر ضابطا يخرج سلاحا من جهاز الرنين المغناطيسي، ويشرح جدولاً لتوزيع العمل باللغة العربية على بعض أطقم المستشفى، ادّعى أنّه جدول لعمليات المقاومة: ما أثار موجة سخرية وصلت إلى الإعلام الغربي. وبعد أسبوع، نشر الجيش الصهيوني صورا لنفق خارجي بجوار المستشفى، ودعا الصحافيين إلى زيارة النفق الذي ينتهي بقاعة اجتماعات صغيرة، وكانت المفاجأة أنّ رئيس أركان الجيش الصهيوني ورئيس الوزراء السابق إيهود باراك أعلن في حوار مع شبكة "سي إن إن "CNN أنّ الصهاينة هم الذين قاموا بحفر هذا النفق قبل 40 عاما في أثناء سيطرة الكيان على القطاع خلال عملية تحديث للمستشفى". امتدت مرحلة الهدنة بين المقاومة الفلسطينية والجيش الصهيوني سبعة أيام؛ إذ كانت قد بدأت في 24 نوفمبر، وجرى تمديدها مرتين، وجرى تبادل عشرات المحتجزين في غزّة بمئات السجناء الفلسطينيين لدى الكيان الصهيوني، وتيسير دخول بعض المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وشهدت الهدنة أيضا تبادلاً للحرب الدعائية والنفسية بين الطرفين، ولعلّه من الملاحظ أنّ المقاومة قدمت نسخة جديدة من السرد الدعائي في محاولة لتقديم مواقف أشدّ قوّة من جهة، وأكثر إنسانية من جهة أخرى. أثبتت مشاهد تسليم المحتجزين من جهة حماس في كلّ ليلة من ليالي التسليم قوّة استجابة إعلامية دقيقة. ويشير التحليل الأوّلي لهذه الرسائل الإعلامية إلى مقاطع فيديو عالية الإنتاج إلى حدّ ما. ومن الواضح أنّ المقاومة استخدمت التصوير بطائرات من دون طيار، ثم انتقلت إلى التصوير على الأرض، إلى جانب استخدام جيد للإضاءة وتقنيات متقدمة. لقد أثارت تلك المشاهد موجة من التساؤل والمقارنة على مستوى العالم بين الصورة التي صوّرت فيها المقاومة في عملية طوفان الأقصى، وبين المشاهد التي يجري فيها تسليم المحتجزين المدنيين الصهاينة إلى الصليب الأحمر: مثل تلك المشاهد التي يظهر فيها مقاتلو كتائب القسام الملثّمون يرفعون النّساء الصهيونيات المسنّات، ويضعوهنّ برفق في مركبات الصليب الأحمر، أو مشاهد النّساء والفتيات المحتجزات وهنّ يلوّحن بأيديهنّ لمقاتلي المقاومة، إلى جانب العديد من الشهادات والرسائل التي قدّمتها محتجزات بشأن المعاملة الحسنة من جهة مقاتلي المقاومة، وأنّهنّ عوملن باحترام. حاولت حماس إبراز صورة أخلاقية فارقة لنفسها، مقارنة بما يقدّمه الكيان الصهيوني من صورة متوحّشة بقصفها للمدنيين، صورة تقوم على أنّها تعامل الأسرى باعتبارهم بشرا أولاً، وباعتبارهم أصولاً استراتيجية في المعركة ثانيا، وليس باعتبارهم غنيمة حرب يعذّبون في الاتفاق". وبدا الأمر أشدّ إثارة حينما قامت المقاومة بتسليم مجموعة من المحتجزين في قلب غزّة في تحدّ واضح للجيش الصهيوني الذي ادّعى أنّه بات يسيطر على شمال القطاع. وبدا ما هو أكثر من ذلك في رسائل أخذت تظهر على صيغة رسائل الندّ للندّ: فبينما كان رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو يبعث للعالم رسالة تهدف إلى الإشارة إلى استعادة التفوّق. وهو يتفقّد جنوده في شمال غزّة أرسلت المقاومة الفلسطينية رسالة ندّية ترويها النّساء المحتجزات العائدات متعلّقة بكيفية تفقد يحيى السنوار أحد قادة حماس، المحتجزين وتحدّثه معهم في أحد الأنفاق. بات واضحًا أنّ الصراع على دور الضحية قد أخذ مداه في السرد الإعلامي المتبادل بين الطرفين، ولكن الصور. والمشاهد الدامية، وحجم القتل والتدمير الصهيوني، كان الجانب الأبلغ في تغيير السرد العالمي، وباتت وسائل إعلام عالمية تبحث عن سياق لما يجري، وتسأل عن تاريخ الصراع، وتذكر أكثر من أيّ وقت سابق، أنّه قبل 7 أكتوبر، كان 6407 من القتلى فلسطينيين مقابل 308 صهاينة في الأعوام الخمسة عشر الماضية، وفقا لبيانات الأممالمتحدة". ازداد النقد بقوّة للكيان الصهيوني في مختلف وسائل الإعلام العالمية، وأصبح يتكرّر كثيرا في وسائل الإعلام الغربية. وفي مطلع الشهر الثالث، مع استمرار الولاياتالمتحدة في تعطيل مجلس الأمن، أخذت أطروحة الضحية الصهيونية تغيب عن كثير من التغطيات والتعليقات الإعلامية. وفي 9 ديسمبر، كتبت صحيفة لوموند الفرنسية في افتتاحيتها: "إنّ الكيان الصهيوني خسر نفسه في مذبحة غزّة، وهي مذبحة غير مسبوقة وغير مبرّرة، الكيان انجرف إلى اليمين المتطرّف، إنّ فشل الولاياتالمتحدة في حماية الكيان الصهيوني من نفسه هو خطأ أخلاقي لن تتمكن البلاد من تجنّب آثاره المدمّرة. انعكست الحرب الدعائية الرسمية على سرد شبكات التواصل الاجتماعي التي شهدت تحوّلات كبيرة وغير مسبوقة، وقد وجدت دراسة حديثة أجرتها صحيفة ذي واشنطن بوست أنّ عدد الوسوم المؤيّدة للفلسطينيين المستخدمة على منصات تيك توك وانستغرام وفيسبوك قد تضاعفت مقارنة بتراجع الوسوم المؤيّدة للكيان الصهيوني. وقد وجدت الدراسة أنّ وسم "freepalestine" على فيسبوك قد جرى استخدامه 39 مرة أكثر من الوسم الصهيوني، وأكثر ب 26 مرة في إنستغرام". وذهبت دراسة متعلّقة بتحليل غولدبلوم منشورات تيك توك، في نهاية نوفمبر. إلى أنّ مستخدمي هذه المنصة المقيمين في الولاياتالمتحدة شاهدوا منشورات مؤيّدة لفلسطين أكثر ب54 مرة من المحتوى المؤيّد للكيان الصهيوني في هذا الشهر، مقارنة ب36 مرة في أوائل الشهر ذاته. وبالنسبة إلى مستخدمي تيك توك المقيمين في أستراليا، فإنّ النسبة كانت بلغت نحو 60:1 لمصلحة فلسطين". لقد بات تفوّق السرد المؤيّد للرواية الفلسطينية على الشبكات الاجتماعية يوصف في الدعاية الصهيونية بأنّه صعود المعاداة السامية، وباتت الأصوات المؤيّدة للرواية الفلسطينية توصف بأنّها تروّج لمحتوى معاد للسامية ينكر الفظائع ويستند إلى خطاب كراهية، وتحديدا على منصة تيك توك ". الحلقة الثالثة