تبدو بعض العبارات الملطفة الاستراتيجية الصهيونية، أنّها أقل ضررًا. فالجدار الخرساني الذي يطوق الضفة الغربية، ويقطع القرى أحيانًا في بعض النقاط التي يصل ارتفاعها إلى ثمانية أو تسعة أمتار، يوصف في الغالب بأنه "سياج أمني". (في اللغة العربية، يشار إليه باسم جدار الفصل العنصري). في عام 2002، قبل أن يجري استبدال احتلال غزة بالحصار، أصدرت إدارة هيئة البث الصهيونية تعليمات لموظّفيها باستبدال مصطلح "مستوطنون" بمصطلح "سكان" في إشارة إلى مستوطنة نتساريم، على بعد بضعة أميال جنوب شرق مدينة غزة. وفي العام نفسه، أصدر قسم التعليم في الوكالة اليهودية دليل "حسباره"، وهو "دليل استخدام" للطلاب للدفاع عن الكيان الصهيوني في الجامعات الأمريكية. والترجمة التقريبية لكلمة حسباره Hasbara من العبرية قد تكون "تفسير/شرح"، لكن المصطلح أصبح يمثل العلاقات العامة العالمية للكيان الصهيوني. ويرشد هذا الدليل تلاميذه الصهاينة إلى فنون "تسجيل النقاط ضد الخصم"، والقدرة على إخفاء تسجيل النقاط من خلال إعطاء انطباع زائف بالانخراط في نقاش حقيقي. على سبيل المثال، من الأسهل كثيرًا إشغال الناشطين الفلسطينيين في الجامعات بالدفاع عن ياسر عرفات ضد اتهامات الفساد، مقارنة بمحاولة الصهاينة إقناع أقرانهم من الطلبة بأن أرييل شارون لم يقتل أحدًا في صبرا وشاتيلا. ويمكن العثور على استخدامات بلاغية مماثلة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ تعد ركيزة أساسية للدبلوماسيين الصهاينة الذين يظهرون على شبكات التلفزيون حول العالم. وفي حين أن منظمات حقوق الإنسان الصهيونية والفلسطينية والدولية صنفت الكيان نظام فصل عنصريًا، فإن وسائل الإعلام الصهيونية تصف المصطلح بأنه "مثير للجدل" أو "متنازع عليه". وسرعان ما أصبحت مثل هذه الصفات المتداولة في الصحافة الدولية بوصفها دليلًا على الحياد. بل في بعض الأحيان يوصف مصطلح "الفصل العنصري" بأنه معاد للسامية. وفي الحقيقة، على الرغم من الأصوات اليهودية العالية التي تقاوم الخلط بين اليهودية والصهيونية، فإنّ الاتهام بمعاداة السامية أصبح السلاح المعجمي المفضّل الموجه ضد الفلسطينيين، وأولئك الذين يدعمون الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك الحق حتى في الحياة، كما نشهده في حرب غزة في الوقت الراهن. وقد اقترح الحاخام، برانت روزين Brant Rosen، في مقال نشرته صحيفة "هآرتس" عام 2016، أنّ "معاداة الصهيونية" ليست "شكلًا من أشكال التمييز، ولا تعد معاداة للسامية"، وأن "طمس تمييز الاختلاف بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية يشوش التعريف"، إلى درجة يغدو معها مصطلح "السامية" بلا معنى. وفي الوقت نفسه، لا يحتج أحد عندما يصف القادة الصهاينة الفلسطينيين بكلمات نابية. ففي عام 1969، قالت رئيسة الوزراء جولدا مائير: "لا يوجد شيء اسمه فلسطينيون". بينما قال رئيس الوزراء مناحيم بيغن في عام 1982 إن الفلسطينيين "وحوش تمشي على أقدام". وبعد مرور عام، قال رئيس الأركان رافائيل إيتان عن الفلسطينيين: "جرى تخديرهم كصراصير في زجاجة"؛ أما في عام 2001، فقد وصف الرئيس الصهيوني موشيه كاتساف الفلسطينيين بأنهم "أشخاص لا ينتمون إلى قارتنا، أو إلى عالمنا، ولكنهم في الواقع ينتمون إلى مجرة مختلفة". وبالنسبة إلى شارون، فإن "السلام" لن يتحقق للكيان إلا من خلال السيطرة على "أعداء الإنسانية"، كما قال في عام 2004. والحقيقة أنّ استمرار مثل هذه اللغة التي تجرد الفلسطيني من إنسانيته، يأتي بين أبرز أسباب ظهور مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت على نطاق واسع مؤخرًا، لصهاينة يعيدون تمثيل المذبحة وأعمال التعذيب التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون، في شكل احتفالي كرنفالي. كما أن هذا السلوك المضطرب عبر عنه مقطع فيديو آخر، انتشر أيضًا على نطاق واسع، لمعتقلين فلسطينيين معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي بينما يجري إجبارهم على الاستماع إلى أغنية الأطفال الصهيونية المتكررة "ميني مامتيرا" Meni Mamtera لساعات: حيث قام جنود وسياسيون ومدنيون، مع أطفال في بعض الأحيان، بتصوير أنفسهم وهم يقلّدون المعتقلين في الفيديو أثناء تشغيل الأغنية. وفي الواقع، فإنّ الصهاينة يعيشون داخل المجتمع الصهيوني فيما أسماه المؤرخ لورانس ديفيدسون Lawrence Davidson "بيئة معلوماتية مغلقة"، وقد أدّت الحرب الحالية إلى مضاعفة إغلاق هذه البيئة؛ إذ فعّل البرلمان الصهيوني في 8 نوفمبر، (قانون مكافحة الإرهاب)!! مع تعديل يجرم ما يسميه: "استهلاك المطبوعات الإرهابية". وجرى أيضًا حظر جميع أشكال إعادة استخدام أو نشر المنشورات التي يجري بثها من غزة على وسائل التواصل الاجتماعي، مع فرض عقوبة تصل إلى السجن لمدة عام على المستخدمين الذين يتفاعلون مع الإعجابات أو يزورون المنصة في المقام الأول. وقد كان أغلب المتهمين الذين أدينوا مواطنين فلسطينيين في الكيان، لكن اعتُقل يهود أيضًا ممن أعربوا عن تعاطفهم مع الفلسطينيين. وقتل الكيان أكثر من 90 صحافيًا في غزة منذ 7 أكتوبر 2023. وأوضح بيني غانتس، عضو كابينت الحرب، أنّ الصحافيين الذين كانوا شهودًا على ما وصفه ب "مذبحة حماس" في الكيان في 7 أكتوبر، "واختاروا الوقوف متفرجين بينما يجري ذبح الأطفال، لا يختلفون عن الإرهابيين ويجب معاملتهم على هذا النحو". وتصف لجنة حماية الصحافيين، ومقرها نيويورك، هذا الاعتداء بأنه أخطر اعتداء على الصحافيين منذ بدأت في عام 1992 في توثيق الخسائر المهنية في صفوف الصحافيين المحترفين. إنّ الشكل المنمق للدعاية الصهيونية المبكرة التي شكلتها مصطلحات ماكس نوردو "المراوغة" بشكل بالغ الدقة، والتي جرت صياغتها لتلائم القرن التاسع عشر، لم يعد موجودًا. كما أنه لا يوجد من يخلف أو يمتلك مستوى فصاحة أبا إيبان الشهيرة نفسها، الذي ظهر على الساحة الدولية في الخمسينيات والستينيات باعتباره "صوت الكيان" البليغ. في 30 أكتوبر، اتّهم إردان، سفير الكيان الصهيوني لدى الأممالمتحدة، مجلس الأمن ب "التزام الصمت" وتعهّد بوضع نجمة النازية الصفراء وسامًا على صدره حتى يقوم أعضاء المجلس بإدانة "حماس". وسرعان ما وبّخه داني ديان Dani Dayan، رئيس "ياد فاشيم" (Yad Vashem)، وهو النصب التذكاري الصهيوني الرسمي لضحايا المحرقة الموهومين، قائلًا: "هذا العمل عار على ضحايا المحرقة وكذلك على دولة الكيان". واقترح ديان على إردان ارتداء العلم الصهيوني بدلًا من وضع النجمة الصفراء وسامًا على صدره. بات من الصعب استمرار الاعتماد على الدعاية الصهيونية وتعبيراتها الاستراتيجية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أدّت بالتأكيد دورًا في انهيار سردية رسالة الكيان إلى بقية العالم، ومن ثمّ انحسار التأييد الدولي. فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من تأكيد الكيان الصهيوني المتكرر أنه لا يستهدف المدنيين في غزة، وأن الآلاف من الأطفال الذين قتلوا بنيران صهيونية هم "دروع بشرية" يستخدمها مقاتلو حماس، كان من الصعب على العالم تجاهل صور الخدج أو المبتسرين الرضع وهم يخرجون من الحضانات في مستشفى الشفاء بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وردّت وسائل الإعلام الحكومية الصهيونية بإصدار صور لأفراد الجيش الصهيوني وهم يقومون بتوفير الحضانات في بادرة "إنسانية"!! لكن الحقيقة أن مشفى الشفاء كانت لديه حضانات، لكنه افتقر إلى الكهرباء اللازمة لتشغيلها بسبب قيام الكيان الصهيوني بقطع إمدادات الطاقة إلى غزة. ونشر الكيان الصهيوني في نوفمبر، صورًا لأفراد من الجيش الصهيوني وهم يدخلون المستشفى بحثًا عن خلية تابعة لحماس. والحقيقة أنه يُظهر الجنود وهم يحملون صناديق قد كتبت على أحد جوانبها عبارة "مستلزمات طبية" باللغة الإنكليزية، على نحوٍ يذكّرنا بمسرحية هواة هزلية. وقبل يومين من هذه الواقعة، نشر الكيان الصهيوني مقطعًا مصورًا يظهر فيه دانييل هاجاري، المتحدث باسم الجيش الصهيوني، من داخل مستشفى الرنتيسي، وهو يشير إلى تقويم يتضمن مواعيد العمل الأسبوعية معلق على الجدار، وادّعى أن أيام الأسبوع المكتوبة (باللغة العربية) هي أسماء الإرهابيين الذين يقومون بمهمات محددة!! مشيرًا بالقول: "هذه القائمة تقول في طور العمليات"، وادّعى أيضًا في الفيديو أن "هذه قائمة بالحراسة، حيث يكتب كل إرهابي اسمه وفقًا لتوقيت المهمة الخاص به"!! كما أشار هاجاري إلى مرحاض في الطابق السفلي، ومجموعة من الحفاضات بوصفها دليلًا على النشاط الإرهابي. وفي مقطع فيديو آخر، تظهر امرأة تدّعي أنها ممرضة في مستشفى الشفاء، وتتّهم حماس بحظر الخدمات الطبية و«الاستيلاء على المستشفى بأكمله"؛ وقد ظهر هذا المقطع على قنوات التواصل الاجتماعي في الكيان الصهيوني، حيث اكتسب ملايين المشاهدات قبل أن يختفي من صفحة Twitter الصهيونية في اللغة العربية. وكان من اللافت أن المرأة لا تتحدث بلهجة عربية، ووفقًا للصحافي الأمريكي، روبرت ماكي Robert Mackey، فقد أخبره ثلاثة أعضاء من الأطباء بلا حدود في مشفى الشفاء أنهم لم يسبق لهم رؤية هذه المرأة من قبل. في الضفة الغربية، في نوفمبر، اختطف الجيش الصهيوني الناشطة الفلسطينية، عهد التميمي، البالغة من العمر 22 عامًا، على خلفية منشور بُثّ على تطبيق إنستغرام مدوّن عليه باللغة العبرية والعربية الفصحى جملة مصطنعة تقول: "رسالتنا إلى قطعان المستوطنين. نحن في انتظاركم في جميع مدن الضفة الغربية. سوف نذبحكم وسوف تقولون إن ما فعله هتلر كان نزهة. سنشرب دماءكم وسوف نأكل جماجمكم". وقالت ناريمان، والدة عهد: "هناك العشرات من الحسابات باسمها على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أنشأها أشخاص لا نعرفهم". والحساب الذي نُسب إليه نَشْرُ هذا البيان لا يمكن الوصول إليه الآن. اعتاد الجيش الصهيوني على تقديم أوهى الادعاءات على الرغم من الأدلة القوية المضادة له. فقد أنكر مسؤوليته عن قتل الإعلامية بقناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، في جنين في عام 2022. ثم اعتذر في نهاية المطاف عن عملية القتل، لكن لم يتعرض أي عنصر من الجيش الصهيوني للمحاكمة جراء ذلك على الإطلاق. ومع ذلك لا تزال حتى أكثر الاستراتيجيات الخطابية الدعائية الصهيونية ركاكة تحقق أهدافها. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فهم يقينًا لا ينخدعون بمثل هذه الخطابات الدعائية في أي وقت من الأوقات، ومنذ بداية الحركة الصهيونية في عام 1896. في مقالة بعنوان "الجدار الحديدي" كتبها في عام 1923 المنظر الصهيوني، فلاديمير جابوتينسكي، رئيس المنظمة الإرهابية إيرغون Irgun، - وهي منظمة شبه عسكرية صهيونية جرى ضمها إلى الجيش الصهيوني في عام 1948 - كتب فيها عن الفلسطينيين قائلًا: "في وسعنا أن نخبرهم بما نشاء عن براءة أهدافنا، ونلطِّف الكلمات وندس العسل فيها لكي نجعلها مستساغة، لكن الفلسطينيين يعرفون حقيقة ما نريد، ونحن نعرف رفضهم الراسخ لما نريد". كان الفلسطينيون يعلمون أن الصهاينة يرغبون في كامل فلسطين، من دون سكانها، ويفهمون أنّ الصّهاينة يؤمنون بأنّه "لا مجال لكلا الشعبين معًا في هذا البلد"، كما كتب يوسف ويتز Yosef Weitz، رئيس قسم الاستعمار في الوكالة اليهودية في مذكراته في عام 1948. وقد أضاف: "لا توجد طريقة أخرى غير نقل العرب من هنا إلى البلدان المجاورة، لننقلهم جميعًا: لا ينبغي ترك قرية واحدة، ولا عشيرة واحدة باقية هنا". الحلقة الثانية