الإعتماد فقط على المعالجة النقدية للدينار لها نتائج كارثية الفائض المالي المتراكم خلال السنوات الماضية لا يزال يشكل حصنا قويا ودعما صلبا لحجم الإنفاق العمومي، على الأقل على المديين القصير والمتوسط، ولا يمثل في الوقت الحالي أي تخوف من حيث الوضعية المالية الخارجية و الداخلية للبلاد التي يقول في شأنها الخبير المالي والاقتصادي السيد عبد الرحمان بن خالفة أن الجزائر بادخارها المالي الهائل و التراكمات على مستوى الخزينة، وكذا في صندوق ضبط الإيرادات ومواردها الطبيعية من غاز وبترول وغيرها، يمكنها من تجاوز أية عقبة ترتبط بدعم الإنفاق العمومي، والتغطية المالية له. من هذه الزاوية لا يرى السيد بن خالفة أنّ هناك انشغالا يمكن أن يطرح حتى لو أبدى صندوق النقد الدولي تخوفه في هذا الشأن، مثلما ورد في أحدث تقييم أولي أنجزه حول أداء الاقتصاد الوطني خلال السنة الجارية، وذلك في الزيارة الأخيرة التي قامت بها بعثة الأفامي إلى الجزائر، غير أنّ ما يثير المخاوف حسب الخبير المالي والاقتصادي أن مجموعة الملاحظات الأخرى الواردة في ذات التقرير والتي يقول أنها مرت مرور الكرام هي التي ينبغي أخذها بكثير من الاهتمام والتمحيص، ولخّصها في خمس نقاط أساسية: أولا: أن كل ما أنجزه الاقتصاد الوطني لا يمكن أن يغطي استمرار حقيقة أن الاستيراد أصبح هيكليا وليس ظرفيا، الأمر الذي يعكس هشاشة السوق الداخلية، أمام فاتورة استيراد ترتفع أكثر فأكثر وقد تناهز ال 60 مليار دولار من السلع والخدمات. هنا يعتبر نفس المتحدث أنّ الأمر فعلا مخيف وأخطر مما يتصور الجميع، ولهذا وجب قلب الأوضاع في اتجاه دعم الاستثمار في العديد من المجالات، في التسيير والتكنولوجيا والتنظيم، وكذا اختيار الكفاءات القادرة على تقديم الإضافة الهامة في هذه المجالات وغيرها قصد التأثير على الاستيراد نحو الانخفاض، وأن يحل محله الإنتاج الداخلي وبالنوعية المطلوبة، ولن يتأتى ذلك على المديين القصير والمتوسط، وإنما يتطلب الأمر وقتا ليس بالهين لتجاوز هذه العقبات الهيكلية. ثانيا: مستوى الحركية الداخلية والحوكمة في تسيير الاقتصاد ما تزال بطيئة، سواء في القطاع الخاص أو العمومي، وأن هذا الأخير لا يزال يطغى عليه الطابع الإداري في التسيير، ملاحظات أبداها صندوق النقد الدولي بلغة دبلوماسية يقول السيد بن خالفة الذي يرى أن الموارد المالية والطبيعية والبشرية التي قلّما تتوفر مجتمعة في بلد واحد كان من المفروض أن تؤدي إلى تسيير أكثر نجاعة للاقتصاد وللاستثمار المنتج. ثالثا: كلفة العمل في الجزائر تفوق بكثير الإنتاجية، بمعنى أن الأجور الموزعة، عادة ما تكون بدون مقابل إنتاجي وفق التحليل المقدم من طرف الأفامي، وأن جزءا كبير منها ذات طابع إداري وتدخلي، أي مدعمة، ولا تخضع إلى المنطق الاقتصادي وإنما جاءت لمحاربة البطالة بوسائل غير اقتصادية، وفي المحصلة فإن إحلال التدخل الاجتماعي محل الاقتصاد جعل كلفة العمل باهظة جدا. رابعا: سياسة الدعم تعد جيدة ومن أفضل السياسات في العالم، لكنها مكلفة ومن هنا لا بد من إعادة النظر في محتواها وفي عموميتها، وأن تخضع إلى "التنازل" وليس إلى العكس، بمعنى التقليص التدريجي للدعم إلى أن يصل إلى المستوى المقبول، فضلا على أنه من الضروري استهداف مواد معينة و فئات بعينها دون تعميم هذا الدعم الذي يؤدي في الكثير من الأحيان إلى التبذير وإلى التهريب في العديد من المواد والسلع المدعمة كالمحروقات والمواد الأخرى الغذائية ذات الاستهلاك الواسع، مقترحا تغيير الطريقة المعتمدة في ذلك، فعوض دعم الاستهلاك لابد من دعم الإنتاج الذي يحل محل الاستيراد، لأنه كلما زاد الدعم إلا ويؤدي إلى زيادة في الاستيراد أمام عرض داخلي محدود، وفي النتيجة فإن نفس الدعم ستستفيد منه العمالة الأجنبية، ولهذا أصبحت السوق الوطنية من أكثر الأسواق الخارجية استقطابا وأحسنها سيولة وتدفقا لكل أنواع السلع والبضائع. ومن جهة أخرى، يعتبر السيد بن خالفة أن سياسة الأجور تصبح عاملا أساسيا للوصول إلى حقيقة الأسعار، ولكن عندما تكون الأسعار مدعمة والأجور تخضع للطابع الاجتماعي وليس لاقتصادي، فإن الإنفاق قد يتحول إلى تبذير وبالتالي يصبح نمط الاستهلاك في هذه الحالة غير رشيد، حيث تشير الإحصائيات إلى أن الجزائر أصبحت من أكثر الدول المستهلكة للسلع الكمالية. ومع هذا فإنّ الجزائر نجحت في سياسة الدعم من حيث التحصين لما جرى في بلدان "الربيع العربي" لكن الاستمرار على نفس المنوال سيؤدي لا محالة إلى خلق نوع من السلوك الاستهلاكي غير الرشيد. خامسا: قيمة العملة الوطنية الحالية وعلى الرغم من التخفيض الأخير لا تزال أكبر من قيمتها الحقيقية، ومن بين المقاييس لذلك، إجراء مقارنة بين القيمة الرسمية و الفعلية لها في السوق الموازية، هذه الأخيرة ترعرعت و قاومت كل السياسات وأصبحت من الأشياء الهيكلية، أما عن المعالجة لهذه الوضعية فإنها تتم بطريقتين، أولهما من خلال قرار رسمي لتخفيض قيمة العملة مثلما حدث قبل أسابيع وناهز 10 في المائة من قيمة الدينار، وسمي بإعادة النظر في التسعيرة ومع هذا فإن الأفامي لا يزال يرى أن المستوى الحالي لقيمة العملة الوطنية أعلى من القيمة الحقيقية لها، مشيرا إلى أنّ مشاورات تجرى حاليا مع بنك الجزائر من أجل الوصول إلى تسعيرة أكثر توافقا مع القيمة السوقية للدينار. وفي هذا الإطار، يرد السيد بن خالفة أن المعالجة النقدية لقيمة العملة وصلت إلى حدها وأنه آن الأوان للانتقال إلى المعالجة أو الطريقة الثانية التي سماها بالحقل العيني أي تنافسية الاقتصاد و الرفع من أدائه. أما إذا اعتمد تخفيض آخر في قيمة العملة فإن النتيجة ستكون كارثية على أكثر من صعيد، من حيث الأسعار والأجور والتضخم الداخلي، بحسب تجارب العديد من الدول، مع العلم أن نفس النمط طبق في الجزائر في التسعينات من القرن الماضي و نتائجه كانت قاسية للغاية. وإذا كان الأفامي لا يقدم إلا المعالجة النقدية فلأنها أسهل و أسرع الطرق بالنسبة له مقارنة بالمعالجة الحقيقية التي تعني أن يكون الاقتصاد في مستوى قيمة العملة و ليس العكس، ولهذا يرى السيد بن خالفة أنه من الضروري اعتماد الطريقتين معا، خاصة وأنه من دعاة التصحيح النقدي، ولكن بجرعات متتالية و ليس دفعة واحدة، مخافة أن تنفلت الأوضاع مرة أخرى خاصة من حيث التضخم الذي تراجع كثيرا خلال العام الجاري، وقد يقفز مرة أخرى فيما لو أخذ بعين الاعتبار الطريقة الوحيدة التي ينصح بها الأفامي والمتخصص فيها وهي المعالجة النقدية فقط.