تمثل مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر سنة 1960 ملحمة أخرى صنعها الشعب الجزائري في العاصمة وامتدت إلى مدن عديدة من جهات الوطن تعبيرا عن النضج الوطني وتصميما على الانتفاضة في وجه قوات وادارة الاستعمار الفرنسي للتخلص نهائيا من قبضته الاستعمارية. روايات عديدة تقدم بهذا الشأن بين من يدرج الانتفاضة في سياق تخطيط مسبق لها من جبهة التحرير ومن يقدم رواية مغايرة تدرج الانتفاضة في سياق تحرك شعبي عفوي في البداية اندلع بفعل تعرض مواطن جزائري داخل مقهى ببلكور للاهانة من أحد المستعمرين فقام الجزائري بطرح المعتدي أرضا مدافعا عن النفس ولما شاهد الجزائريون الموقف وسمعوا به انتفضوا، فتطورت الأمور الى مظاهرات سارع الجبهويون الى الامساك بها وتأطيرها ليكون لها المفعول الوطني وهذا ما تحقق إذ ازدادت حماسة الشارع الجزائري، فإلتف حول الحدث ليكون له الصدى القوي والمدوي. إذن الاشكال ليس في من فجر المظاهرات وإنما في التأخر الكبير في كتابة هذا الفصل من فصول الثورة التحريرية وإبراز معانيه واعطاء كل ذي حق حقه حماية للأمانة التاريخية ومنعا لأي تزييف ما يضمن ميراثا تاريخيا طاهرا للأجيال لا مجال فيه للتأويلات أو المزايدات خاصة وأن صرخات الذين عذبوا في الأقبية لا تزال تدوي في كل أذن لم تصب بالصم. الأمر يتعلق بكتابة تاريخ الثورة الذي لم يخرج بعد في جوهره عن رواية شهادات والإدلاء بمذكرات يطبع عليها الجانب الشخصي عموما في حين يبقى من يفترض فيهم تدوين التاريخ يتفرجون ويترددون الأمر الذي منح الفرصة لأعداء الثورة التحريرية التقليديين، وكذا لمندسين في صفوفها ليروجوا أكاذيب وافتراءات تهدف الى التشكيك وهو ما لا يمكن أن يبلغوه لأن الثورة كانت شعبية بعد أن ألقى بها المناضلون المخلصون من امثال الشهيد العربي بن مهيدي الى الجماهير وأحدثوا القطيعة بين الشعب الجزائري والمجتمع الاستعماري الاستدماري الى الأبد. لتلك المظاهرات مدلولات تستحق الوقوف عندها من مختلف الجوانب: فعلى المستوى المدني والحضاري للسكان أكدوا لحمتهم وتوحدهم كمجتمع مخالف للمجتمع الأوروبي المستغل والانتهازي الذي نما وتوسع تحت حماية وتشجيع الجيش الاستعماري الفرنسي وحماية قوات بوليسه الجهنمية، فلم يعد يقبل الجزائري أن يرى آخاه يهان ويتعرض للاعتداء، فتحركت نعرة الأخوة بانسجام غير مسبوق. وعلى الصعيد السياسي، فقد أثبت الجزائريون وعيهم وإدراكهم لأهمية القول وبلغة واضحة وصوت عال يسمعه العالم أنهم مع خيار الاستقلال والانعتاق من القبضة الاستعمارية الحديدية التي طالت لأكثر من قرن وثلاث عشريات وأسقطوا مناورة الإدارة الديغولية بمحاولتها الفاشلة للتشكيك في تلاحم الشعب مع الثورة من خلال جيش وجبهة التحرير الوطني الممثل الشرعي والوحيد، فأعلنها السكان مدوية أنهم وراء قيادة الثورة بلا رجعة وأطرت المنظمة المدنية لجبهة التحرير تلك القوة الشعبية بما أعطاها ثقلا كبيرا. لقد تجاوزت تلك الهبة حدودها الاقليمية لتصل الى العالم كافة بعد أن واجه السكان العزل الآلة الاستعمارية وأجهزتها القمعية بشجاعة وبصدور عارية في انتفاضة تستحق أكثر من نصب تذكاري أو حفلة هنا وهناك، فهي تستحق تخليدا بالكلمة والصورة واحياء الأرشيف وتنشيط الذاكرة الجماعية للأمة على غرار ما تتطلبه مواقف وأحداث أخرى مشهود لها بالبطولات والفداء. ------------------------------------------------------------------------