التوجه نحو الأسواق الإفريقية ذات الجاذبية التنافسية والتخلص من الريع البترولي التعديلات الدستورية تكرس التكفل بشكل واضح بانشغالات وتطلعات الفاعلين الاقتصاديين تحسين المناخ الاستثماري والمرافقة الذكية للمؤسسات والصناعة المحرك الناجع للنمو أظهرت المؤشرات التي كشف عنها بنك الجزائر حول التوجهات النقدية والمالية المسجلة في حصيلة الأشهر التسع الأولى من سنة 2015 مدى تأثير الصدمة المالية الخارجية على دواليب الاقتصاد الوطني الذي أصبح يواجه وبالدرجة الأولى المؤسسة الجزائرية الإنتاجية تحديات مصيرية تقتضي أن ينخرط كافة الفاعلين في الساحة ضمن مسار لا بديل عنه يتمثل في إطلاق بناء اقتصاد إنتاجي ومتنوع والتوجه إلى التصدير نحو أسواق خارجية من أجل تعويض الفارق الذي تخسره الجزائر جراء تراجع إيرادات النفط أو القليل منها على الأقل. ويتناول الحوار التالي الذي خصنا به محمد حشماوي دكتور في الاقتصاد خلفيات وأبعاد تلك المؤشرات كما يثير الخيارات المتاحة لتجاوز المنعرج مبرزا في الجوهر الثقل الذي تمثله المؤسسة الإنتاجية في إحداث القطيعة مع إيرادات المحروقات في ظل حشد كل الطاقات الوطنية وتجنيد الموارد المتوفرة، مسجلا مدى القوة القانونية التي حملتها التعديلات المتعلقة بمراجعة الدستور في إعطاء الشق الاقتصادي أهميته الكبيرة من خلال إحداث توازن بين كافة أطراف المعادلة الاقتصادية الوطنية وجعل التنمية قضية وطنية تعني كافة المجتمع. - الشعب الاقتصادي: ورد في تقرير بنك الجزائر الأخير حول التوجهات النقدية والمالية عن مؤشرات سلبية تحمل تهديدات تقتضي التزام حذر شديد لتجاوزها، ما هي قراءتك لتلك المعطيات وأبعادها على التنمية؟ * د. محمد حشماوي: يمكن إدراج تلك المؤشرات في الخانة الحمراء حيث أظهر تقرير بنك الجزائر مجموعة من الاتجاهات التنازلية نذكر منها تقلص احتياطي الصرف وتراجع الإيرادات المالية من المحروقات وانخفاض الجباية البترولية وتدني قيمة الدينار إلى جانب ارتفاع مستوى عجز الميزانية. بالنسبة لإيرادات المحروقات فقد تراجعت تقريبا بنسبة 43 ٪ في السداسي الأول من 2014 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2014، حيث سجلت 31 مليار دولار في النصف الأول 2014 لتتقلص إلى 18 مليار دولار في نفس الفترة من 2015 استنادا لنفس الأرقام التي كشف عنها بنك الجزائر. نفس المؤشرات أظهرت وجود عجز في الميزان التجاري(يقصد بالميزان التجاري مجمل حركة السلع فقط ولذلك لا يقدم صورة حقيقة للاقتصاد) بتسجيل 8,18 مليار دولار في السداسي الأول 2015 مقابل فائض ب 2,31 مليار دولار في نفس الفترة من 2014 فتم الانتقال من حالة فائض إلى حالة عجز، بينما عرف ميزان المدفوعات بدوره عجزا بلغ ب 14,39 مليار دولار السداسي الأول 215 مقابل عجز بلغ 1,32 مليار دولار في نفس الفترة 2014 وتوجد توقعات تسجيل ميزان المدفوعات عجزا يمكن أن يصل 17 مليار دولار نهاية 2015. واعتقد أن ميزان المدفوعات هو المعيار الذي يعكس مدى الصحة المالية للبلاد (يقصد بميزان المدفوعات مجمل حركة رؤوس الأموال والخدمات والسلع تصديرا واستيراد). - لماذا وصلت الأمور إلى هذه الوضعية الصعبة؟ * بطبيعة الحال كل هذا ناجم عن تراجع أسعار المحروقات في وقت بلغ فيه سعر البرميل اقفل الأسبوع الأخير ب30 دولارا مما يؤكد مدى تداعيات ذلك على المؤشرات المالية للبلاد. كما تشير التقديرات إلى تراجع الاحتياطي بالعملة الصعبة، الذي خسر 34 مليار دولار في ظرف 12 شهرا، فبعد أن كان في حدود 198 مليار في السداسي الأول من 2014 تراجع الاحتياطي إلى 159 في نفس الفترة من 2015 وإلى 152 مليار إلى غاية سبتمبر 2015، في حين هناك انخفاض ولو بنسبة قليلة للواردات لكنه بمعدل ضعيف لا يغطي حجم تراجع إيرادات المحروقات. نسجل أيضا تدني قيمة العملة الوطنية التي تدهورت بنسبة 22 ٪ وهذا راجع أساسا إلى انخفاض احتياطي العملة الصعبة علما أن قوة الدينار الجزائر تستمد أساسا من حجم احتياطي العملة الأجنبية بنسبة 70٪ ومن قوة الإنتاج الاقتصادي ب30٪ ولذلك هناك ارتباط للقدرة الشرائية للعملة الوطنية بالمحروقات. على صعيد آخر إذا أخذنا عامة تطور الناتج الداخلي الخام(وهو مجموع الإنتاج الوطني لكل القطاعات خلال سنة) استنادا لتوقعات صندوق النقد الدولي فان تطور من 134 مليار دولار في 2007 إلى 211 مليار دولار في 2014 ليتراجع إلى 208 مليار دولار في 2015. ويتبين هنا وجود انخفاض في الناتج الداخلي الخام بفعل الصدمة المالية الخارجية جراء انهيار سعر برميل النفط. والملاحظ أن تركيبة الناتج الداخلي الخام تتوزع بالنسب التالية، 31٪ واردة من المحروقات، الصناعة 5٪ فقط والفلاحة 10٪ والبقية تولدها الخدمات. ونلاحظ هنا المساهمة الضعيفة للقطاع الصناعي في تنمية النتاج الداخلي الخام وهذا بالنظر إلى طبيعة النسيج الصناعي الهش المشكل بنسبة حوالي 90٪ من مؤسسات صغيرة ومتوسطة أغلبها عائلية وذات مساهمة ضعيفة في إنشاء مناصب عمل. وقد أدى هذا الوضع إلى ارتفاع حجم القطاع الموازي الذي أصبح يهيمن على حوالي 50٪ من النشاطات الاقتصادية، واعتقد أن هذه الوضعية أدت إلى إعادة النظر في التوقعات الخاصة بالنمو بحيث راجع “الافامي” تقديراته من 5 إلى 3,9٪ في سنة 2016. - في ظل هذه الوضعية الناجمة عن الصدمة الخارجية، ما هي التداعيات المحتملة التي تنعكس على الجبهة الاجتماعية؟ * من ببن التحديات الأولى مسألة البطالة والتصدي لشبحها الذي تراجع في مرحلة سابقة. فالمعضلة ترتبط بالاستثمار ووتيرته لكن لا ينبغي إغفال بعض القطاعات التي يمكنها استيعاب الطلب على العمل بنسبة كبيرة مثل الخدمات(60 ٪ من العمالة)، البناء(18٪) الفلاحة(8,8 ٪)، الصناعة(12٪) فيما يستحوذ القطاع الموازي على حوالي 50 ٪ من العمالة النشيطة. لقطاع الصناعة نسبة ضعيفة علما أنه هو القطاع الذي يستوعب عددا كبيرا من اليد العاملة، فالصناعة هي المحرك للتنمية والتحدي كيف لها أن تستوعب الطلب على الشغل الذي تقدره أرقام صندوق النقد الدولي بين 250 إلى 300 ألف طلب عمل يطرح في سوق الشغل سنويا. ولذلك السؤال هل يمكن بمعدل نمو 3,9٪ استيعاب هذا الحجم الذي يتطلب رفع معدل النمو إلى 3 و7٪ لمواجهة التحديات بنجاعة. - كيف يمكن الوصول إلى هذا المستوى؟ * نواجه اليوم معادلة مصيرية تتعلق بإنجاز الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج ومتنوع، واعتقد أن للجزائر إمكانيات قوية لتنويع اقتصادها بالاعتماد خاصة على الشراكة الوطنية بين القطاعين العام والخاص وكذا تنمية الشراكة الأجنبية والاستفادة من التحولات الاقتصادية العالمية، خاصة وأن الجزائر بلد إفريقي في وقت تشير فيه التوقعات إلى أن إفريقيا سوف تكون الوجهة الجذابة للاستثمارات الأجنبية. غير أنه يقع على الطرف الجزائري أن يعرف كيف يفاوض هذه الشراكة الأجنبية علما أن الهدف الجوهري منها نقل التكنولوجيات والمعرفة، ولذلك ينبغي أن تأخذ المفاوضات مع الشريك الأجنبي الجانب الاستثماري المنتج بالجزائر وعليها (أي الجزائر) أن تضبط إستراتيجية لترقية الصادرات خارج المحروقات من أجل تعويض فارق انخفاض ميزان المدفوعات. - تقصد هنا المؤسسة الجزائرية التي تعاني أيضا من تشرذم الفاعلين في ظل غياب تنظيم ناجع؟ * حقيقة حتى يمكن مواجهة التحدي ينبغي الاهتمام بالاعتماد على اقتصاد المعرفة كعنصر أساسي وتنافسية المؤسسة المنتجة للثروة وكذا ما يعرف اليوم بإعادة انتشار الصناعة عبر العالم، ليمكن استقطاب الاستثمارات الأجنبية في ظل مناخ استثماري ملائم. ولتشجيع الاستثمارات المباشرة الخلاقة للثروة وإدراك مدى أهميتها فقد تكفل بها التعديل الدستوري بحيث أورد المشروع جملة من الأحكام ذات الصلة تهدف إلى تحفيز تنويع الاقتصاد وتحرير الاستثمارات لخاصة فاسقط التعديل الدستوري التمييز بين ما هو قطاع عام وقطاع خاص مع تحديد وبشكل واضح للقطاعات الإستراتيجية ودور الدولة إلى جانب حسم الجدل القائم في الساحة حول تلك القطاعات الإستراتيجية ذات الطابع العمومي بإقراره في أهم وثيقة مرجعية للدولة الجزائرية. في هذا الإطار ينبغي أن يساهم الجميع في تجاوز الظرف الاقتصادي الصعب (ضمن ما يمكن اعتباره النفير العام الاقتصادي) من خلال تجنيد كافة الفاعلين في الساحة وفقا لتحرك تضامني. بطبيعة الأمر تتكفل الدولة بتوفير عوامل تحسين المناخ الاقتصادي وتوجيه ذكي مع مرافقة للقطاع الخاص للاستثمار المنتج والقادر على إحداث مناصب العمل وخلق الثروة ومن ثمة المساهمة في النمو. بالنسبة للقطاع الخاص فمن طبيعته انه يحرص على ترشيد موارده والتوجيه السليم للمؤسسات الخاصة يكون عنة طريق أدوات الدولة التي تربط القروض الاستثمارية بمزايا جذابة مثل تقليص نسب الفوائد. وعلى سبيل المثال يمكن تركيز التحفيزات المالية والجبائية على تنمية الاستثمار في الفلاحة من أجل جذب اهتمام المتعاملين. فالدولة تتدخل كضابط وموجه بطريقة ذكية بدءا بتحديد القطاعات التي يمكن الاعتماد عليها لبناء اقتصاد إنتاجي وتوجيه القروض الاستثمارية إليها وفقا لتحفيزات تنافسية. أن القطاع الصناعي هو المحرك لعلمية النمو لأنه يعتمد على المعرفة وفيه يتحقق الابتكار ومنه تتحرك قطاعات أخرى مثل الفلاحة التي لا يمكن أن تتطور بدون نمو الصناعة بمفهومها الشامل أي تكنولوجيات الاتصال. فبربط الصناعة بالفلاحة(الصناعة التحويلية الغذائية) يمكن إنشاء القيمة المضافة. - أمام هذا الأمر الواقع هل يمكن تصور آفاق تحمل بوارد انفراج يشكل هدفا استراتيجيا؟ * بالفعل توجد جملة إجراءات مثل ترشيد النفقات والرفع من أسعار بعض المواد وتقليص الاستيراد غير أن هذا يعتبر حلا ظرفيا يستجيب لمتطلبات في المدى القصير. ولذلك يجب اعتماد نموذج تنويع مصادرنا من خلال النتاج والانتقال من فكر استهلاك احتياطي الصرف إلى استعمال تلك الموارد في الإنتاج. في هذا الصدد من المهم تطوير مقاربة للتصدي للأزمة من خلال عقلنة تسيير الموارد والحذر في استعمالها في الدورة الإنتاجية التي توفر تنويع الإيرادات والصادرات خارج المحروقات. بالموازاة يعول على المنظومة البنكية لتمويل مسار بناء اقتصاد إنتاجي علما أن هناك صورة نمطية تتمثل في توجيه اتهامات للإدارة البنكية من جانب المستثمرين بينما العيب يوجد لدى الجانبين بالنسبة للبنوك تعاني من بيروقراطية بنكية واستعمال طرق تقليدية في العمل وبالنسبة للمتعاملين الخواص من حيث عدم استعمال تمويلات العمومية في الإنتاج الحقيقي. ويرجح هذا إلى عدم أو ضعف مراقبة ومتابعة البنوك لمسارات التمويلات والقروض الاستثمارية من حيث جدوى استعمالها. وفي هذا الإطار فإن البنوك مدعوة لتحسين خدماتها مع الحرص على متابعة القروض وتقييم الاستثمارات من خلال دراسة الجدوى للمشاريع من كافة الجوانب ذلك أن الهدف من القروض الاستثمارية ليس استردادها إنما من أجل خلق الثروة والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، خلافا للقروض التجارية فإنها لا تساهم في النمو كونها لا تزيد من حجم الثروة إنما تزيد من حجم الكتلة النقدية فقط وبالتالي لا تلعب دورا في إنشاء فرص العمل بل تؤدي إلى الرفع من التضخم الذي لا يمكن علاجه سوى بالاستثمار المنتج. وبالمناسبة ينبغي الحرص على بناء منظومة للتحكم في الأرقام الإحصائية حتى يمكن تشخيص دقيق للمؤشرات وتحليلها بما يوفر إمكانية اتخاذ القرار الصائب. والملاحظ هنا أن الأرقام التي يعلن عنها غالبا ما تأتي من مصادر غير محلية تعدها هيئات دولية وتوجهها وفقا لمسارات تدرك توجهاتها مما يؤثر على مناخ الاستثمار، لذلك لا ينبغي أن يستمر في الكشف عن الأرقام الاقتصادية في وقت متأخر مع ضرورة الإعلان عنها في وقتها واستباق ما يصدر عن جهات دولية غالبا ما تقدم تقارير سلبية يعتمدها المستثمرون الأجانب ويتعلق هذا بأهمية بناء منظومة إعلام اقتصادي ناجعة.