نشوة النصر، أنستنا التعذيب بزنزانات فرنسا الاستعمارية شهدت خنشلة العديد من المعارك والحوادث إبان الثورة التحريرية التي بقيت راسخة في أذهان المجاهدين، الذين أنجبتهم وغرست فيهم حب الوطن والدفاع عنه إلى آخر رمق من حياتهم. من هؤلاء المجاهدون، الضابط المتقاعد شراب العربي من مواليد 1917 بالمحمل، الذي التحق بجيش التحرير الوطني في فيفري 1958، له تاريخ حافل بالمآثر والبطولات ورصيد تجاوز 32 معركة شارك فيها رفقة زملائه قادة وشهداء الثورة التحريرية، كمصطفى بن بولعيد وشيحاني بشير، عباس لغرور، عثماني تيجاني، حوحة بلعيد وآخرين. من بين أهم المعارك التي شارك فيها وبقيت راسخة في ذهنه، هي معركة الجرف والتي جاءت مباشرة بعد اعتقال الشهيد مصطفى بن بولعيد في 12 فيفري 1955، في خبر عاجل أذاعته إذاعة الجزائر، وبعد الخبر مباشرة عقد القادة الثلاثة شيحاني بشير، وعاجل عجول بمعية البطل عباس لغرور، لقاء عاجلا مع المسؤولين المحليين لناحية تبسة في مركز القيادة في رأس الحورية في غابة ابني ملول ببوحمامة غرب ولاية خنشلة. وفي هذا الصدد، يروي المجاهد العربي شراب ل “الشعب”، تفاصيل عن تاريخ المنطقة التي كان طرفا مشاركا فيها قائلا، إنه بعد هذا الاجتماع قرّر شيحاني بشير نقل مقر القيادة من رأس الحورية، إلى غرب الأوراس إلى المركز الجديد القلعة جنوبخنشلة وذلك في 20 فيفري 1955، وسبب نقل القيادة إلى أوراس النمامشة وهي الاقتراب من الحدود عبر ناحية تبسة، لضمان عملية التسليح والاحتكاك المباشر مع الشعب، والذي يعد المصدر الرئيسي لتموين الولاية الأولى والثورة عامة بالسلاح. قيادة جولات ماراطونية لتنظيم المنطقة الشرقية وموازاة مع ذلك، قضى الشهيد بشير شيحاني شهرا كاملا دأب فيه على تنظيم، المنطقة الشرقية خنشلةوتبسة وما جاورها، وفي بداية شهر مارس 1955، عقد اجتماعا للمناضلين في كل من تبسة والشريعة، وبكارية والماء الأبيض والكويف، ألقى فيه الشهيد خطابا حمس فيه الشعب على الثورة وألهب قلوبهم وحرك أحاسيسهم، كما طلب منهم المساعدة بالمؤونة والتموين، فلم تمض أسابيع حتى وصلت إلى مقر القيادة بالقلعة جنوبخنشلة قناطير من السميد والسكر والزيت والقهوة والحليب المعلب. ويقال، إن هذا الاجتماع حضره حتى العربي التبسي، بعدها انصب تفكير شيحاني بشير على ضرورة نقل القيادة من القلعة إلى ناحية تبسة، متوخيا في ذلك الأهداف التالية: توسيع نفوذ المعارك بالولاية الأولى الممتدة من جبال مسيلة الحضنة غربا إلى الحدود التونسية شرقا، وحتى سوق أهراس شمالا إلى بسكرةجنوبا لضمان عملية التسليح الذي يعد من أولى الأولويات بالنسبة لها، بعدها انعقد اجتماع كبير بالقرب من جبل الجرف وبالضبط بمنطقة رأس الطرفة. حضر هذا الاجتماع جمع غفير من مجاهدي الولاية الأولى ومن مختلف القرى والمدن كتبسة، بئر العاتر، قنتيس، بابار زوي، تبردقة، والمحمل وهي تنتمي معظمها إلى خنشلة وقد حمل الكثير من هؤلاء أفرشة وأغطية ملابس وزرابي ك«البرانيس والقشابيات”، إضافة إلى مختلف المواد الغذائية وتبرعات العديد منهم التي شملت أسلحة مختلفة، والتي كانت مخفية مع بعض المال، حيث حضر الاجتماع أكثر من 500 شخص منهم القادة عباس لغرور، عاجل عجول، مساعي بن علي فرحي الوردي، قتال، عثماني التجاني وغيرهم من الأشاوس. ألقى فيه بشير شيحاني خطابا حثّ فيه المجاهدين، على الاستماتة في الدفاع عن قضيتهم العادلة ونصرتها ثم قام بتوزيع الأدوار وتقسيم الولاية إلى نواحي معينا على كل ناحية منها قائدا، وقد استمر العمل بهذه التوصيات إلى غاية منتصف شهر جوان 1956. ترأس شيحاني الاجتماع عمار بن بولعيد شقيق مصطفى عجال عجول، وغيرهم وتزامنت هذه الفترة بالانتصارات العسكرية الهامة التي تحققت كالقبض على ستة مضليين بداية شهر مارس، حيث كان شيحاني بشير ينوي مقايضتهم بالإفراج عن مصطفى بن بولعيد. كما أسر أيضا 11 جندي فرنسي في كمين من طرف وحدات جيش التحرير الوطني بين جلال وخنقة سيدي ناجي شهر أفريل، واسترجاع 35 بندقية كما تمّ قتل الرائد ميكال والمرشد الديني جاك من قبل المجاهدين. وأبرز المجاهد شراب لجريدة “الشعب” ايجابيات هذه الانتصارات التي أدت إلى ارتفاع معنويات المجاهدين وطموحاتهم و تحقيق المزيد من الانتصارات، ولكن الحدث الأهم والانتصار الأكبر - أضاف يقول - هو ما حققناه من انتصار في معركة الجرف الشهيرة، إذ كان الاجتماع الذي عقده شيحاني بشير هو تمهيد للمعركة الكبرى، والمواجهة التاريخية العظمى، التي كان جيش التحرير فيها على موعد مع التاريخ في معركة لا تنسى ومفخرة من المفاخر الحربية لجيش التحرير الوطني، الذي استطاع فيها فك الحصار المفروض علينا من طرف قوات الاحتلال الرامي للقضاء على الثورة، وإخماد نارها وإطفاء لهيبها المستمر بجبال الأوراس وطمس جذورها. ولكن بفضل المجهودات الخارقة والعمل الجبار في تلك الظروف القاسية، والجبال الوعرة استطعنا ببسالتنا وبتوفيق من الله عزّ وجل هزم العدو الذي كانت قنابله المضيئة تتساقط علينا كالمطر، استعملت فرنسا في هذه المعركة أطنانا من القنابل منها حتى المحرمة دوليا، وكذلك الغازات السامة وقد قام عباس لغرور بالانسحاب والخروج من هذا الحصار رفقة 40 رجلا وكانت الكلمة السرية آنذاك هي “خرشف”. وأضاف شراب :« أما أنا فقد حوصرت مع أربعة من زملائي في الكفاح، وقد نال منا التعب والجوع والعطش وتقدمت بعدها قوات اللفيف الأجنبي ليلا فلم نستطع الإفلات منها، نحن وجماعة أخرى من المجاهدين إلا بالقتال المتلاحم حتى اختلطت دماء القتلى بدماء البغال، التي كان العدو يحمل عليها سلاحه نظرا لصعوبة المسالك”. وقال أيضا: “وعند خروجنا كانت الليلة مقمرة ووجدنا عباس لغرور أمامنا في الانتظار حتى جماعة شيحاني بشير تمكنت من الإفلات والنجاة، بعد أسبوع قضوها محبوسين في مغارة بوادي الجرف، كان قائد الولاية الأولى شيهاني بشير وفوجا من أربعين مجاهدا تحت الحصار الذي فرضه عليهم جنود الاحتلال، وعندما لم يتمكنوا من فكه إلتجأوا إلى مغارة أسفل المنحدر الصخري بحيث يصعب على العدو الوصول إليها”. لكن بعد هذا الانتصار الذي حقّقه المجاهدون جاءت المأساة، عندما أعدم القائد شيحاني بشير بعد محاكمته وتبقى حقيقة إعدامه أو اغتياله مدفونة ولا أحد يعلمها سوى أولائك الذين استشهدوا من رفاق المرحوم. وبعد وفاته كان لزاما على الولاية الأولى، تعيين قائدا لها بحيث لا يقل خبرة وشجاعة وذكاء عن سابقه الشهيد البطل بشير شيحاني، ألا وهو رفيقه عباس لغرور الذي قاد عدة معارك سنة 1955، ضد قوات الجيش الفرنسي ومن أهم المعارك التي شارك فيها الشهيد، معركة الزاوية الشهيرة، معركة سافسور بششار، معركة البياضة استمرت 24 ساعة كاملة معركة كمين قنتيس في أكتوبر 1956، وبقي البطل يقود المعارك حتى استشهد في 25 جويلية 1957 عانينا الويلات في سجون الاحتلال...لكننا شهدنا يوم النصر قال المجاهد شراب: “حقيقة وفاته تعود إلى ماي 1957، كنا في 37 رجلا متجهين إلى تونس لأخذ قسط من الراحة بعد كل هذه المعارك وتجديد نشاطنا، في الطريق توفي الشهيد المدعو علي غزالي متأثرا بجروحه وعندما وصلنا إلى فريانة استقبلنا صالح بن يوسف، صديق المرحوم بن بلة فأكرمنا جزيل الكرم وكان الإخوة التونسيون يقدمون لنا كل ما نحتاج إليه، وعند توجهنا إلى مقر الإدارة ألقي علينا القبض وأدخلنا السجن وكانت من ضمن التهم الموجهة إلينا، محاولتنا للقيام بانقلاب ضد بورڤيبة ومساعدة صالح بن يوسف للوصول إلى الحكم”. وأضاف المجاهد قائلا أنه ت حشرهم في زنزانة ضيقة، وكانوا يطلقون عليهم مياه الصرف والأوساخ حتى صارت أجسادهم جحورا للقمل التي كانت تدخل في أنفهم وفي كل مكان من أجسادهم، وبعد محاكمتهم من طرف قاض جزائري والذي سلط عليهم الإعدام كانوا يطعمونهم الجزر مسلوقا بالماء خاليا من الملح، إضافة إلى قطعة خبز صغيرة، حيث عانوا الويلات في السجن. وأشار في هذا السياق إلى أنه، إقترب من أحد ضباط الشرطة قائلا له: “نحن مجاهدون ولا علاقة لنا بالتهم المنسوبة إلينا فقال أنكم مرسلون من طرف بن بلة للقيام بمهمة سرية، هنا ولذلك تمت محاكمتكم بالإعدام وفي الواقع أنه حكم إخواننا في القيادة لمعارضتنا لقرارات مؤتمر الصومام”، على حدّ قوله. وحسب المجاهد، فإن فرنسا كانت عندما تعدم أحدا تخفيه عن أنظار أصدقائه، وتضع على رأسه قطعة قماش سوداء حيث أخذوا عباس لغرور وحوحة بلعيد مع بعضهم ثم التيجاني عثماني وأيت زاوش ثم شرفي الربيعي وعبد الحفيظ السوفي والعائب من بسكرة، وغيرهم ولم يبق منا إلا القليل حتى أخرجنا العقيد عميروش ووجدنا أمامنا حوالي 200 رجل كلهم من منطقة الأوراس الأشم، مباشرة انضممنا إلى الكتيبة المكلفة بإيصال الأسلحة والذخيرة إلى المجاهدين، وكانت مكونة من الضباط المكلفون بالالتحاق بوحدات الجيش في الداخل. وبعد عودة شراب توجه مباشرة إلى جبل بوجلال، هناك وجد صالح بن علي والعقيد مقداد اللذين قاما بتسليحه وإعطائه أكثر من 180 رجلا تحت قيادة المتحدث الذي فرح فرحا شديدا وعاد بالكتيبة إلى جبال أوراس النمامشة وكم كانت فرحة المواطنين عندما رأوا الجيش يجوب تلك السهوب والهضاب والفيافي، نهارا على مرأى ومسمع من العدو لأن أغلب الجيش قتل في المعارك، لكن بقدرة الله تعالى استطاع جيش التحرير تلقين العدو دروسا لن ينساها، واختتم حديثه قائلا: “شاركنا في عدة معارك كانت أغلبها لصالحنا، إلى أن جاء يوم لن ننساه وهو يوم النصر والاستقلال”.