كلّما ذكرت هذا الاسم تذكّرت قصيدة كتبها الفيلسوف والشاعر المسلم محمد إقبال اللاهورى بعنوان «مسجد قرطبة « عندما قام بزيارة إلى الأندلس سنة 1932 بدأها بقوله «سلسله روز وشب نقش كر حادثات سلسله روز وشب أصل حياة وممات...»، زرت مرارا أسبانيا و لكنى لم أعرج أبدا على مقاطعة الأندلس تفاديا لإثارة المواجع 'واستثارة الأحزان واستنطاق الماضي التعيس، ومن أراد النياحة على كل هدا فليقرأ قصيدة أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس: لمثل هذا يذوب القلب من كمد... إن كان في القلب إسلام وإيمان. هذه المرة سيطرت على عواطفي وعقدت العزم على زيارة هذه القطعة من ذاكرة الأمة، فقصدت جنوب إسبانيا وكانت المرحلة الأولى من هذه الزيارة مدينة قرطبة، كنت كلما اقتربت من مشارف المدينة زاد قلبي خفقانا خاصة حين بدأت تلوح أمامي معالمها وفي مقدمتها المسجد العتيق بمنارته الشامخة التي تحدت القرون والخذلان، وبقيت شامخة منارة المسجد التي أصبحت برجا يحمل أجراسا كما يحمل السجين أغلاله الحديدية..أصابني الذهول وارتعدت فرائسي، فاغرورقت عيناي ولولا الحياء لأطلقت العنان للبكاء لأستفرغ الدمع من عين قد امتلأت فاغسل به ما علق بقلبي من أوجاع وحسرة على النكبات المتتالية التي ضربت أمتنا مند قرون خلت. منارة قرطبة كوكبة الفاتحين عند وصولى إلى قرطبة لم أعط نفسي وقتا للراحة من عناء السفر بل دخلت غرفة الفندق فرميت حقيبتي وخرجت مسرعة متلهفة لا تفقد ما بقي من آثار للفردوس المفقود...إنها قرطبة لؤلؤة الأندلس، حاضرة العلوم والمدنية والثقافة والتعايش السلمي والتسامح الديني. كان عليّ أن أعبر الجسر الذي أقيم فوق الوادي الكبير «كوادا الكفير» الذي يعانق المدينة القديمة كأنه يحضنها كما تحضن الأم صغيرها...دخلت قرطبة ليس في كوكبة من الفاتحين، ولكن في جمع من السائحين وفي مهجتي غصة النائحين على الذين قدموها أكلة صائغة للحاقدين الذين لم ينتظروا طويلا ليعبروا عن لؤمهم وشماتتهم رغم ما قدمته الحضارة الإسلامية لهم حين كانت باريس تبيت في غيهب الديجور وشوارعها مليئة بالأوساخ والوحل كانت قرطبة تبيت في حلة من نور بفوانيسها التي تضاء كل مساء مع آذان المغرب حتى يغشى المدينة أبو السرج.....نعموا بتسامح العقيدة السمحاء طيلة قرون فما أن نكست راية التوحيد حتى أقاموا محاكم التفتيش لأهل هذه العقيدة، فأجبروهم على التنصر تحت حد السيف وأرغموهم على القيام بكل ما يخالف تعاليمها وكان على المدجن المدخار..(أي من بقى من المسلمين الذين لم يهاجروا من ديارهم قاصدين الشتات فى حواضر المغرب) أن يترك باب بيته مفتوحا ليلا نهارا حتى يباغت في عقر داره في أي ساعة للتأكد من أنه لا يقيم شعيرة ولا يقرأ قراءنا وأن رائحة طهي الخنزير تزكم الأنوف في مطبخه. تباريح المدينة تفضي ثقافات الأمس دخلت المدينة ورحت أتجوّل في شوارعها العتيقة الضيقة مقارنة بشوارع عصرنا، والألم يقطع أحشائي تقطيعا ساعتها أدركت مغزى وبعد شعار «ولا غالب إلا الله»، الذي لازال يزين قصور الأندلس...تابعت تجوالي في الأزقة وإحساس غريب يغمرني تخيّلت نفسي في سنوات العز في قرطبة، والناس من ذلك العصر يمرون من حوالي لا يلقون لي بالا حتى وإن كنت من عصر لم يعرفوا عنه شيئا، وهو يعرف عنهم الكثير نساء بملابس ذلك العهد بعباءات وأقمشة مطرزة وجبات محتشمة أطفال يركضون هنا وهناك رجال على اختلاف أعمارهم ومراكزهم الاجتماعية بل ووظائفهم يتهادون عليهم أردية متعددة الأشكال والأجناس بحسب تعدد المناطق كما وصفهم لسان الدين بن الخطيب «والأردية الأفريقية والمقاطع التونسية والمآزر المشفوعة، فتبصرهم في المساجد أيام الجمع كأنهم الأزهار المتفتحة في البطاح الكريمة تحت الأهوية المعتدلة»، بقيت أمشى على غير هدى وأنا أتأمل المساكن القديمة التي حافظت على طرازها المعماري لم يتغير منها شيء إلا الساكنة. كنت أتخيّل المحلات والدكاكين مفتحة الأبواب يعمرها الحرفيون من صانعي النحاس والجلد والخزف والذهب والفضة ومواد التجميل والعطور ومكتبات مكتظة بنفيس الكتب والمخطوطات، ناهيك عن المدارس والجامعات التي كانت مقصد طلبة العلم من كل أقطار العالم...فقرطبة كانت قبلة العلوم حين كانت أوربا قاطبة مريض الجهل والتخلف وتجارة صكوك الغفران...كنت أسرع الخطى في الطرقات المبلطة بالحجر ومازالت تظهر مجارى المياه لكل بيت قرطبي للنظافة والاستعمالات اليومية....كانت النظافة مقدسة بل جزء من إيمان حين كان الأوروبي لا يقرب الماء إلا قليلا...أسرع لأرى المسجد الكبير الذي غيروا اسمه ومهامهه إلى كاتدرائية......مدخل كبير مشرع على مصراعيه يؤدى إلى حديقة المسجد توجهت مباشرة إلي باب القاعة الوحيد الذي يلج منه الناس وقد كانت تتوافد منه جموع المصلين في يوم ما....كنت كالنائمة وأنا أتابع سيرى فأيقظني صوت حارس حين طلب مني تذكرة الدخول فقلت في نفسي في هذا المكان كانت تقف ملائكة لا تطلب التذاكر ولكن تذكر المصلين بالوضوء للولوج......فأين نحن اليوم في حكم العلوج...؟ التفت يمينا و شمالا فلم أرى إلا طوابير السياح ينتظرون دورهم لشراء التذاكر وأغلبهم نساء كاسيات عاريات... مسجد قرطبة.. قداسة تستغيث أبي عامر المنصور جاء دوري فوقفت وسط الصحن أتأمل بقايا حلم جميل ...المسجد الجامع بمساحة تقدر ب 22500 م2 بأعمدته كغابة من نخيل عليها أقواس مزدوجة ملونة بالأبيض والأحمر الأعاجم في غدو ورواح بين أرجائه المترامية الأبعاد كثير من ترى على وجوههم علامات الغبطة والفرح والتباهي بما أنجزه بنو ملتهم حين أخرسوا الأذان من هذا المكان فاستبدل بالنواقيس وأخرج أهله أذلة صاغرين، ونصبت الصلبان في كل اتجاه...القاعة التي تسع سكان قرطبة برمتهم وقتئذ لأداء الصلاة أصبحت مظلمة بعد أن سدت كل نوافذها الكبيرة بالطوب والأسمنت، وقد صمّمت خصيصا لتنير المسجد بضوء الشمس من كل جهة...جلست على كرسي خشبي أحملق في جنبات المسجد فإذا به ملء مقصورات في كل زاوية، عبارة عن كنائس صغيرة ومذابح وقبور لرهبان…والطامة الكبرى هي الكاتدرائية التي تتوسط المسجد، فشوهت الطراز المعماري الجميل الذي اعتمده محمد بن أبى عامر المنصور(987 ه) حين أراد أن يجعل من هذا الجامع تحفة فنية لا مثيل لها في العالم آنذاك...التفت يمينا وشمالا فأحسست بأن هذا المكان قد مات فعلا وماتت معه قدسيته مع جموع السياح الذين زادوا قلبي هما وغما وهم بلباس يحسسك بأنك على شاطئ البحر لا في مسجد...حتى الوسخ تطاول على هذا المكان فأصبح شاحبا لم تلامس جدرانه مسحة طلاء منذ أن داسته أرجل إيزابيلا وفرديناند...قمت خارجة وأنا أعانق الأعمدة أسائلها في صمت وفي كمد..كم مصليا موحدا سجد بجانبك؟ كم من منصت إلى درس أو خطبة جمعة أو عيد أسند ظهره إليك؟ كم شيخا مؤمنا عانقك مستعينا بعرصاتك ليقوم من مصلاه؟ فأجابتني دعامة بلسان الحال قائلة: «تفانوا جميعا فلا مخبر وماتوا جميعا ومات الخبر...تروح وتغدو بنات الثري وتمحوا محاسن تلك الصور فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما ترى معتبر؟ تمنيت أن أستقبل القبلة وأصلي ركعتين تحية لمسجد قرطبة أو ما بقي منه ولكن القوانين الصارمة منذ محاكم التفتيش إلي يومنا هذا تمنع المسلم من إظهار شعائره الدينية ليس في هذا المكان فحسب بل في أثار الأندلس قاطبة. أحسست بالاختناق فخرجت إلى الصحن ونظرت في كل اتجاه مودعة أردد كلمات ابن الرندى. تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما يبكي لفراق الألف هيمان على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيها إلا نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر تبكى وهي عيدان عدت إلى الفندق بت تلك الليلة حزينة متأمّلة مردّدة لكل شيء إذا ما تمّ نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقى على أحد ولا يدوم على حال لها شان أشبيلية..طليطلة..المدور..مالقا تاريخ في يمتد في الأمس القريب
وعلى مضض قمت بزيارة أماكن ومدن أخرى من بلاد الأندلس..اشبيلية طليلطة، المدور، مالقا، وأختتمها بغرناطة لأخرج من هذه البلاد كما خرج آخر ملوكها، وقد كانت آخر حصن لم يرفع الإسلام ولا الوجود العربي رأسا من بعد في هذه الرحاب...وأنا أخرج من قصر الحمراء رفعت رأسي فرأيت مكتوبا على قوس الباب الكبير عبارات بالخط العربي تخلد وتمجد مشيد القصر كما جرت العادة آنذاك، وكما أعتاد أن يفعله من بددوا ملكا وخربوا بيوتهم بأيديهم وهم كما ذكر ابن رشيق... ممّا يزهدني في أرض أندلس أسماء مقتدر فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكى انتفاخا صولة الأسد كنت أقرأ بصوت عال فبادرتني امرأة اسبانية هل ما قرأت يحكي عن ايزابلا وفرديناد و يمجد صنعهما؟ فنظرت اليها بحزن وأدركت أنها لا تعرف عن بلاد الأندلس إلا هذين الشخصين وما صنعا بالمسلمين، لا تعرف ألا ما روج له مؤرخوهم حول الصليب الذي يحطم مئذنة وفرديناد وهو يستلم مفاتيح مدينة غرناطة من أبي عبد لله الذي خرج من عز قصر الحمراء إلى ذل مزبلة التاريخ...أبو عبديل يقف على نشز بسفح جبل الريحان فتصعد منه زفرة وتنساب من عينه دمعة لم تخف على أمه عائشة الحرة التي كانت بجانبه فنقول له بنبرة ملؤها الأسى والحزن (أبك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال). ما لاحظته خلال هذه الزيارة هو أن بلاد الأندلس لازالت تعيش على موارد السياحة للآثار التي تركها لهم ما لا يصح أن نسميهم بالمسلمين، لأن آخر أيامهم كانت كلها مؤشرات لقرب زوال النعمة، كانوا قد قطعوا شوطا من الترف واللين، والتنعم وتفرغوا لسفاسف الأمور والانحلال حتى صار الحاكم يعتنق المسيحية من أجل جارية فتصبح هي الحاكمة و المسيرة للبلاد والعباد...كنت كثيرا ما أفكر في أمر واحد وهو أنه كيف بعد سبعة قرون من الوجود الإسلامي لم يوجد مسلم واحد من بين أهالي البلد الأصلين مع سقوط غرناطة لا أتكلم عن المدجنين والجواب بسيط يتلخص في أن المسلمين إذا صحت تسميتهم بذلك لم يكن همهم نشر العقيدة وإرساء تعاليمها بين ربوع البلاد المفتوحة وإنما غاصوا في الملذات وطيب العيش كما يغوص الجائع في قصعته... توجّهت إلى مطار اشبيلية للعودة من حيث أتيت وصوت ابن الرندي يزمجر في أذنى... أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا وصار ما كان من ملك ومن ملك كما حكي عن خيال الطيف وسنان حلّقت الطّائرة عاليا فبدت بلاد الأندلس بأراضيها الشّاسعة، فتذكّرت قوله تعالى: {كم تركوا من جنّات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك أورثناها قوما آخرين} (الدخان الآية 28).