إذا تصفّحت قصصه وجدت نفسك أمام الحرف الرشيق الذي تحرّر من شحوم البلاغة المفتعلة، ومن كبرياء الإحالة وغرورها، حيث لا يحيلك إلى غير عالم محمد الكامل بن زيد. أنت أمام الحرف الذي لا يتناص إلا مع نفسه، إنه الكبرياء الأدبي في أسمى تواضعه لا يقدم لك طبقه بغلاف فاخر، وإنما يعرض عليك مادته الأدبية خاما، دون تأثيرات، ولذوقك بعد ذلك الحكم. وكاتبنا لا يتعامل مع قرائه على أنهم مبتدئين يجول بهم عالمه من شارع ضيق إلى آخر، بل يتحمل هو مخاطر تلك الجولة أولا، ثم يحمل معه قارئه على متن طائرة مروحية، ويريه تلك المواقع بسحرها وعبيرها، فيتعرف القارئ على السر الذي هو أهم من الحدث الذي يصنع القصة. أهمس في أذنيك: احذر عندما تقرأ له، ففي نيته أن يراوغك بحرفه، أن لا يفشي لك سرّه من القراءة الأولى، إنه كحصان طروادة، تتسلّل إليك مضامينه عندما يراك بدأت تتخفف من سلاح الانتباه.. يتبنّى دائما طرحا يربكك، بل ويستفزّك، يخرجك من لامبالاتك، لا يقنع منك بدور المتلقّي، وإنما يريد منك أن تكون مشاركا، وينجح كعادته كل مرة في مهمته، أقل أساليبه في ذلك حذف بعض الأحداث الرابطة التي تعمل فكرك بمتعة حتى تفهم النص. ارتأينا في هذه الوقفة أن نقترب من قصة قصيرة جدا منشورة ورقيا وإلكترونيا، اختار لها عنوانا هو (ضباب)، وهو لم يتعب في إيجاده لأنه متداول وغير مركب، وجاء نكرة ليفتح الباب أمام الذهن لكل الاحتمالات الواردة وغير الواردة. وهو من العناوين غير القابلة للاستنفاذ تماما مثل الظل والمرآة والصدى والقبر، وغيرها من تلك التي يحس الأديب أنها تبوح له وحده بسرها دون غيره من المشدوهين، تلك الأشياء التي حيرت الطفولة والإنسان البدائي وبقيت ترجيعاتها حتى وقتنا الحاضر. لابد من الاعتراف بقرابة العنوان من كل نفس، لأنه ولا أحد ينجو من ضباب في زاوية ما من زوايا حياته. كان من المنتظر أن يكون الضباب حليف الولد، ولكن ما إن تنتهي من قراءة القصة حتى يزاح عنك الضباب، وتعرف أنه لصيق بذلك الشيخ الذي ذهب بصره أو كاد، وتستفيق إلى أن الكاتب كعادته لا يريد أن يهادنك.. تبدأ القصة بالأب، الذي يبدو في موقف البطل، ولا سيما وهو مقرون ببندقية قديمة وما تحمله هذه اللفظة من الجلال والهيبة، لكن ما يكاد يمر وقت قصير حتى يزاحمه البطولة ابنه، إن لم نقل يرث بطولته حيا..إنّها مرارة أن يعيش الابن أفول أبيه، أو يضطر أن يوقع على هذا الأفول هو بنفسه في عبارة (سحبه من يده)، ولكن يخفّف منها محاولة إخفاء الابن هذه الحقيقة بتدليس بريء، عادة ما تكون هذه الوضعية مصاحبة لمكابرة الأب وتعنّته في قبول مرحلة عمرية معينة أو سيرورة حتمية، تماما كما نرفض التفاوض مع مرض مزمن بغيض. لماذا يتم استهداف سرب من الحمام الذي يضاف إليه العبور فوق سماء المدينة؟ هل يراد العبث بكائنات جميلة ترمز للسلام؟ كان من الممكن أن يختار الأب الأرانب مثلا، أو الغزلان. هذه زاوية مظلمة ليس للسارد الوقت الكاف لشرحها، وأعتقد أن الكاتب يرى أن تسليط الضوء عليها لا يخدم قصته. لفت انتباهي أن الكاتب مكثر في الحديث الفني عن أبيه، بل وعن أمه أيضا، والقضية متروكة للنقاد ولاسيما القريبين منه، هي دعوة سافرة مني لتناهب نصوصه. يضعنا نصه هذا أمام أربعة أصوات: صوت السارد، صوت الأب، صوت الابن وصوت الطبيب. يرافقنا الصوت الأول الذي هو صوت السارد إلى ما قبل الجملة الأخيرة لتختم بصوت من يرشح لأن يكون بطلا في آخر المطاف، وهو الولد، يعني لا يتخلى صوت السارد عن السلطة، حتى يسحبه الولد ليقول كلمته الأخيرة. ويمكن أن نلاحظ بكل يسر أن السارد غير حيادي منذ البداية حين يصف البندقية بالقدم، والحمام بالعابر، ناهيك عن كونه أول ناطق. في حين أراد الكاتب أن يبرهن أن ما يتفوه به الشيخ قريب من المنولوج لأنه يحاول إقناع نفسه داخليا وبعيدا عن أرض الواقع بمدى مهارته، وما إجابة الابن غير الموافقة لكلام الأب إلا دليل على ذلك، فلا سؤال ولا إجابة إنما هي جمل جاهزة من الطرفين. وما يريد الكاتب إبلاغه من القيم الإنسانية هو ذلك الألم الذي يتحمله عليك شخص تكون أنت عزيز عليه، وشفقة منه لا يجرؤ على إخراجك من فانتازيا (الأنا) التي تكون فيها سجينا لمدة ستين سنة، ويبدو أنه في حالة (ضباب) محكوم عليه بالسجن المؤبد. أن تكون الطّلقات النارية بدون جدوى، أمر محبط، يقتل فينا مسوغات الحياة، ألسنا كلنا مشروع طلقة نارية نحاول أن نحاكي من خلالها تلك الطلقة التي أخرجتنا من أصلاب آبائنا؟! ولا يخلو النص من السخرية المُرة، وذلك حين ينتقل الجاني أو المذنب إلى ضحية تدعو إلى التعاطف، إنه ضحية لعبة الزمن التي لا تستثني شيئا. نجد أنفسنا أمام ثلاثة وجهات للنظر: وجهة نظر الشيخ الذي ما زال يعيش على وقع أمجاده، ولا يريد أو لا يستطيع أن يسمع صوت الجيل الجديد، ولا صوت الطبيب، ووجهة نظر الابن الذي يمثل على استحياء البذرة التي تتماطل في مصارحة الشجرة بأنها تصد عنها النور، وأما وجهة النظر الثالثة فهي للطبيب الذي يمثل الحكمة، وكان بإمكان المؤلف لو كان في غير ق ق ج أن يستعين بتوصيفات وتسميات للشخصيتين، وبالخصوص بالنسبة للأب حتى يزيد الأمر وضوحا. يبدو الطفل يائسا، ومتجذرا في اليأس إلى أبعد درجة حتى ترك نصح أبيه، أو ربما لا يريد أن يضحي نفسيا بصفة البطولة التي يتقمصها أبوه. لا يريد أن يخدش الأسطورة، ويأبى الكاتب أن يضع المجهر على الصراع، لا لأنه اجتماعي ومحسوس لدى كل القرّاء، ولكن لأنّه نفسي يختلج بين جنبات الابن. ما زال الأب يوعز جدواه في اليد، لا في البصر، لذلك لم يشعر بالتغير شيء عندما ضعف بصره ضعفا معيبا قال: ستون عاما وأنا أصطاد..ما خابت يدي أبدا، ولعل العفوية التي قال بها هذه الجملة تصف مدى عمق المأساة. والملاحظ أنه لم يمدح بندقيته رغم قضائها معه وقتا طويلا، لعله النكران في أسمى صوره، كثيرا ما نرمي الأداة بعد وصولنا إلى الهدف. كما لم يسلم الطفل من صفة الدكتاتورية، حين «سحب»أباه، ولم يطلب منه بأدب الرجوع إلى المنزل، لعلها وراثة، أو ردة فعل طبيعية. لابد أن نستشعر المأساة بكل أبعادها، فالأب عاجز عن مجرد معرفة صوت السرب العابر الذي يمكن إصابة عدد كاف منه ببساطة، ما يثبت تضرر حاسة السمع أيضا، وهو ما يؤكده الحوار الأحادي، والذي يظهر فيه الابن بمظهر الأكثر تعقلا. إنّها شفقة الابن على تاريخ أبيه، ويمكننا أن نتعسّف فنورط صديقنا من خلال (كلمة) ستون سنة، إذا زعمناها مفتاحية، فندعي للقصة إسقاطا سياسيا، ولكن هذه المسلك لا يضيف شيئا فنيا للموضوع غير الغبطة بسبب مشاركة الكاتب في بعض انشغالاته، لذلك سنتركه عائدين إلى المفيد. وأختم بما بدأت به: إلى أين رحل الحمام يا محمد الكامل؟ نص القصة القصيرة جدا ضباب عندما أطلق طلقة من بندقيته القديمة نحو سرب الحمام العابر لسماء المدينة، جزم أنه أفلح في إصابة إحداها وما صراخ ولده الصغير القادم من حقول القمح إلا دليل قاطع: - أصبتها يا أبي. كان في صوت ولده الصغير نبرة فرح عارمة مما جعل جسمه يقشعر وينتفض زهوا: - ما زال فيّ ما يفرح..ما زلت قائما.. ثم وهو يرفع بندقيته مرة أخرى: - ستون عاما وأنا أصطاد..ما خابت يدي أبدا الطفل وهو يخرج حمامة ميتة من جوف الأرض القريبة..كان يدعو الله ألا ينكشف أمره..فطبيب العيون أول أمس رسم عن والده معالم سوداء، ولم يشأ أن يخبره، بل أخبر الابن.. - أنت..الضوء لم يفقه الكلمة ساعتها، لكن حدسه أبان له أن عليه أن يقود السفينة إلى مرساها..وأنّ عليه فعل الكثير والكثير.. وبعد أن تأمل والده مليّا سحبه من يده واتجها صوب المدينة: - أبي..هيا بنا نعود..فقد رحل الحمام.