الحدث ليس استثنائيا أو فعلا مستجدا، فالأمر يتعلق بجريمة أخرى تضاف إلى القائمة الطويلة المفتوحة من الجرائم والمجازر وإرهاب الدولة التي باشرها الصهاينة منذ أن حطت عصاباتهم أقدامها النجسة أرض فلسطين قبل أكثر من ستة عقود .أن يسقط شهيد فلسطيني آخر حتى وإن كان قياديا بوزن ومكانة »محمود المبحوح«، فالأمر ليس طارئا أو جديدا، فقبله طالت أيدي الارهاب الصهيوني آلاف الشهداء والقيادت ولم تستثنِ جنينا في رحم أمه أو عجوزا هرما أو مقعدا، ووقفنا على صواريخ »شارون« وهي تنسف نصف جسد شيخ الشهداء »أحمد ياسين« قبل ست سنوات، وأدركنا حينها بأن هذا العدو لا يتوانى عن ارتكاب أي جريمة وبأي شكل أو وسيلة ما دام أن الاجرام فطرته والعنف والارهاب يسريان مع الدم من عروقه، وما دام أن لا أحد في العالم يجرؤ على ردعه أو حتى إدانته. لكن يبدو جليا بأن ما أحدث كل هذا الصخب والضجيج حول اغتيال المبحوح، ليس الجريمة في حد ذاتها ولا الطريقة الرهيبة التي ارتُكبت بها، وإنما ما اصطلح على نعته من طرف البعض بالأخطاء التي تتخللها والتي سمحت باكتشاف منفذين والجهة التي تقف وراءها. لم نسمع إدانة من أحد لمقتل القيادي في كتائب القسام، في حين وقفنا ولازلنا على تساؤلات واستفهامات عن إخفاق الموساد في ارتكاب مهمته القذرة بالسرية المفترضة. وتصاعدت الأصوات داخل الكيان الصهيوني تستنكر ما وصفته بالكارثة، طبعا ليس لأن موسادهم قام بتصفية المبحوح، بل لأنه خلف وراءه من الدلائل ما استطاعت دولة صغيرة مثل دبي اكتشافه في برهة قصيرة، إذ تمكنت في ظرف وجيز من معرفة العدد الجرار من المشاركين في عملية الاغتيال وأسمائهم وجنسياتهم وأرقام جوازات سفرهم، وجزمت بأن الموساد يقف وراء الجريمة بنسبة 99٪ من الاحتمالات. لم نسمع صوتا يدين الجريمة بقدر ما سمعنا أصواتا في اسرائيل تدعو إلى إقالة رئيس الموساد الجنرال »مائير داغان« لأنه لم يوفق في ارتكاب الجريمة الكاملة، مثلما سبق وفعل مع الراحل عرفات ووضع الجهاز المخابراتي الذي أسسه »ديفيد غوريون« في ديسمبر ,1949 أي بعد 19 شهرا من قيام الدولة الاسرائيلية في موقف المثير للسخرية جراء الأخطاء الفادحة التي ارتكبها، والتي من بينها عدم الحذر والاكتراث من جانب منفذي الجريمة بكاميرات المراقبة والاجراءات الأمنية التي تتخذها دبي.. واستعاد الصهاينة واحدة من أكثر اخفاقات الموساد ايلاما، وذلك عندما فشل في اغتيال خالد مشعل في عمان قبل ثلاث عشرة سنة، حيث انكشف أمره وتم القبض على الجناة، واضطر الكيان الصيهوني لإرسال معادلة فك السم الكيميائي واطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، للافراج عن عملاء الموساد الموقوفين. لا أحد أدان الجريمة، بما فيها دول الغربية التي تذرف دموع التماسيح على أهل دارفور وعلى حقوق الانسان، وبدل أن تستنكر هذه الدول ما اقترفه الموساد انشغلت تستفسر عن إقحام جوازات سفر مواطنيها في العملية، مع أن الاحتمال كبير في أن هذه الدول أو جهات بداخلها ضالعة في هذه الجريمة بشكل أو بآخر، ويبقى الأمر المؤكد هو أننا لن نفق أبدا على أي رد فعل غربي تجاه اسرائيل ثم من الدول الكبرى يمكنها التنديد بجرائم الصهاينة، هل هي امريكا التي تعتبر إسرائيل عينها وقدمها الثابتة في قلب الوطن العربي، أين تنام مصادر النفط الذي يصب في خزاناتها ويبني صناعتها وسلاحها الذي يقتل العراقيين والأفغان والباكستانيين والفلسطينيين؟ ، أم هي بريطانيا صاحبة وعد بلفور المشؤوم، أم فرنسا وهي راعية القنبلة النووية الاسرائيلية؟ أم هم الألمان أكبر ممول للجماعات الصهيونية في إطار تعويضات المحرقة ؟ أم هم العرب المغلوبين على أمرهم، والذين أصبحوا عاجزين حتى عن حماية أمنهم الذي يحترقه الموساد متى شاء ليرتكب فوق أراضيهم الجرائم تلو الأخرى ؟ وبغض النظر عن الضجيج والصخب الذي أحدثه اخفاق الموساد في ارتكاب الجريمة الكاملة، فالمؤكد أن الصهاينة هللوا لتصفية المبحوح الذي كان من مؤسسي الجناح العسكري لحماس (كتائب القسام) أثناء الانتفاضة الأولى عام 1987 وباركوا الثأر منه، على اعتباره حسب زعمهم كان شريكا في خطف وقتل جنديين اسرائيليين قبل سنوات، كما كان حسب زعمهم أيضا مكلفا بشراء السلاح من ايران للمقاومة. وبرر الصهاينة، ككل مرة، مشروعية الجريمة بكونها سترهب القياديين الفلسطينيين واللبنانيين وتذكرهم بأن أيدي الموساد بمساعدة الخونة والعملاء ستطالهم في أي مكان وبأي طريقة، وذكروا بالهجوم الذي استهدف خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس، وبالتفجير الذي قضى على القائد العسكري في حزب الله عماد مغنية في سوريا، دون الحديث عن الاغتيالات التي طالت قيادات المقاومة بدءا بأحمد ياسين إلى الدكتور الرنتيسي وغيرهم كثير.. جريمة المبحوح كشفت حقائق مثيرة للحسرة والألم، أولا رجال المقاومة البواسل الذين يصفون غدرا، وثانيا أمن البلدان العربية الذي يخترق جهرا، وثالثا الخونة الذين يبيعون إخوانهم وأوطانهم وقضاياهم، ورابعا وهو الأهم اكدت بما لا يدع مجالا للشك بأن عرفات اغتيل بطريقة مشابهة، أي بسم كيميائي يكون قد تم مزجه في دوائه أو غذائه وهذا السم يتسبب بنوبة قلبية كما حصل مع المبحوح لتبدو الوفاة وكأنها طبيعة، والأكبر أن فرنسا توصلت إلى هذه النتيجة لكنها تتكتم على الحقيقة. ويبقى اغتيال المبحوح مجرد حلقة في سلسلة الجرائم التي ترتكبها اسرائيل منذ أكثر من ستة عقود، وأن ينكشف إرهاب موسادها، فالأمر سيان بالنسبة إليها مادامت ترفع دائما مبرر الدفاع عن أمنها وتجد في كل الأحوال من يدعمها ويساندها من الدول الكبرى. وفي الأخير، أعتقد بأن الذين يتحدثون عن إخفاق الموساد مخطئون بلا شك، فعلى العكس تماما مازال هذا الجهاز الاستخباراتي يرتكب جرائمه ببشاعة وبنجاح منقطع النظير، وأجزم بأن ما خفي من جرائمه كان أفظع، كما أجزم بأن أيديه ممتدة في كل مكان توتِّر الأوضاع في ايران وتُخلطها في العراق وتضرب الإخوة في فلسطين بعضهم ببعض، وتشعل الحروب في السودان والصومال