عبد العالي رزاقي غطّت محكمة "الخليفة" على محاكمات أخرى لا تقل عنها تبديدا للمال العام، وستغطي على المحاكمات اللاحقة، وربما على مجريات الاستحقاقات التشريعية القادمة. ويبدو أن المشكلة تكمن في "التشريع الجزائري"، الذي استجاب لضغوط "الإرهاب" و"استغلال النفوذ"، ففي الجزائر توجد إقامات رسمية ل "رجال السلطة" شبيهة بالمعتقلات لا يوجد قانون ينظمها، وهناك تداخل ما بين مفهوم الحبس (الجنحة)، ومفهوم السجن (الجناية). فقد جرد تعديل قانون العقوبات، في عهد أحمد أويحيى، المختلسين والمبددين للمال العام والخاص من عقوبة السجن، إلى عقوبة الحبس، بحيث صارت أقصى عقوبة لتهريب أموال الدولة أو الخزينة العمومية هي 10 سنوات، بالرغم من أن تعديل قانون 1988 كان ينص على أنه عندما يكون الاختلاس أو التبديد أو حجز أو سرقة الأموال من طبيعته إلحاق الضرر بالمصالح العليا للبلاد فقد يطال صاحبه الإعدام. وبمجرد أن أصبح الإعدام لا يمس الذين ينهبون المال العام، وأن أطول مدة وأقصاها هي عقوبة ب 10 سنوات قد لا تكون نافذة، فقد صار الاختلاس »ظاهرة جزائرية«. لقد تم تحويل المواد المتعلقة بتشديد العقوبة على المختلسين والمبددين للمال العام من قانون الجنح إلى قانون الجنايات، بعد أن كان السجن المؤبد لكل من تجاوز اختلاسه ال 300 مليون سنتيم. المؤكد أن أصحاب التشريع في الحزب الواحد، كانوا أكثر حرصا على المال العام من المشرعين في عهد التعددية، والأكثر تأكيدا هو أن الإرهاب جرد الشعب من سلطته أو وجوده في العدالة. فقد كانت المحاكمات الجنائية تضم أربعة قضاة »شعبيين« مقابل ثلاثة قضاة يمثلون الدولة، وصارت اليوم تضم ثلاثة قضاة يمثلون الدولة واثنين يمثلان الشعب، وأعتقد أن اختفاء فكرة الجناية في »مادة الاختلاس« هو الذي شجع على ظهور المختلسين وشبكة الدعم لهم. غياب المشرع الجزائري! قد يقول البعض، وأين هو دور المؤسسات التشريعية مثل البرلمان بغرفتيه؟، فأجيب دون تحفظ »ديكور« لسلطة افتراضية. لو نقوم بعملية (تقويم وتقييم) لعهدة البرلمان بغرفتيه، فسنجد أن رئيس الجمهورية شرع بأوامر أكثر مما قامت بها الجهات المعنية بالأمر. والسبب، في تقديري، أن النواب لم يكونوا في مستوى الثقة التي وضعها فيهم الشعب، فهم مجرد أصوات تصب في ميكرفون هذا المذيع أو ذاك، ممن يقفون وراء سلطة اتخاذ القرار. وخلال الفترة الماضية، لم تشهد الجزائر تيارا سياسيا متميزا سواء في أحزاب السلطة أو أحزاب المعارضة، وما شهدناه هو الانشقاقات والانقسامات وما يسمى ب (التقويميين أو التصحيحيين) في أحزاب عبارة عن بوق للسلطة أو مهمشة أو تريد إثبات وجودها. والسؤال الذي أطرحه اليوم: لماذا يقبل الشعب على الانتخابات وهو يدرك أنه يطيل عمر »الانتهازيين والوصوليين« ويجدد الحياة في الأموات، وتبييض وجوه اسودت من الذل والهوان؟!. لماذا نقبل على انتخابات لا تقدم بدائل عن السلطة أو للسلطة لتأكيد فكرة أو برنامج عمل أو مشروع وطني؟!. والتداول على السلطة لا يكون مقتصرا على »الأرائك والكراسي« وإنما يشمل كذلك الأفكار والبرامج والميول السياسية. وما دام البرنامج السياسي واحدا، والوجوه نفسها في الحزب الواحد أو التعددية، والتجارب لا تتجاوز »مسقط الرأس«، فلماذا نكرر الفشل في انتخابات الفائز فيها يخسر ثقة الشعب فيه!. يخيل لي أن الحزب الذي سيفوز في الانتخابات القادمة هو الذي يدعو إلى المقاطعة، فهل يعود حزب »الدا حسين« إلى عادته القديمة ليفوز ب (الأغلبية الصامتة) التي كان يراهن عليها من جاءوا بالمجاهد محمد بوضياف إلى المرادية، لينقلوه فيما بعد إلى مقبرة العالية، وفشلوا في »الحديث باسمها« يومئذ، لأن السلطة آنذاك كانت تحاور نفسها عبر الأحزاب ومجتمعاتها المدنية، والشخصيات التي كانت تصفها ب »الوطنية«. وأزعم أن داخل جبهة القوى الاشتراكية تجاذب بين أصحاب المشاركة والمقاطعة، فالآباء الروحيون للحزب لا يراهنون على انتخابات يدركون مسبقا نتائجها. وما دامت أحزاب الائتلاف لا تملك »برامج أو مشاريع سياسية« غير التقرب إلى الرئيس، وغلق الأبواب في وجه المعارضة، وما دام هناك المئات من نماذج »عبد المؤمن« سيدخلون التشريعات أو يقفون وراء من يدخلونها، فإن الرهان على »التغيير السياسي« في الساحة الجزائرية يكاد يكون مستبعدا. تسويق ما لا يسوق! يعتقد الكثير بأن اختيار الجزائر »عاصمة للثقافة العربية« قد يسهل المهمة لدى من يريدون تسويق صورة الجزائر لدى الأقطار العربية، وهم يدركون أن المشكلة ليست مرتبطة بتسويق صورة الجزائر، فهي لا تحتاج إلى ذلك، لأن الثورة الجزائرية، برموزها، استطاعت أن تزرعها في الذاكرة العربية عبر الإنتاج الأدبي والفني والسينمائي، ولكن عظمة الثورة الجزائرية عجزت السلطة عن ترسيخها في الذهنية الجزائرية للجيل الصاعد، لأن السلطة ضد الفكر والتفكير فأحمد أويحيى ينصح مناضليه برفض مقولة أن لأمريكا ضغوطا على الجزائر، وأن للتفجيرات الأخيرة علاقة ب »الخليفة«، لأنه يدرك جيدا أن »تسويق الرعب« في الجزائر صار »موضة« رجال السلطة، فالإشاعات المروجة يراد منها تمرير المشاريع ويراد منها تسويق »الوجوه المرشحة« للاستحقاقات القادمة. وأذكر أن الشقيقة تونس حين أرادت »تسويق صورتها« وضعت شعارا عام 1994 يقول »مرحبا ب (البابا) في بلد أوغسطين« لكن الجزائر حين أرادت أن تؤكد للعالم أن أوغسطين مفكر جزائري راحت تسوق المسيحية في الجزائر، وبالرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية حين أرادت تسويق المسيحية في الجزائر وزعت »لوحة فنية« لرسام جزائري كبير ك »بطاقة« داخل الكنائيس، لأنها تحمل صورة العذراء. ولهذا، فإن السلطة مطالبة بأن تفتح المجال الإعلامي، فالأفضل للأفكار أن تكون في البرامج والقنوات الإذاعية والتلفزيونية وعلى صفحات الجرائد على أن تنتقل إلى الجبال. فما أحوجنا إلى نقاش وطني، مثلما كان في عهد الشادلي بن جديد، بين الأحزاب، وبين التيارات السياسية، حتى يمكن تغيير صورة الجزائر التي ارتسمت في الذهن والمرتبطة ب (العنف والفساد). ما الذي يمنع السلطة من النقل المباشر للمحاكمات في السمعي البصري وكشف المستور، وما الذي يجعل أمثال أحمد أويحيى يوهمون الرأي العام بأن هناك خطرا يهدد الجزائر، وهو الإرهاب، بينما هذا الخطر رحل نهائيا من الجزائر بعد الاستفتاء على السلم والمصالحة بالرغم من تمسك البعض ب (عودته) ولو عبر »افتعال التفجيرات والإشاعات«. وحين تسمع »رجل دولة« مثل أحمد أو يحيى يصر على أنه »لا يزال على مبدأ مكافحة الإرهاب مع مد يد الرحمة والمصالحة« أتساءل: لماذا لم يمددها عام 1995 عندما وصف وزير خارجيته أحمد عطاف »العقد الوطني« الداعي إلى المصالحة الوطنية ب »اللا حدث«. المؤكد أن الاستحقاقات القادمة ستكون فرصة للمواطن لاكتشاف واقع السياسيين عندما يجد »رؤوس الدولة« مهرولة إلى عروشها لتنقذها من السقوط، أو تعطيها تأشيرة لتمثيلها في البرلمان، والأكثر تأكيدا هو أن من غابوا عن قبيلتهم »خلال عهدة البرلمان الماضية« سيعودون إليها لاستجداد أصواتها، وهناك تياران داخل أحزاب الائتلاف، أحدهما يدعو إلى العودة ل »مسقط الرأس« وقيادة مرشحي الولاية في الحزب، وهناك تيار آخر يدعو إلى احترام من ترشحهم القواعد، على أن تترشح الرؤوس الكبيرة في العاصمة. ولعل عودة »الحديث« عن الإرهاب، والترويج له وطنيا، إنما يراد منه »فرض القوائم العاصمية« على القواعد، والتصفيات للمناضلين الحقيقيين في الكثير من الأحزاب، لكن السؤال: لفائدة من تحويل تزويرات (1997) إلى »لا أمن« للبقاء في السلطة؟ ولصالح من يتحول »المجتمع المدني« إلى »طبالين« في عرس هذا الحزب أو ذاك؟. أذكر أن الوزير ڤيدوم قام بمجهود لإعادة تنظيم الجمعيات التابعة لوزارته، بحيث بعث ب 14 أستاذا إلى فرنسا ل »التدريب«، وعاد الأساتذة وقاموا بتدريب هذه الجمعيات على مستوى المعاهد الأربعة للوزارة في فيفري ومارس من العام الماضي، وقدمت الجمعيات في 47 ولاية ملفات للدعم وفق المنظور الجديد »دراسة جدوى« و»مشروع« وبرنامج. الملفات تكدست في الوزارة ولم تجد من يدرسها، وولاية العاصمة لم تشارك جمعياتها، لأنها تعلمت منطق »المساندة«. ولأن هناك مئات الملايير تضيع في دعم هذا الحزب أو ذاك، عبر المجتمع المدني، فقد فقد »الحس المدني« وجوده في الجزائر، وصار حسا تجاريا. لأن التداخل بين السياسي والمدني صار »همّ المسؤول« والتداخل بين »الجنائي والجنحوي« صار همّ المشرع، فلا السجن بقي سجنا ولا الحبس بقي حسبا، فالكل يهرول نحو »الفساد« ويسكن في »إقامات المفسدين«.