يشبه في طريقة عيشه فتى الأدغال"ماوكلي"..وقصّته أقرب من قصة "حي بن يقظان"..إنّه إنسان من العصر الحجري يعيش في القرن الواحد و العشرين، لم يستعن بآلة من هذا الزمان، و قصته ليست من نسج الخيال، بل هي حقيقة حيرت العقول. فلقد تناهى إلى عِلم "الشروق" قصّة شخص يسكن في جبل في ظروف تعود إلى العصر الحجري..رجل يسكن في كهف في قمة الجبل. يشرب من الوادي وهو نصف عار،يتغذى على بعض الأعشاب أو ما يصل إليه من الدوار المحاذي للجبل الذي اتّخذ من أحد كهوفه بيتا، "الشروق" كانت أول جريدة تصل إلى هذا الرجل وتكشف حقيقته. انطلقت رحلتنا نحو دائرة ولهاصة بولاية عين تموشنت ثم إلى قرية الهداهدة حيث لم نجِد أيّ عناء في الوصول إلى ذلك الجبل، ذلك، أنه ولمجرّد النطق بكلمة "الرجل الذي يسكن في الجبل"،حتى تسارع الناس لإرشادنا إلى صاحب السيارة الذي يمكن أن يوصلنا إلى "جبل صغير"، بعدما تبين لهم أن القضية تتعلق بعمل صحفي تقوم به "الشروق اليومي". توجهنا إلى القرية المذكورة ثم من هناك إلى الجبل الذي يبعد عنها بحوالي 2 كلم، ورغم صعوبة المسلك ووعورة الطريق، فقد أبى صاحب السيارة إلا أن يرافقنا بنفسه لدى "صْغير".. في الطريق، لم يكن الرجل متكتما، فقد ذكر لنا أن "صْغير" هذا، يعيش في قمة الجبل منذ أكثر من 33 سنة على تلك الصورة التي نعرفها عن الإنسان "الحجري" أو إنسان "نياندرتال"..يعيش عاريا، صيفا وشتاءا متحملا قساوة البرد والثلج والمطر..يشرب الماء مرة في الأسبوع و ذلك عندما ينزل من قمة الجبل إلى الوادي الذي يقع في الأسفل.. السائق، ذكر لنا أن الرجل المقصود، تحول في السنوات الأخيرة إلى قبلة ومزار من طرف الفضوليين وبعض من يؤمنون بأمور الأولياء، وأنه هو نفسه(السائق) قام قبل فترة بزيارة "صْغير"، كما زاره أحد القادمين من تيميمون دله عليه إمام من المنطقة، كما سبقه إلى زيارة شخص آخر من ولاية معسكر. دقائق، وكنا أسفل الجبل الذي يرتفع عن سطح البحر بحوالي 400م على الأقل،و قد وجدنا مشقة كبيرة في تسلقه، حيث استغرق وصولنا إلى القمة حوالي 20 دقيقة، كما أُجبرنا على البحث طويلا عن "الرجل الظاهرة"، في قمة الجبل وسط الأشجار الكثيفة، قبل أن نلمحه جالسا في أحد المنحدرات..لقد وجدنا "صغير"..الكبير..الذي اتضحت لنا بعد فترة هويته: هو "بن يوسف صغير ابن عبد القادر"، من مواليد ..1935.. برز لنا ابن منطقة "الهداهدة" جالسا على منحدر شديد الانحناء، كان نصف عارٍ.. يرتدي معطفا أكل عليه الدهر ولم يشرب.. يقول لنا صاحب السيارة، أنه لبسه مؤخرا كونه لم يعد يقاوم شدة البرد كما كان في القديم، كما سبق وأن نصحنا سكان ولهاصة بأن الرجل يفضل من زائريه أن يحضروا معهم التمر والخبز وألا ينسوا "الياوورت".. و بالفعل.. فقد اقتنينا هذه الأغراض لتسهيل الاتصال "بصغير"..حيث أنه ما إن رأى الكيس، كيس المأكولات.. حتى اختطفه من أيدينا.. أبى في بداية الأمر أن يكلمنا،لكن ما إن تفحص "الهدية، حتى شرع في ثرثرة مشوشة لم نستطع أن نفهم منها سوى كلمة الله.. ورغم محاولاتنا المتكررة التحدث مع "صغير"، قصد معرفة سبب تمسكه بالإقامة في الجبل،إلا أن ذلك، تعذّر علينا لأن الرّجل لم يكن يتمتع بكل قواه العقلية.. حاولنا الاقتراب من مدخل الكهف الذي يأوي إليه ،ففوجئنا بوقوف الرجل وسط الممر الوحيد المؤدي للكهف مانعا إيانا من الاقتراب..رغم كل محاولات التحايل عليه.. لقد لاحظنا أمرا غريبا في قمة الجبل، كيف أن الرجل يجمع قمامته في مفرغة صنعها هو بنفسه كما يلاحظ أنّ يقوم بتنظيف المكان، وعليه لم يطل حديثنا مع صاحب الجبل أكثر من ربع ساعة لنعود أدراجنا نحو مسقط رأسه لمتابعة قصة الرجل ودوافع لجوئه للجبل. بدوار الهداهدة، وجدنا "الشيخ بلحاج الطاهر"، الذي أطلعنا على قصة صاحب الكهف والذي أكد لنا أن "صغير"..قبل أن يكبر.. كان يعمل بأحد مزارع المعمّرين في الخمسينات،وقتها،قرر الزواج،فكان يجمع راتبه الشهري ويسلمه مباشرة لأبيه ليتكفل له بالمهر والعرس، قبل أن يفاجأ يوم اقتراب الوقت بأن والده قد صرف كل ما جمعه "صغير" في صغره لكبره، الشيء الذي أدى إلى إصابة صغير بأزمة، حسب روايات سكان الدوار ،ليختل بعدها عقليا..فهجر البيت العائلي إلى بيت أخته، غير أنه لقي معاملة أقسى من معاملة أبيه من طرف زوج أخته، حيث طرده من البيت بحجة أنه رمى أطفالا كانوا ينعتونه بالمجنون بنعل ابنة أخته ، ما أدّى إلى فقدان النعل البلاستيكي.. في تلك الأيّام، ترجّى سكان المنطقة زوج الأخت ألا يطرد "صغير"، لكنه تمسك بقراره وطرده من البيت، ومن يومها ، ومنذ تلك السنة، سنة1974 كره "صغير" القرية بما رحُبت، وفضل عيش الكهوف في قمة جبل، و هجر معيشة الذل والهوان وسط أهله. لكن الثلاثة والثلاثين سنة على طريقة الإنسان الحجري، حولت هذا الشخص من إنسان طبيعي إلى بشر يتصرف تصرفات الحيوان، إذ وصل به الأمر إلى أن يأكل مرة كل 15 يوما و يشرب مرة في الأسبوع، أما النظافة وقص الشعر وتقليم الأظافر فإنها غير واردة في قاموس الرجل..اللهم إلا بعض مبادرات سكان القرية في بعض الأحيان، حيث يحلقون له شعره و يُقلّمون أظافره، ويحكي أحد الرعاة، أنّ "صغير" كان يأكل قصعة كاملة من الكسكس لوحده ثم يشرب حساء الكسكس من القدر لشدّة جوعه..علمنا بعدها، أن ل "صغير"إخوةٌ رحلوا من المنطقة، وبقيت أخت له مختلة عقليا هي الأخرى.. لا تزال تعيش بدوار الهداهدة. سعيد كسال