محمد الهادي الحسني كان أكثر أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قبل استرجاع الاستقلال يقومون بمهمتين في الوقت نفسه، فهم "معلمون للصغار، وأئمة للكبار"، وكانوا يتقاضون أجورا بسيطة تدفعها لهم الجمعية مما تنتزعه من بعض الأغنياء على قلّتهم، ومما يدفعه أولياء التلاميذ من دُريْهمات قليلة يقتطعونها من قوت عيالهم. ولم تكن تلك الأجور تغطي الضروري من تكاليف الحياة من مأكل، ومسكن، وملبس، فكانت كما وصفها الإمام الإبراهيمي "لاتَبُلَّ من جفاف، ولا تقُوم بكفاف"، وما صبروا على ذلك إلا لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم مجاهدين، ويعدون عملهم جهادا في سبيل الله، كِفَاؤُه الأجر من الخالق لا الأُجرة من المخلوق. وجاء نصر الله بعد سبْعٍ شداد، وعظيم جهاد، وأُخرج الذين كفروا من الجزائر، فعادت إلى أهلها، فأُنشِئت الوزارات، وأقيمت المؤسسات، فالتحق أكثر أعضاء الجمعية بوزارة التربية، وسوّيت وضعياتهم، فاعتُرف بأقدميتهم، وسُلِكَ كل واحد منهم حسب مؤهلاته في سلْك من أسلاك التعليم، فمنهم من عُيِّن في التعليم الثانوي، ومنهم من عيّن في التعليم المتوسط، ومنهم من عيّن في التعليم الابتدائي، وأُدمجوا في الوظيف العمومي، فنالوا ما يضمنه من أجر، وعطل أسبوعية، وسنوية، ومناسباتية، وضمان اجتماعي، ومنح عائلية، فتحسنت أوضاعهم المادية مقارنة بما كانوا عليه من قلة مال، وسوء حال، وانعدام آمال. وما الذين لم يلتحقوا بوزارة التربية فقد التحقوا بوزارة الأوقاف، ليعمروا مساجد الله، وليهدوا عباد الله، ويفقّهوهم في الدين، ولكنهم ظلوا يعيشون معيشة ضنكا، إذ لم يكونوا يتلقون إلا منحة بسيطة لا تداوي أبسط علّة، ولا تسدّ أصغر خَلَّة، ولا يتمتعون بما يتمتع به غيرهم، فلا عطلة سنوية ولا أسبوعية، لأن مهمتهم تفرض وجودهم في المساجد طرفي النهار وزُلفاً من الليل، ولا منحة عائلية، كأن أبناءهم من الأنعام وليسوا من الأنام، ولا ضمان اجتماعي... وقد استمروا على هذه الحالة عدة أحْوَال... رأى أحدُ الذين التحقوا بوزارة الأوقاف أن زملاءه الذين التحقوا بوزارة التربية قد تحسنت أحوالهم المادية، فلانت معيشتُهم، وامتلأت جسومهم، ونضَرَت وجوههم، بينما بقي هو على حاله، لا يشبَع إذا طَعِم، ولا يتداوى إذا سَقِم. وبعدما عيل صبره، ونفدَت حيلته كتب رسالة إلى الشيخ عبد الرحمن شيبان يقول له فيها: "أخرجني من بيت الله لوجه الله". تذكّرت هذه القصة التي رواها لنا الشيخ شيبان عندما قرأت ما صرّح به الأخ أبو عبد الله غلام الله، وزير الشؤون الدينية والأوقاف، وهو أن "أجور الأئمة متدنّية جدا، حيث إنها لاتتجاوز 17 ألف دينار بالنسبة للإمام الأستاذ، كما أنها ليست بعيدة عن الأجر القاعدي بالنسبة للقيّم والمؤذِّن، إلى حدّ صاروا معه أقل الفئات الاجتماعية رتبةً"..جريدة الخبر في 13 / 3 / 2007. إن قيمة الإمام في الإسلام هي الأغلى، وإن مكانته هي الأعلى، ولهذا أُطلِقَ على الحاكم في الدولة الإسلامية لقَبُ الإمام، لأنّه يُفْتَرَضُ فيه أن يؤمّ المسلمين في عاصمة دولته، ويُنيب عنه أئمة في المساجد الأخرى، ولأنه يعتلي منبر أشرف الخلق، الذي جاء بالحق، وما اختار المسلمون الأولون أبا بكر الصديق رضي الله عنه لرئاستهم إلا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفاه لأمامتهم عندما قال في مرضه: "مُرُوا أبابكر فليصل بالناس" وقد استنّ بقية الخلفاء الراشدين ومن صلح من حكام المسلمين بسنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار؛ فكانوا يتولون إمامة المسلمين في العواصم، ويعينون من يقوم بها في مساجد الأمصار. وقد كان أكثر أولئك الأئمة الفقهاء يعيشون معيشة هنية، لأن الدولة كانت تجزل لهم العطاء، ولأن المسلمين كانوا يقفون على المساجد وأئمتها الأوقاف الغنية، حتى قال شاعر: لست تلقى الفقيه إلا غنيّا *** ليت شعري من أين يستغنونا؟ تقطع البرّ والبحر طلاّبُ الرّ*** زق، والقوم هاهنا قاعدونا كان من المفروض أن تُعليَ الدولة الجزائرية التي تزعم أن دينها الإسلام مكانة الإمام، وتُغلي قيمته. ولكن دولتنا لم تعط الإسلام فضلا عن الإمام القيمة التي يستحقها، إذ لولا الإسلام لما جاهد الجزائريون، ولما حرّروا وطنهم، ولما استرجعوا دولتهم، ولولاه لقبلوا ما عرضته عليهم فرنسا من إدماج يسمح لهم بتحسين أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، في مقابل التخلي عن الإسلام. لقد تجسّد إهمال الدولة الجزائرية للإسلام في احتقار مكانة الإمام، وإرخاص قيمته، حتى صار كما قال الأخ وزير الشؤون الدينية "أقل الفئات الاجتماعية رتبة". والأكثر ألما في القلب وضيقا في الصدر أنه في الوقت الذي كان أئمة الجزائر الأخيار وكثير من مجاهديها الأحرار، ونساء شهدائها الأبرار، يعانون شظف العيش؛ كان أعداء الإسلام فيها يعزّون، ويُلقَّون نضْرَةً وسرورا، فقد ذكر الرئيس هواري بومدين أن شيوعيا يونانيا يدعى رابيتيس كان مستشارا في الرئاسة "كان يتقاضى مرتبا شهريا من أموال الفلاح الجزائري قدره مليون فرنك"(1)، كأن هذا الشيوعي هو الذي حرّر الجزائر. إن الحقيقة المؤلمة هي أن أكثر الجزائريين مقصرون هم أيضا في حق أئمّتهم، فلا يكرمونهم، وإن أكرَمُوهم مَنّوا عليهم، وهذا التقصير المزدوج من الدولة ومن الشعب هو الذي ألجأ بعض الأئمة إلى ممارسة أنشطة أخرى كالتجارة والرقية تحصيلا لبعض المال، لكي يتمكنوا من تلبية الحاجات الضرورية لعائلاتهم، ولعلهم معذورون في ذلك، وأضرب مثلين واقعيين على تقصير الشعب في حق الأئمة. فأما المثلُ الأول فيتعلق بأستاذ فاضل، تطوع مجانا لإمامة الناس في صلاة الجمعة والعيدين، ويقطع مسافة خمسين كيلومترا بين مسكنه والمسجد الذي يؤمّ الناس فيه، وكثير من رواد هذا المسجد من الأثرياء، ولكن لم يتحرك واحد منهم فيتعهد بنقل الإمام الذي يأتي إلى المسجد بوسيلته الخاصة. وقد اضطر مرة للذهاب الى المسجد في الحافلة، وربما جلست إلى جانبه كاسية عارية، وربما كان السائق من هواة "الرّاي" فأسمعَ الإمام ما ينقض الوضوء من تلك الأغاني الماجنة. ولْنَتصوّر أن سيارة هذا الإمام أصابها عطب في بعض الطريق؛ فكيف تكون حاله وهو ينكبّ بعباءته وعمامته على المحرك بحثا عن سبب العطب ومكانه؟ لقد نُبِّه المصلّون في هذا المسجد إلى ضرورة تقدير إمامهم، والتنسيق بينهم للتناوب على نقله، ولكن لاحياة لمن تنادي. وأما المثل الثاني، وقد قصّه علينا الأستاذ الفاضل مبروك زيد الخير، فمفادُه أن أحد الأثرياء دعا إماماً لإجراء عقد زواج أحد أبنائه، فلما انتهى الإمام من إجراء العقد دسّ ذلك الثري ورقة نقدية في يد الإمام، ثم أخرج حزمة من المال وسلّمها إلى أحد أقاربه قائلا له: "اعطها للزّغراتات". فلما آن وقت الانصراف سأل الإمام الظريفُ ذلك الثريَّ إن كان مايزال له أبناء غير متزوجين، فأجاب: نعم. فقال له الإمام ساخرا: "في المرة القادمة أنا نْزَغْرَتْ والزّغراتات يَعَقْدُو"... لو أن الدولةَ والنّاسَ أكرموا الأئمة، ووسّعوا عليهم لما فكر هؤلاء في إنشاء نقابة "سانديكا" للدفاع عن حقوقهم، ولما فكّر بعض الأئمة في الترشح للانتخابات، أمَلاً في الجلوس على كرسي فضّلوه على منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك الكرسي ضمن لهم مرتبا كبيرا، وسيارة فارهة، وقرضا بدون فائدة، وتقاعدا مريحا، ولسان حالهم يردد: "من مات على شبعة مات مرحوم".... الهوامش - أحوال، جمع حَوْل، وهو العام. 1- لطفي الخولي، عن الثورة، في الثورة، وبالثورة. حوار مع بومدين، ص 106. والحوار أجري مع الرئيس بومدين في سنة 1965.