كانت الساعة تشير إلى الثالثة إلا ربع عندما أعلن عن نزول طائرة الخطوط الجوية الجزائرية القادمة من مدينة تولوز على مدرج مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة.. بقيت لأكثر من ساعة ونصف وأنا أترقب نزول السيدة التي أثارت فضول عشرات الملايين في العالم، لعلاقتها بما سمي بقضية محمد مراح، أو ما يطلق عليه الجهاديون السلفيون ب"يوسف الفرنسي" التي لا تزال تثير ردود فعل صاخبة إلى اليوم.. إنها السيدة زوليخة والدة محمد.. بين لحظة وأخرى كنت أترقب رؤية هذه السيدة، وبعد لحظات خرج أفراد العائلة الذين كانوا يرافقونها من فرنسا إلى الجزائر وحدهم دون السيدة زوليخة، بدأت أتساءل مع مرافقي عن سر عدم خروجها، ليقول لي لقد خرجت قبلهم وحدها حتى لا تثير أي جلبة وسط المطار أو فضول الناس والصحفيين على وجه الخصوص . تقدمنا إلى عتبة باب المطار، وأنا أجول ببصري وسطه لعلي ألمح والدة محمد مراح، فإذا بسيدة منكسرة الخاطر كانت تتقدم أفراد العائلة وبصوت منخفض، أخبروها أنني صحفي جزائري ينتسب إلى جريدة الشروق التي تعرفها جيدا من خلال الإهتمام المبكر بالقضية، وبهذه السيدة التي حيّر سكوتها العالم بعد مقتل ابنها على يد القوات الفرنسية بسبب الإشتباه بكونه المتورط في قتل الجنود الفرنسيين الثلاثة، واليهود الأربعة أمام المدرسة بجنوب غرب فرنسا شهر مارس الفارط. بخطى كئيبة كانت تسيرالسيدة زوليخة عزيري، وكنت أرقبها وأنا بجانب عائلتها وجميعهم مكسوري الخاطر، وكلي حماسة لمعرفة ماذا يجول في خاطرها ومحاورتها لتروي للعام مأساتها كأم بعد فاجعة فقدانها لإبن والآخر يتواجد وراء أسوار السجن. حاولت أن أتجاذب أطراف الحديث معها عن وضعهم الحالي، وأردت أن أخفف عنهم مصابهم مع مرافقيها على طول المسافة التي قضيناها في الطريق الرابط بين الجزائر العاصمة مرورا بالبليدة والأربعاء وتابلاط، لنصل إلى المدينة الهادئة ببني سليمان التي كانت تنتظر استقبال أم مجروحة بأتم معنى الكلمة. وصلنا في حدود الساعة السادسة والنصف إلى بني سليمان، وما إن توقفت بنا السيارة وسط أحد الشوارع التي تتواجد فيها جدة محمد، حتى التقينا بالمقربين من العائلة التي كانت تتكتم عن خبر قدوم أم محمد مراح لتجنب الضجيج ولمراعاة راحة الوالدة ومرافقيها من العائلة.
بدأت الدموع تنسكب من عيني أم محمد السيدة زوليخة، لما وقفت وجها لوجه مع أمها التي ناهزت الثمانين من العمر، تقول الجدة "إحترق قلبي عليك يا بنيتي وعلى محمد وعبد القادر، أيصل بنا الحال وأنا في شيبتي هذه لا حول ولا قوة إلا بالله، لكننا لا نقول إلا ما يرضي الرب فالحمد لله أولا وآخرا.. حسبي الله ونعم الوكيل" بقيت طيلة الليل ضيفا في بيت العائلة رفقة أشقاء الخالة زوليخة والدة محمد نتجاذب أطراف الحديث ونخوض فيما يهم المجتمع الجزائري، كنت ألمس من حديثهم البساطة والتواضع والصدق في التعامل مع الغير، تجرأت بعدها لأسأل خال محمد مراح، السيد جمل عزيري، أو كما يعرفه أهل بلدته ومقربو العائلة ب"رزقي" هل حقيقة محمد مراح يستطيع أن يقوم بما نسب اليه، ليجيب مباشرة "لا أصدق أن محمد الوديع الذي يحبه البعيد قبل القريب يستطيع أن يؤذي الغير، فهو كان يحب الأطفال كثيرا، كما أنه كان يغار على حرمات المسلمين ولم يدخل أبدا الحانات أو الملاهي الليلية، كما تم ترويجه عنه، فهو كان متدينا ويحافظ على صلواته الخمس ويكثر من صيام التطوع والنوافل". في صبيحة الجمعة، برمج لي أفراد العائلة اللقاء المصور مع والدة محمد مراح، مصرين على أن تكون أول إطلالة إعلامية عبر الشروق كجريدة وقناة بحسبهم، لما تتمتع به من مصداقية وانتشار ولأن صوتهم سيصل بكل أمانة إلى الرأي العام الدولي الذي يرتقب أي كلمة تصدر عن عائلة محمد مراح، وكانت السيدة زوليخة متحفظة جدا من الكاميرا التي تقول عنها أنها قد تسبب لها ولأفراد عائلتها الكثير من المشاكل في فرنسا، لكن حرص الشروق على الأمانة دفعت العائلة بأكملها إلى الإقدام على مخاطبة الرأي العام عبرها.. جلس خال محمد مراح السيد جمال، بالقرب من شقيقته التي كانت منقبة وترفض أن تبدو ملامح وجهها لتجنب عائلتها أي مشاكل قد تحدث مستقبلا، فكان هذا الحوار التالي: الشروق: ما سبب قدوم السيدة زوليخة إلى جزائر؟ جمال شقيق السيدة زوليخة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أخي ياسين، حقيقة ذهبنا أمس إلى مطار هواري بومدين الدولي بالجزائر العاصمة، واستقبلنا زوليخة كأي عائلة تستقبل ابنتها، والسلطات ساعدتنا على تسهيل استقبالها وإتمام إجراءات السفر مشكورين، ولكن لحظة اللقاء لا تتصورها.. بكاء.. وحزن شديد، واليوم هي بين أهلها وعائلتها في أرض الوطن، وهي مفجوعة في فلذة كبدها ولذلك تراها باللباس الأسود للدلالة على حزنها، ونحن نعذرها كما أننا نحاول قدر المستطاع إن شاء الله مساعدتها للعودة إلى الحياة الطبيعية.
الشروق: الخالة زوليخة مرحبا بك في بلدك الجزائر، وأنا أعتذر عن النبش في جراحك، لكن كيف تلقيت خبر وفات إبنك محمد؟ السيدة زوليخة: بسم الله الرحمان الرحيم وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إجابة على سؤالك أخي ياسين، لما سمعت بخبر وفاة ابني محمد تفاجأت ولم أصدقه في بداية الأمر، إبني محمد كان يعيش حياة عادية، ويحبني وأحبه ويزورني وأزوره كل أسبوع، كما كان يأتي إلي وأذهب إلى بيته لأرتب له أغراضه في منزله وأغسل له ثيابه وتضيف بالفرنسية ابني كان يعيش حياة عادية، وهو يحبني ويحب أفراد عائلته وكان شغوفا بأكل الطبيخ الذي أحضره بيدي، كما كان يحب المبيت في منزلي وفي حضني، وأنا أيضا كنت أبادله نفس الحنين والعواطف فأذهب إلى منزله وأغسل له ثيابه وأنظفها، وعندما يتأخر في زيارتي أذهب إليه لأرى ما الأمر، وكنت من حين إلى آخر أجده مريضا فأقوم بترتيب لوازم البيت وبكلمة واحدة، كنت واقفة إلى جانب ابني رحمه الله وكان عزيزا على قلبي، وخبر مقتله أصابني بالحسرة الكبيرة جدا، لما مات أحسست أن الدنيا تخنقني وأحسست أن السماء سقطت وأطبقت على الأرض تجهش بالبكاء أحسست أن حياتي انتهت والمصيبة الكبيرة أنها جاءتني في ولدين أحدهما مات والآخر في السجن، وأنا أدعو المولى تعالى أن يكون ابني عبد القادر أمامي في أقرب وقت خارج السجن ليقف مع عائلته في مواجهة مصاعب الحياة وينجب أولاده الذين إنتظرتهم كثيرا، ولم أتصور إطلاقا ما حدث لعائلتي من تشتت وضياع بين المقابر وزنازين السجن، وأنا لحد اليوم لم أؤمن ولم أصدق أن يصدر أو يقع هذا الشيء من ولدي، فأنا من ربيتهم طيلة 32 سنة، ولم يصدر منهم أي شيء قد يؤدي بالضرر إلى الغير.
الشروق: الخالة زوليخة، يمكن ان يتبادر سؤال إلى أذهان الناس عن الوضعية المعيشية لك رفقة أولادك في فرنسا مدة أكثر من 20 سنة؟ السيدة زوليخة: نعم عشنا أكثر من 20 سنة حوالي 32 سنة في رحمة من الله وفضل والحمد لله، ربيت أولادي أحسن تربية وأعطينهم حناني وعطفي وأعطيتهم حبي، ولم نحتج أي شيء واليوم أصابتنا هذه المصيبة.
الشروق: كيف كان شعورك عند دخولك إلى أرض الوطن واستقبال محبي العائلة لك في الجزائر؟ السيدة زوليخة: دخلنا البارحة الموافق ليوم 5 أفريل أرض الوطن عبر طائرة إلى مطار هواري بومدين، ونشكر الناس الذين ساعدونا، اين استقبلونا بعطف وحنان وأحسوا بأني مجروحة في فلذة كبدي بل بكوا معي مصابي الذي ألم بي، وأنا بدوري أحسست حينها أنني وسط إخوني وأحبائي، فأنت لا تتصور الأمر الذي أحسست به خلال هذه المصيبة، فكما أني مجروحة هناك أمهات أيضا مجروحات في قلوبهم. والحمد له تعالى التقيت بأفراد عائلتي ورأيت أمي التي كان قلبها معلقا بي لرؤيتي وأولادي طيلة المصيبة، وجدتها في حرقة ولكن الحمد لله فله ما أعطى وله ما أخذ، واليوم محمد مات يرحمه الله برحمته وأنا اليوم مشتاقة لرؤية عبد القادر بجانبي وسط عائلته ويربي أولاده حتى يؤنسني في محنتي ومصيبتي، ليخلف مكان محمد الذي ذهب دون رجعة فانا لم أحس مثل بقية الأمهات اللواتي فقدن أولادهن فهن أيضا تحترق أكبادهن على أولادهن مثلي وأنا أعذر الأم الحنون في كل الدنيا التي تفقد أولادها وأنا أحسست لما مات ولدي وآخر سجن أن فلذة الكبد كبيرة جدا ومكانتها كبيرة وأسأل الله أن يطفئ هذه الجمرة والنار التي في قلبي، في أي زمان ومكان وربي يصبر كل أم فقدت ابنها والحمد لله أولا وأخرا فالألم كبير والمصيبة عظيمة التي سقطت علي.
الشروق: ماذا أحسست؟ السيدة زوليخة: أحسست أن السماء سقطت على الأرض وأطبقت علي، فمحمد أحبه كثيرا وهو عزيز علي كما أني أحب كل أولادي مثل بعضهم البعض واليوم اطلب له الرحمة من الله ولا اله إلا الله محمد رسول الله... وانأ اليوم لما دخلت الجزائر أحسست أن ألمي بدأ ينقص نوعا ما لأني وجدت صدر أمي الحنون ووجدت اشخاصا يشعرون ويحسون بي والحمد لله ونحن لا نقول إلا إنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الشروق: الخالة زوليخة، بعد وفاة ابنك محمد وتوقيف ابنك عبد القادر ماهي الرسالة التي توجهينها للسلطات الفرنسية؟ السيدة زوليخة: الرسالة التي أوجهها للسلطات الفرنسية هي أنني أم ضعيفة لا حول ولا قوة لها وليس عندها احد إلا الله، ثم بقيت وحدي، كنا عائلة واحدة وتشتتنا، واحد مات رحمة الله عليه والآخر في السجن، وأتمنى اليوم أن يكون معي، حزني الكبير اليوم هو على عبد القادر. فانا مريضة بأمراض كثيرة ولا أستطيع النوم من كثرة التفكير وشدة الضرر فعبد القادر كان معي وهو ولدي يحبني كثيرا وقلبي احترق لاجله فعيناي لا تتوقفان عن البكاء والدمع وأنا افكر فيه كثيرا واري دان يرافقني فيما تبقى من عمري وهو مسكين وبريء يحب الحق والعدل ويعمل بصورة قانونية وله عائلة يهتم بها وعنده أصدقاء ويريد أن يبني مستقبله وانا اطلب ان يكون ولدي عبد القادر معي ليؤنسني في الحياة وانا اقول للنساء المحرومات في فلذات أكبادهن انا أيضا ام محرومة ومجروحة في فلذة كبدها واتمنى ان يحسسن بجرح الأم، كيف لا فقد وقد فقدت اثنين وليس واحدا فقلبي مجروح..
الشروق: الخالة زوليخة بعد وفاة محمد والقبض على عبد القادر قال والد أبنائك السابق محمد بن علال انه سيقاضي الامن الفرنسي فكيف تنظرين الى هذا الامر؟ السيدة زوليخة: انا انظر الى هذا الامر اني انا التي ربيت ابنائي وانا التي تعبت عليهم وانا التي كبّرتهم ولعبت دور الام والاخ، واليوم كل واحد يتحمل مسؤوليته مع نفسه ومع الله سبحانه. السيدة زليخة رفقة والدتها لحظة وصولها إلى بيت العائلة بالمدية