وصل الاحتقان بين الجبهة الاجتماعية والحكومة من جهة، والحكومة من جهة أخرى مداه. فالتهديدات التي وجهتها وزارة العمل في وقت سابق، للنقابات المستقلة بتفعيل سلطة القانون في محاولة لتخويف النقابات، كما فهمها ناشطون، يبدو أنها لم تحقق أهدافها، بدليل تجسيد النقابات المحتجة لتهديدهم بالعودة إلى الإضراب، كحال نقابات التربية، وعدم تراجع الأطباء المقيمين عن الإضراب، فضلا عن التحاق نقابات البريد والتكوين المهني بركب المضربين.. كل هذه المعطيات تؤكد أن الجبهة الاجتماعية ستكون مشتعلة خلال الأيام المقبلة.. فلمن تكون الغلبة يا ترى؟ وماذا يمكن أن يضيفه دخول وزارة العمل على خط الجبهة؟ وما أثر هذا الاحتقان على تنظيم النشاط النقابي لاحقا؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عليها. تهديدات وزارة العمل لم تنه الأزمة ماذا بقي للحكومة من مخارج؟ فاقم تهديد وزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي، بتفعيل سيف القانون المتعلق بالنشاط النقابي، الوضع على مستوى الجبهة الاجتماعية وزادها اشتعالا، بركوب محتجين في قطاعات جديدة، سكة الإضرابات والاحتجاجات بداية من الأمس. فقد دخل قطاعان جديدان مسرح الاحتجاجات، ويتعلق الأمر بقطاع البريد وتكنولوجيات الإعلام والاتصال، وكذا قطاع التكوين والتعليم المهنيين، اللذان التحقا بكل من قطاعي التربية والصحة، مضيفين بذلك متاعب جديدة إلى حكومة أحمد أويحيى، التي يبدو أنها استنفدت كل الحلول في مواجهة الجبهة الاجتماعية. وكانت وزارة العمل قد استبقت إضرابات الأمس بمراسلة، وجهتها إلى قيادات النقابات تلزمهم فيها تدوين بيانات عن المنخرطين، كما طالبتهم بإثبات نسبة تمثيلهم التي يجب ألا تقل عن 20 بالمائة على المستوى الوطني، مقابل اعتراف الوزارة بنشاطهم النقابي، ومن ثم الجلوس إلى طاولة الحوار معهم مستقبلا. وعلى الرغم من أن عمر النشاط النقابي المستقل عن الاتحاد العام للعمال الجزائريين، الذي يعتبر بمثابة الذراع الاجتماعي للسلطة منذ الاستقلال، يمتد إلى ما يقارب ثلاثة عقود، إلا أن دخول الحكومة على خط تنظيمه تأخر إلى غاية العام الجاري، وهو ما أعطى الانطباع للمتابعين والنقابيين، على وجه التحديد، بأن هذه "الاستفاقة" حركتها خلفيات ظرفية، لها علاقة بالاحتقان الحاصل في بعض القطاعات الوزارية. ولعل ما يؤشر على هذه القراءة، هو الرد الذي واجه به رموز الجبهة الاجتماعية قرارات مراد زمالي، حيث اعتبروا مراسلة زمالي الأخيرة، محاولة للضغط عليهم ووضع عراقيل أمام ممارسة حقهم في الإضراب، ومحاولة للجم اندفاعهم نحو الإضراب، لا سيما بعد أن استعصى على الجميع وقف إضراب الأطباء المقيمين، الذي بات أطول إضراب في تاريخ الجزائر المستقلة، فيما لا يزال أفق توقفه غير معلوم، وهو ما ينذر بحدوث الأسوإ. وتحصي الجبهة الاجتماعية ما يعادل 102 هيئة نقابية، منها 65 نقابة تمثل الفئة الشغيلة، مقابل 36 نقابة تمثل أرباب العمل، غير أن أكثر النقابات نشاطا وتأثيرا في الوسط العمالي، هي تلك التي تنشط في قطاعي التربية، قبل أن تلتحق بها من حيث مستوى التأثير، النقابات الناشطة في قطاع الصحة. ولم يكن قرار وزارة العمل سوى نتيجة حتمية لفشل الخطوة الأولى التي تمثلت، كما هو معلوم، في محاولة التوفيق بين وزيرة التربية نورية بن غبريط، ونقابات التربية وعلى رأسها نقابة "الكناباست"، غير أن تلك الوساطة لم تحقق أهدافها المرجوة، مثلما فشلت وساطة رئاسة المجلس الشعبي الوطني بين وزارة الصحة والأطباء المقيمين، التي وئدت في مهدها بتصريحات الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، جمال ولد عباس، الذي بدا وكأن تلك الوساطة لم تقع من نفسه موقعا حسنا! عودة نقابات التربية إلى الإضراب، واستمرار الأطباء المقيمين في احتجاجهم، والتحاق قطاعي التكوين المهني والتمهين وكذا البريد بركب الغاضبين، يؤكد أن الصراع وصل مرحلة كسر العظم بين الجبهة الاجتماعية من جهة، والقطاعات الوزارية الأربعة ومن ورائها الحكومة، من جهة أخرى، وذلك بالرغم من التطمينات التي قدمتها رئاسة الجمهورية في وقت سابق لإعادة الهدوء. ومن شأن توسع رقعة القطاعات التي مسها الإضراب، أن يعقد من مهمة الحكومة في الحد من اندفاع الجبهة الاجتماعية نحو الإضراب، كما أن هذا المعطى من شأنه أيضا أن يشجع نقابات القطاعات الأخرى المترددة في الالتحاق بالركب، وهو ما يحتم البحث عن حلول "غير تقليدية"، لأن الحلول التي تم الدفع بها في وقت سابق، ثبت أنها لم تكن ذات جدوى. الأمين العام لمجلس أساتذة الثانويات الجزائرية عاشور إيدير: وزارة العمل ليست وصية علينا والتهديد يزيدنا إصرارا استبقت وزارة العمل عودة نقابات التربية إلى الإضراب، بالتهديد بسحب الاعتماد من بعض الهيئات النقابية.. كيف تقرؤون هذا التهديد؟ أولا، ينبغي التأكيد على أن سياسة الحكومة تجاه النقابات العمالية أو الحركات الاجتماعية في الجزائر معروفة منذ زمن طويل، وهي لم تتغير، وأهم ما يميزها هو التهديد والوعيد، وأعتقد أن هذا الأمر ليس بجديد على النقابات.. والمؤسف أنه بدل أن تقرأ الحكومة الحركات الاجتماعية والعمالية قراءة إيجابية وتعتبرها ذات مغزى وفائدة للمجتمع، على اعتبار أنه من أهم أهداف النقابات العمالية التحسيس بأهمية الحقوق الاجتماعية والنقابية للعامل والمُوظّف، تجد الحكومة تهددها وتتوعَّدها وتغلق في وجهها أبواب الحوار، وتعدّ لها العدة لقمعها حتى قبل انطلاق حراكها، وهو ما يجعل الأمور تنفلت وتتأزم دائما، وتصل إلى أبواب مسدودة مع مرور الوقت. هل من شأن تهديد وزارة العمل أن يلجم النقابات عن المضي في قرارها نحو استئناف الإضراب؟ لا أظن، بل وأعتقد حصول عملية عكسية، لأن استخدام الأسلوب التهديدي والقمعي ضد النقابات، قد ينجرُّ عنه حالة عكسية وغير منتظرة. وأنا كمناضل نقابي أرى أن هذا النوع من التهديدات يُوحد النقابات في تفكيرها ومطالبها، ويجعلها تتضامن وتتّحد أكثر من ذي قبل، كما أن التهديد يجعل النقابات تكسب تأييدا وتجنيدا أكثر من الطبقة الشغيلة للمطالبة بحقوقها المشروعة، وبالتالي فالتهديد سيدفع النقابات والحِراكات الاجتماعية نحو الأمام أكثر، ويعطيها عزيمة قوية للتمسك بمطالبها وعدم التنازل، بل وحتى رفع سقف المطالب أحيانا. هل أصبحت وزارة العمل طرفا في أزمة الإضرابات بعدما كانت وسيطا، مثلما كان الشأن في وقت سابق؟ طبعا، هذا ما أصبحنا نشاهده على الميدان، وهو ما يجعلنا نؤكد أن وزارة العمل تلعب في ميدان ليس بميدانها، لأنه وكما يعلم الجميع دور وزارة العمل الحقيقي والمتعارف عليه، هو مُساعدة كل النقابات التي تقدم لها سجلها أو اعتمادها، في حين تمنحها الوزارة الاعتماد وتقدم لها الإمكانات اللازمة المالية وتؤمن لها المقرات. لكن ليس من صلاحيات وزارة العمل، ومن غير المعقول وكما ليس لها الحق في أن تتدخل في تمثيليات النقابات، لأنها ليست بوصية عليها، فكل نقابة لديها وصيها الذي يكون صاحب القطاع أو رب العمل، فمثلا وزارة التربية هي الوصية عن نقابات التربية، وقطاع الصحة له نقاباته إلى غير ذلك. أما وزارة العمل فبعيدة تماما عن الوصاية على حراك النقابات. من بين المؤاخذات التي تم الوقوف عليها، هو أن قانون العمل المعمول به ينام على ثغرات، من بينها أنه لم يمنع الإضراب المفتوح.. ما جدية هذا الكلام؟ في كل دول العالم، الإضراب في تعريفه لا يمكن أن يكون محددا بفترة زمنية معينة بل يكون مفتوحا، وتتراوح مدة الإضراب المفتوح من ساعة إلى سنة، وتلجأ إليه النقابات عندما يفشل أسلوب التفاوض والحوار. فالنقابات أو العمال يلجؤون إلى استعمال ميزان القوة لفرض مطالبهم، ولا يوجد من حل أمامهم سوى اللجوء إلى خيار الإضراب. أما الإضراب المحدد بفترة زمنية فذلك نسميه احتجاجا، أو حركة احتجاجية. كيف تتوقعون أفق الصراع بين الحكومة والنقابات في ظل بروز مطالب جديدة، مثل تلك المتعلقة بالتقاعد النسبي والتقاعد من دون شرط السن؟ مطالب التقاعد المسبق والتقاعد دون شرط السّن ليست بجديدة، لكن الجديد فيها هو إنشاء التكتل النقابي الذي يتمسك بتطبيقها ويدافع عنها وهذا من حقه. وأؤكد هنا نيابة عن نقابات التكتل التي أنتمي إليها، أننا مُصرون على الحصول عليها ولن نتراجع مهما كان، وإذا لم نتمكن من تحقيقها هذه السنة، فسنحققها في الدخول الاجتماعي المقبل، أو خلال السنة المقبلة. المهم أننا صامدون ومصرون على تحقيق مطالبنا، ومن بينها أيضا تحسين القدرة الشرائية للموظف وملف الحريات النقابية. الناشط الحقوقي بوجمعة غشير ل "الشروق": النقابات غرقت في الجانب المطلبي وتناست مصلحة المجتمع ما قراءتكم لما يحصل بين وزارة العمل والنقابات المستقلة هذه الأيام؟ أعتقد أن وزارة العمل تداركت التقاعس الذي قامت به من قبل، في تعاملها مع النقابات، لأن مثل هذه الأمور تتطلب متابعة جدية منذ إنشاء النقابة وإلى غاية منح الاعتماد وحتى بعدها، والقانون واضح هنا إذ يشترط 20 بالمائة من التمثيل النقابي لكل نقابة معتمدة، حتى تدعو إلى الحوار مع الهيئة المعنية والإشعار بالإضراب، وبالتالي كان على وزارة العمل مراقبة النقابات عن كثب ولا تنتظر شلل القطاعات حتى تتحرك، وبالتالي فمسعى وزارة العمل كان قانونيا لكن استيقاظها بعد موجة الإضرابات أعطى الانطباع بأنها تقوم بتصفية حسابات وتمارس التضييق على العمل النقابي. هل أصبحت وزارة العمل طرفا في أزمة الإضرابات بعدما كانت وسيطا، مثلما كان الشأن في وقت سابق؟ الوزارة تتعامل وفقا للقانون مع النقابات وتحوز حق المتابعة القضائية ضد أي نقابة لم تستطع إثبات تمثيل 20 بالمائة، في حين إن النقابات تعتقد أن حصولها على الاعتماد كفيل بشنها الإضراب والتحاور مع الجهة الوصية، لكن هذا الأمر خطأ لأن الممارسة النقابية معيارها التمثيل العمالي. لا شك في أن تدخل وزارة العمل في هذا الظرف يجعلها طرفا في الأزمة.. وأعتقد أن التوقيت كان غير مناسب بالنسبة إلى وزارة العمل التي طالبت النقابات بإثبات تمثيلها بعد حالة الاحتقان والإضرابات التي شنتها في عدة قطاعات، وهو ما صور وزارة العمل وكأنها ضد النقابات وتنتقم منها. وهناك حقيقة لا يجب إغفالها أن بعض النقابات تعاني حالة من التشرذم وغير متفقة في ما بينها، خصوصا في قطاع التربية الذي نجد فيه عدة نقابات تدافع كل واحدة منها عن مطالب الفئة التي تمثلها، وهو ما يؤدي إلى إضعافها، وأعتقد أنها أمام فرصة لمراجعة أهدافها وسياساتها والتوحد في ما بينها. من بين المؤاخذات التي تم الوقوف عليها، أن قانون العمل المعمول به ينام على ثغرات من بينها أنه لم يمنع الإضراب المفتوح.. ما جدية هذا الكلام؟ قانون العمل الحالي جيد.. ليس مائة بالمائة لكن أعتقد أن المراجعات التي ستطرأ على النسخة الموجودة على طاولة الحكومة ستأخذ بعين الاعتبار النقائص وكل هذه التجارب التي نتحدث عنها اليوم، ربما سنشهد تضييقا على النقابات ولا أعتقد أن النقابات ستكون ذكية إذا ما ربطت التعديلات التي سيشهدها قانون العمل الجديد بحالة الاحتقان التي تعيشها اليوم مع الحكومة، لأن تشديد بعض المواد في النسخة الجديدة سيكون انطلاقا من التجارب السابقة. هل نفهم من كلامك أن الحكومة ستضيق الخناق على العمل النقابي؟ كل عمل نقابي يندرج في إطار الممارسة الديمقراطية، لكن يجب أن تصاحبه ثقافة ديمقراطية لخلق التوازن بين مصلحة الفئة التي تمثلها النقابة ومصلحة المجتمع في خدمة عمومية، والدخول في إضراب مفتوح وشل عدة قطاعات عمل غير ديمقراطي. كيف تتوقعون أفق الصراع بين الحكومة والنقابات في ظل بروز مطالب جديدة، مثل تلك المتعلقة بالتقاعد النسبي والتقاعد من دون شرط السن؟ هذا أيضا مطلب غير معقول، الجزائر من الدول القليلة التي تبنت التقاعد من دون شرط السن، لكن بسبب الأزمة الاقتصادية ونصيحة بعض الهيئات الدولية، أعتقد أنه حان الوقت لترقية العمل كقيمة اجتماعية وليس المطالبة بتحطيم المجتمع عن طريق الدعوة إلى العودة إلى التقاعد النسبي، فهذا غير مقبول وتكريس لثقافة شعبية يراد منها تحطيم المجتمع لأننا رأينا التداعيات السلبية للتقاعد النسبي سابقا وتكرارها في المستقبل انتحار. هل يمكن القول إن الممارسة النقابية في الجزائر لم تصل مرحلة النضج؟ بالتأكيد، فالنقابات غرقت في الجانب المطلبي الخاص ولم تراع متطلبات المجتمع وحلقة التوازن التي ترتكز على المصالحة الخاصة والعامة في نفس الوقت. فمثلا ليس لها الحق في الدخول في إضراب مفتوح وشل عدة قطاعات لأن ذلك يعتبر أنانية من طرفها.