حيثما نزلت، وأينما دخلت أو توجّهت، في المحلات، المقاهي، العمل والإدارات، في الشارع والبيوت، الجميع هذه الأيام، رجال ونساء، مثقفون وأميون، موظفون وبطالون، تجار وفلاحون، طلبة وتلاميذ، أساتذة وأطباء، حتى الكثير من الأطفال، لا يتكلمون إلا سياسة، في رسالة اجتماعية إلى السياسيين في الحكومة والمعارضة والأحزاب والبرلمان والجمعيات والمنظمات الجماهيرية: ليسوا أنتم فقط من تعرفون السياسة وتتكلمون فيها وعنها! وبين التحليل، والتهويل، والتهوين والتقليل، ونشر الغسيل و"التبهديل"، وبين تأويلات وتحليلات و"معلومات" واستنتاجات وتوقعات، الجميع يدلوا بدلوه، ولا يكاد أحد يستمع إلى الآخر، في كلّ المواقع والأماكن، فلا أحد "يفهم سياسة" أكثر من الآخر، فلهؤلاء وأولئك نفس المعطيات والمؤشرات، ولكل طرف "مصادره" المطلعة والمأذونة والرسمية والمتطابقة والمؤكدة التي لا يرقى إليها الشك، وبالتالي لا داعي لهذا أن يُزايد أو يفخر على ذاك! كاذب هو من يعتقد أن الشارع لم يتعلّم فنون السياسة، وأن فن الممكن والكذب، مازال حكرا على الصالونات السياسية ودوائر صناعة القرار والقوانين، فالمجتمع أصبح سياسيا بطبعه وبالفطرة، بعد ما حفظ الدروس من برامج وكتب ومؤلفات "التصحيح الثوري" بعد الاستقلال، وأحداث 5 أكتوبر 88، وسنوات المأساة الوطنية، وما سمّي باحتجاجات السكر والزيت! الآن، على السياسيين، في كل حزب وفي أيّ منصب مسؤولية، أن يُدركوا بأن المواطن أصبح هو الآخر سياسيا وصحفيا وإعلاميا ومحلّلا ومعلّقا ومصوّرا ومسوّقا للأحداث وموجّها لها، ولعلّ ظهور وسائط التواصل الاجتماعي، و"الفايسبوك" واليوتوب، أثبت أن هذه الأدوات التكنولوجية هي أكبر حزب، لا يُمكن أبدا مواجهته أو هزيمته أو الاستعلاء عليه! هل بإمكان أيّا كان من السياسيين، مهما كان لونه ووزنه وانتماءه وولاءه وإيديولوجيته، أن "يظهر ويبان"، ويزعم بأنه قادر على منافسة "حزب الفايسبوك" في القدرة على التجنيد والتعبئة وإخراج الآلاف المؤلفة قلوبهم ومطالبهم إلى الشوارع في مسيرات سلمية ومظاهرات حزبية، مثلما حدث خلال جمعتي 22 فيفري و1 مارس؟ ولأن الوعي و"الوحي" السياسي لدى غالبية الجزائريين، تطوّر بتطوّر الأحداث والمراحل والتغيّرات، فإن هناك سؤالا مشتركا تكاد تسمعه على لسان الكلّ في كلّ مكان: "واش راهم يقولوا؟".. لكن هذا الاستفسار، ليس لأن صاحبه "ما فاهم فيها والو"، وإنّما هو "الطُعم" الذي يتم رميه، من أجل تبرير عملية الانطلاق بعدها في الإجابات، وهذا في حدّ ذاته، وفي أصله وفصله، دليل آخر على تنامي الفكر السياسي عند المواطنين، وهذا طبعا مؤشر إيجابي ومطمئن!