ما لم نلتفت إلى دور القوى العظمى وتدافعها نحو ركوب الحراك والاستثمار فيه إما بتدبير ثورة مضادة مع بقايا النظام المتساقطة، أو باستباق ركبان مسار ملء الفراغ بالموقع الأول لصناعة القرار بالرئاسة واقتطاع موقع قدم فيه، وما لم نحرص كل الحرص على حماية معادلة “الشعب وجيشه” والاستناد إليها كقوة ضامنة لفرص نجاح الحراك في احتلال هذا الموقع، فإن فرص حرف الحراك وإحباطه تظل قائمة ما لم تجتهد النخب في تطوير الحراك من موقف الاحتجاج ورفع سقف المطالب إلى موقف إنتاج الأفكار والبدائل التي تسبق اختيار من سيقود مرحلة إعادة بناء الدولة وتأسيس الجمهورية الجديدة. بعد الجمعة الثامنة من الحراك الشعبي، الثانية بعد استقالة الرئيس، وبداية تنفيذ المرحلة الانتقالية وفق أحكام المادة 102، بات المشهد أكثر وضوحا، على الأقل من جهة الطرف الماسك اليوم بسلطة الأمر الواقع، إذ جددت مؤسسة الجيش الوطني التزامين كانا حاضرين منذ انحياز المؤسسة إلى المطالب الشعبية: تسيير المرحلة الانتقالية تحت سقف الدستور ب”مرافقة” الجيش الوطني الشعبي وفي ظل “الثقة المتبادلة بين الشعب وجيشه”. الالتزام الأول فرضته استحقاقات داخلية لها صلة بواجب ضمان استمرارية الدولة وخدماتها، وتكفل عاجل لا يقبل التأخير بملفات اقتصادية واجتماعية “قد تتأزم أكثر إذا ما استمرت هذه المواقف المتعنتة والمطالب التعجيزية” و”وضع إقليمي ودولي متوتر وغير مستقر” بما يعني أن مؤسسة الجيش لم تكن تملك خيارات كثيرة للمضي في انحيازها إلى الشعب خارج الدستور، مع التزامها المعلن ب”تحقيق المطالب الشعبية، والخروج ببلادنا إلى بر الأمان وإرساء موجبات دولة القانون والمؤسسات”. حدود هامش انحياز مؤسسة الجيش إلى مطالب الشعب هذه هي حدود ما كان بوسع المؤسسة أن تقدمه الآن كصداق مقدم ل”عشرة” تريدها أن تكون دائمة مع الشعب، المعلن الثابت فيه “التزام مطلق بحماية الشعب في مطالبه المشروعة” ومرافقته خطوة خطوة في مسار مركب، معقد، يبدأ بالتفكيك المنهجي للنظام القائم، وتطهير بؤر الفساد المالي والسياسي، قبل الشروع في تجديد بناء مؤسسات الجمهورية الجديدة، دون تحميل البلد تبعات الفراغ الذي كان يعد به مسار “الانتقال خارج الدستور”. ومع الأخذ بعين الاعتبار واجب التحفظ الذي يقيد خطاب المؤسسة، فإنها لم تتردد في الكلمة الأخيرة لقائد الأركان في توصيف ما كان يُقترح من مسارات خارج الدستور، وتصدير قوائم لبعض الأشخاص رُشحوا لتولي قيادة المرحلة الانتقالية على أنه ثمرة محاولات “بعض الأطراف الأجنبية (انطلاقا من خلفياتها التاريخية) لضرب استقرار البلاد وزرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد” في إشارة واضحة إلى فرنسا، وفي ربط واضح بين ما كانت ترتب له “العصابة” من قلب الرئاسة عشية الجمعة السادسة، وما حاولت بعض القوى السياسية، وطرف تحرك على هامش الحراك، تسويقَه لتسيير مرحلة انتقالية خارج الدستور، ورفع “شعارات تعجيزية ترمي إلى الدفع بالبلاد إلى الفراغ الدستوري وهدم مؤسسات الدولة، بل كان هدفهم الوصول إلى إعلان الحالة الاستثنائية”. ها هنا بيتُ القصيد، ومربط الفرس، في جميع المحاولات في الداخل والخارج التي تقاطعت عند التسويق لمرحلةٍ انتقالية خارج الدستور، يعلم أصحابها أن الفراغ المؤسساتي الذي سوف تحدثه، يضع بالضرورة مؤسسة الجيش في الواجهة، ويقودها مع ما كان مبرمجا من فوضى، وإشعال فتيل قنبلة المطالب الفئوية، وتوجيه الحراك نحو مشاغبة بقية المؤسسات الوطنية والمحلية، كان سيقود المؤسسة إلى “إعلان الحالة الاستثنائية” التي تضعه في مواجهة غير آمنة مع الشعب، وتعيد فتق ما رتق من كسور معادلة “الشعب وجيشه”. فرصة استكمال تحرير البلد من النفوذ الفرنسي على هذا المستوى ينبغي الإقرار بفشل النخب السياسية والأكاديمية في الارتقاء بتحليلاتها وتقديراتها للموقف لتخرج من الإطار المحلي الضيق لمجريات الأحداث، وتلتفت إلى ما يتعرض له البلد من ضغوط دولية: هي ما بين تفعيل أدوات الثورة المضادة إن أمكن، واحتلال موقع قدم في موقع السلطة الأول بالرئاسة عند بداية ملء الفراغ. حتى الآن بوسع أي تحليل عقلاني أن يرصد ثلاثة أطراف دولية تحركت بقوة لأخذ موقع متقدم من الحراك: دول عظمى (روسيا والولايات المتحدةوفرنسا) كانت دائما حاضرة في المشهد، تدير مصالحها عبر توازنات هشة بين أجنحة السلطة، وقوى عظمى وافدة (الصين وبريطانيا) معنية بما يعد به إقليم شمال إفريقيا من فرص في التقسيم القادم لمناطق النفوذ، وقوى ثانوية (الإمارات والسعودية وقطر وتركيا) هي محض أدوات رأيناها تتحرك على عجل على حدودنا الغربية مع المغامر حفتر. حتى الآن، نجح الثنائي “الشعب وجيشه” في ضرب موقع نفوذ خطير في قلب الرئاسة قد تهيأ لفرنسا حتى بعد ترحيل نفوذها من داخل مؤسسة الجيش، ولمسنا من ردود الأفعال الروسية والأمريكية قدرا من التقاطع حيال ما حصل من استهداف لهذا الموقع، وهو يتماشى مع ما نُفذ في سورية من تهميش للدور الفرنسي ومعها الدور الأوروبي، وما يجري تنفيذه في ليبيا ودول الساحل، قد يفيدنا في الحد الأدنى في استكمال تطهير البلد من النفوذ الفرنسي، مع الحرص كل الحرص على توثق معادلة “الشعب وجيشه” التي تحمي البلد من استبدال نفوذ فرنسي مكروه، بتوغل أمريكي أو روسي إلى موقع صناعة القرار السيد للبلد. هذه هي التحديات التي ينبغي أن تلتفت إليها نخبنا، وتوصلها بوضوح إلى المواطن، بل هي التي توجب اليوم علينا جميعا تأييد استمرار الشارع بنفس العنفوان والسلمية، والتآخي بين المتظاهرين وقوى حفظ الأمن، إلى غاية الاطمئنان على مسار إعادة إعمار موقع الرئاسة، وبعده بقية مؤسسات الحكم ليس فقط برجال ونساء نأتمنهم على مصالح البلد، بل إعمارها بمشروع وطني سيد، أصيل مبدع متجدد، تحميه معادلة “الشعب وجيشه”.