من ينظر إلى نصف الكأس المليان للحراك لن يفوته ما تحقق من إنجازات لم تحققها المعارضة في ربع قرن، ليس أعلاها شأنا إسقاط العهدة الخامسة وإسقاط الثمار الفاسدة في شجرة السلطة، وترحيل زمرة الأوليغارك من مواقع صناعة القرار، وأهم منها ضرب مواقع النفوذ الفرنسية في قلب الجولة، فيما قد يتوقف من هو مصاب بعمى الألوان عند نصف الكأس الفارغة بفشل تمرير مشروع الانتقال خارج الدستور. قضي الأمر ونفذت المادة 102 بانتقال رئاسة الدولة مؤقتا إلى رئيس مجلس الأمة السيد عبد القادر بن صالح، وطوي إلى حين مشروع الانتقال خارج الدستور مع تسجيل حسرة في القلب مما نكون قد أضعناه من فرص التغيير الآمن للنظام بالتعلق بمطالب الترحيل الأهوج لمؤسسات الدولة ووجوه النظام بدل التركيز على انتزاع أدوات إدارة المرحلة الانتقالية بأمان مع عبد القادر بن صالح أو مع غيره من الباءات الآفات. أين أضعنا الخيط، وكيف فقدنا البوصلة، ومن أدخلنا مرحلة التيه؟ ليس الشارع هو من يتحمل هذا “الانكسار المؤقت” في مسار التغيير، بل يفترض على الجميع ممن تصدر المشهد في هذه الأسابيع السبعة أن يثمن الدور الرائع للشارع، الذي سمح لنا في الحد الأدنى بوقف مهزلة العهدة الخامسة، وترحيل استحقاق رئاسي كان ملغما، وبلا أفق واعد بالتغيير، حتى لو لم يترشح السيد بوتفليقة، وكان إصرار الشارع على مواصلة انتفاضته بتلك السلمية الرائعة، وبذلك الانضباط المبهر قد مكن من خلخلة الواجهة السياسية للنظام، وفضح زمرة رجال المال وتوغلهم في قلب موطن صناعة القرار ، ووضعهم تحت طائلة المساءلة بالقدر الذي لم يكن بوسع أي معارضة تقليدية أن تنجزه في ربع قرن، وهذا إنجاز كبير سوف تظهر تبعاته حين تهدأ النفوس ويحكم العقل. تفكيك العصابة المختطفة لموقع الرئاسة وحتى نثبت بوضوح ما تحقق بفضل دخول الشارع كطرف وازن في معركة التغيير، دعونا نتوف عند فرضية كان من الممكن أن تتحول إلى واقع لو أن “العصابة” التي اختطفت قرار الرئيس كانت استجابت طواعية بعد الجمعة الأولى للمطلب الوحيد الذي رفع فيها برفض العهدة الخامسة، أو كان لها قدر من الحكمة والتبصر، واستبقت الحراك بصرف النظر عن العهدة الخامسة، وبادر النظام قبل تفكك أذرعه السياسية إلى التوافق على مرشح بديل للسلطة كان حتما سيفوز بالرئاسيات، ليجدد النظام لنفسه على الأقل لعهدة أو عهدتين. وفي مكان ما قد نحمد لهذه “االعصابة” ما أظهرت من عناد ومكابرة، دفعا بالشارع إلى رفع سقف المطالب والدعوة إلى “ترحيل” وجوه الفساد في النظام، وقد حصل فوق ما كنا نتمناه قبل شهرين فقط، وفوق ما كانت تحلم به المعارضة قبل شهور قليلة، وهي التي انفقت سنة كاملة في الدعوة إلى تطبيق المادة 102 قبل أن يدخل جانب منها في مناورة التمديد للعهدة الرابعة ومحاولة اقتسام ريعها مع النظام. المحبطون من قرار المضي في تدبير انتقال عبر المادة 102 سوف يواصلون الاستثمار في هذا الحراك الشعبي، بمحاولة التقليل من شأن ما تحقق له وللبلد، وقد بدأ الحديث عن “ردة” و”التفاف” على مطالب الشارع، وتحميل مؤسسة الجيش وقيادتها مسؤولية “غلق أبوب التغيير” عبر نقل رئاسة الدولة لرئيس مجلس الأمة، والإبقاء على البرلمان والحكومة، مع أن هذه الأطراف تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية حين دفعت بالشارع إلى مطاردة الظل بدل صيد الفريسة، والفريسة ليست هذه المؤسسات الذاهبة إلى الزوال حتما أو إلى تغيير ينفذ مع الوقت عبر الصناديق. فقبل أن تثبت استقالة الرئيس، كان بوسعنا أن ننتزع من الرئيس قرارا واحدا يؤمن لنا فرصة إنجاز التغيير عبر إنشاء “هيئة مستقلة لإدارة ومراقبة الانتخابات” نذهب معها إلى مسار انتقالي آمن، يبدأ بانتخاب رئيس في استحقاق غير مطعون فيه بالتزوير، ومنها إلى تشريعيات تجدد البرلمان وربما تغير خارطته السياسية مع هذا التجنيد الشعبي الكبير، لنبدأ في التأسيس لجمهورية جديدة، تمر حتما عبر صياغة دستور جديد يحتاج في الحد الأدنى إلى خمس سنوات من الحوار والنقاش الهادئ، ولم لا يصاغ على يد هيئة تأسيسية منتخبة. تحكيم العقل قبل الدخول بالبلد في مسار الفوضى الآن وقد قضي الأمر، أمام الطبقة السياسية والنخب، ومنها تلك التي تصدرت المشهد طوال الأسابيع السبعة، أن تمنح نفسها مهلة تفكير وتدبر في ما ينبغي لها أن تصوغه من مواقف حيال الخطوات القادمة، وليس لها خيارات كثيرة، قد نلخصها في ثلاثة خيارات: الأول: أن تبني على ما هو قائم، فتثمن بعقلانية ما تحقق من إنجازات ندين بها لطرفين لا غير: الشعب وجيشه اللذان أطاحا بواجهة النظام، ووضعا حدا لعبث عصابة المال والجهة المختطفة لقرار الرئيس، ثم تجتهد وتستعين بنفس الشارع لتأمين الاستحقاق الرئاسي القادم من التزوير كما فعلت جبهة الإنقاذ في تسعينيات القرن الماضي، والدخول بعدئذ في مسار تغيير متدرج لا يحرق المراحل، ولا يعرض أمن واستقرار البلد إلى التهديد. الثاني: أن تستسلم وتعود إلى عادتها القديمة بالدخول في محاصصة مشبوهة مع ما بقي من فلول النظام، تريد حصتها من ريع المرحلة الانتقالية واقتسام المغانم، وربما قد يروق لبعض وجوهها أن يصرف النظر عن مطلب التغيير الذي كان يهددها بالزوال مثلما كان يهدد أحزاب الموالاة ونخب النظام العضوية. الثالث: أن تركب حصان المزايدة والتصعيد الأخرق بتهييج الشارع فوق ما يحتمل، والدفع به إلى خروج أهوج عن السلمية التي حققت له فوق ما يمكن لأي ثورة عنيفة أن تحققه، لنكون وقتها أمام مسار ملغم خطر، قد بدأنا نرى بعض مقدماته في ما يحصل في الجزائر العميقة من انفلات متدحرج، بدأ بالسطو على آلاف السكنات الشاغرة، ومشاغبة متصاعدة في كثير من البلديات، سوف تتبع عما قريب ببروز مطالب فئوية قد تعطل النشاط الاقتصادي، وأخطر منها أن يدخل البلد في مواجهات بين المواطنين وقوى حفظ الأمن، تتدحرج إلى مواجهة مفتوحة مع مؤسسة الجيش، تكون حتما منفذا لدخول أطراف خارجية متربصة، رأيناها تتحرك غرب وشرق البلاد بأكثر من مناورة. ترحيل فرنسا من موطن صناعة القرار ثمة مكسب آخر، قد يكون في تقديري أكبر مكسب تحقق لهذا الحراك، تم تجاهله وصرفت النخبة عنه النظر على استحياء، باستثناء ما رفع في الجمعة الخامسة من شعارات تندد بالتدخل الأجنبي والفرنسي منه على وجه التحديد. فمن نافلة القول أن أكثر الجهات الأجنبية تضررا من الحراك هي فرنسا، التي سارعت من قبل إلى مباركة مرحلة انتقالية بقيادة الرئيس المختطف قراره، قبل أن ينتقل خطابها الرسمي إلى تأييد معلن لدعوات الانتقال خارج الدستور، فيما انبرت صحافتها إلى وصف قرار استقالة الرئيس بالانقلاب العسكري رغم تشبث مؤسسة الجيش بواجب احترام الدستور. والواقع أنه قد حق لفرنسا أن تنزعج مما حصل من تناغم بين مؤسسة الجيش والحراك، وهالها ما أظهره الشارع من رفض صاخب للموقف الفرنسي، وهالها أكثر ما جرى من تجريف لبؤر نفوذها داخل مؤسسة الرئاسة المتحلقة حول الثنائي “السعيد بوتفليقة علي حداد” وشعرت بهزيمة منكرة بعد إفشال مؤسسة الجيش للمؤامرة التي جمعت هذا الثنائي برأس بقايا جهاز “الدي إير إيس” المحل، ولم تستوعب بعد تبعات استرجاع مؤسسة الجيش لمؤسستي الأمن الداخلي والخارجي اللتين كانتا تحت ولاية الجنرال طرطاغ، وعبره تحت ولاية الطرف المختطف لقرار الرئيس، لتفقد آخر “عين” لها، بعد أن فقدت من قبل عينها داخل مؤسسة الجيش. إعداد البلد لمواجهة قادمة مع عدو البلد رقم واحد ما نعلمه يقينا أن خيط التواصل بين فرنسا ومؤسسة الجيش الوطني الشعبي مقطوع منذ انتهاء مؤسسة الجيش من تطهير صفوفها من ضباط فرنسا، ولم ينجح الفريق الموالي لها في قلب الرئاسة من حمل المؤسسة على الانفتاح على فرنسا، لا من جهة التسليح، ولا من جهة التعاون والتنسيق الأمني في منطقة الساحل، ولم يكن بوسع مؤسسة الجيش أن تفتح صفحة جديدة مع فرنسا، التي نراها تجتهد في زرع بؤر النار حول البلاد في ليبيا ونيجر ومالي، وتوظف ما تمتلك من قوة ونفوذ داخل الاتحاد الأوروبي وفي مجلس الأمن لتشجيع المغرب على تقويض مسار الحل السياسي لملف الصحراء الغربية، بل إن أغلب سلوك الدولة الفرنسية في الاقتصاد كما في السياسة، وفي القضايا الأمنية، قد جعلت من فرنسا بالضرورة “العدو رقم واحد” للجزائر ولجيشها الذي أنفق عقدين من الزمن لإعادة رتق ما فتقه ضباط فرنسا في العشرية السوداء، ودخل في مرحلة إعداد لمواجهة قادمة مع المحتل السابق، تحتاج بالضرورة إلى تطهير الجبهة الداخلية من الزمر العميلة من بقايا حزب فرنسا.