تميزت مواقف المؤسسة العسكرية من الحراك الشعبي المتصاعد بتطور لافت في "لهجة" التعاطي مع الأحداث المتسارعة. وكانت خطابات رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي منذ البداية في "الميزان" بالتوازي مع التزامه ب«الحياد" دون إعلان "اصطفاف" واضح على خط الأزمة. ومع مر الأسابيع تباينت كلمات رئيس المؤسسة العسكرية بين الصرامة والمغازلة والإشادة بمطالب الشعب. ولحد الآن، تبدو مواقف الجيش متدرجة ومنسجمة، فبعد التلويح بنهج الصرامة، واتهام جهات تهدد استقرار وأمن الجزائر، عاد لمغازلة الحراك الشعبي، والحديث عن تناغم رؤية الجيش ورؤية الحراك، وأنه دائما يقوم وفقا لمهامه، ويمثل "الحصن الحصين للشعب والوطن في جميع الظروف والأحوال" وأنه يدعو إلى "التحلي بالمسؤولية من أجل إيجاد الحلول في أقرب وقت". ويحاول خطاب الجيش وفق مراقبين أن يرسم صورة المؤسسة المهنية المحايدة، التي لا تتدخل في السياسة، والتي تشتغل وفقا لمهامها، وتضع عينها فقط على الأمن والاستقرار، وأنها دائما وأبدا ترعى مصالح الشعب وتطلعاته، وأن المشكلة في جهة أخرى غير الجيش، وأنه مستعد لاحتضان الحلول التي تنهي الأزمة. خطاب لا يعني حسب مراقبين إنهاء ورقة بوتفليقة بالكامل، لكنه يعني الاستعداد للتخلي عنها في الحالة التي يكون الإصرار عليها مكلفا، وهو ما حدث فعلا بمطالبته بتفعيل المادة 102 من الدستور بما يؤشر على أن ورقة بوتفليقة كانت مطروحة للتفاوض ولا يزال بإمكان الجيش الاستثمار فيها حسب محللين لتعزيز موقعه الحيادي من جهة، ونفي تدخله في السياسة، وأخذ مسافة كافية من الزمن لترتيب أوراقه في الداخل ومع الخارج. وكتبت مجلة الجيش في الأسبوع الثاني من الحراك أن "ما حققه جيشنا على أصعدة عدة ووقوفه اللامشروط إلى جانب أمته أكد مدى تماسك الشعب مع جيشه وتلاحمهما وترابط مصيرهما وتوحد رؤيتهما للمستقبل، لأن كليهما ينتميان لوطن واحد لا بديل عنه، وطن تعهدت قواتنا المسلحة بحفظه والذود عنه وحمايته من كل مكره". هذا المقطع من الافتتاحية يختلف إلى حد التناقض مع تصريحات رئيس أركان الجيش، وهوالمشرف العام على المجلة العسكرية، يوم 26 فيفري الماضي بتمنراست، حينما وصف متظاهري جمعة 22 فيفري الذين كانوا بمئات الآلاف ب«المغرر بهم" رغم سحب هذا المقطع لاحقا.. فقد ذكر أن المسيرات نظمت بناء على "نداءات مشبوهة ظاهرها التغني بالديمقراطية وباطنها جر هؤلاء المغرر بهم إلى مسالك غير آمنة، وغير مأمونة العواقب. مسالك لا تؤدي حتما إلى خدمة مصلحة الجزائر ولا إلى تحقيق مستقبلها المزدهر؟". واعتبر كلامه معاديا بشكل واضح للحراك الشعبي رغم أن البعض اعتبر أن كلامه يحمل لهجة تحذيرية وليس الغاصة منها رفض المظاهرات بحد ذاتها. واللافت أن وزارة الدفاع استدركت الأمر بسرعة، بدعوتها وسائل الإعلام إلى عدم التعاطي مع هذا الخطاب. وغيّر قائد الجيش لهجته جذريا بعد هذا الخطاب. فأثناء زيارته لأكاديمية شرشال لمختلف الأسلحة، يومي 4 و5 مارس الجاري، ألقى خطابا في اليوم الأول كان مهادنا تجاه الحراك، وخطابا ثانيا في اليوم الموالي ظهر فيه أيضا ليّنا تجاه حالة الاستياء. وظهرت لاحقا مؤشرات أخرى على انحياز الجيش إلى "مطالب الشعب" فخطابات ڤايد اللاحقة، فهمها قطاع من المتابعين على أنها اصطفاف إلى الشعب ومطالب الحراك الشعبي، خصوصا بعدما سحب الرئيس بوتفليقة ترشحه للعهدة الخامسة وألغى الانتخابات ومسارها، واستمر كلام ڤايد صالح يثني على الشعب وتحضّره والعلاقة القوية التي تجمع بين الجيش والشعب، بالموازاة كانت تصدر رسائل أخرى عن بوتفليقة، يؤكد فيها استمراره في ورقة الطريق التي وضعها كخيار وحيد لتغيير النظام، عن طريق ندوة وطنية تؤسس لتعديل جذري في الدستور وقانون الانتخابات وإنشاء لجنة مستقلة لمراقبة الانتخابات. وقبل 19 مارس، ذكرى عيد النصر، كان للفريق ڤايد صالح نشاطان ألقى فيهما كلمة لم يشر فيها بتاتا إلى الشعب والحراك، على غير الخطابات السابقة، ثم عاد ڤايد مجددا للظهور، لكن أيضا قال كلاما أثنى فيه فقط على تطور مؤسسة الجيش وقدراتها القتالية، وفي المقابل أيضا بعث بوتفليقة رسالة إلى الأمة بمناسبة عيد النصر أيضا، ثبت فيها على خطته الواردة في رسالة سحب الترشح، بل زاد في شرحها والتفصيل فيها، وهو الآخر (الرئيس) لم يتطرق إلى حراك الشارع وتجاهل مطلب إلغاء تمديد العهدة الرابعة، حسب المتابعين. ويظهر من خطاب ڤايد صالح ورسائل بوتفليقة في هذه المناسبة تحديدا تناغم وتطابق بعدم التطرق إلى الحراك. وفي ظل صمت الرئاسة والجيش، حاول قطاع واسع من المعارضة التي تكتلت فيما يسمى "فعاليات قوى التغيير لنصرة خيار الشعب"، أن يضغط على مؤسسة الجيش، بضرورة التدخل وحسم الوضع و«مساعدتها" ل«الاستجابة لمطالب الشعب وتحقيقها في إطار احترام الشرعية الشعبية". واستندت هذه "الفعاليات" إلى دعم الجيش، ربما بعد التقاطها جملة قالها ڤايد صالح في أحد خطاباته الأخيرة: "المشاكل مهما تعقدت لن تبقى من دون حلول مناسبة". ويبدو أن المعارضة استشعرت أن مؤسسة الجيش على مقربة من التدخل للاستجابة لمطلب الشارع الذي يدعو إلى "رحيل النظام ورموزه". وظهر جليا في خطابه أمس أن المؤسسة العسكرية انحازت بشكل واضح إلى مطالب الحراك الشعبي حينما وصف تلك المطالب ب«المشروعة" وزاد عليها بمطالبته بعزل الرئيس بوتفليقة وتفعيل لمادة 102 من الدستور التي تنص على شغور منصب رئيس البلاد كحل "توافقي يحفظ سيادة الدولة ويستجيب لمطالب الشعب".