يعد المناضل والسياسي فرحات عباس من الأسماء التي تم تداولها على نطاق واسع، بعد حوادث ومظاهرات الثامن ماي 45، ففي الوقت الذي اتهمته قوى الاحتلال الفرنسي بالضلوع وراء تهييج الشعب وخروجه في مظاهرات حاشدة في سطيف، ما جعل بعض الأطراف تحمله المسؤولية وتطالب بإعدامه، سواء من جهات استعمارية وأخرى جزائرية، خاصة المحسوبين على الحزب الشيوعي الجزائري، إلا أن البيانات التي أصدرها والتصريحات التي أدلى بها حسب البعض قد كشفت براءته من الوقوف وراء مظاهرات ومخلفات حوادث 8 ماي 45، مؤكدين أن مساعيه كانت منصبة على الدفاع عن حقوق الجزائريين بعيدا عن كل أشكال العنف. يؤكد الدكتور عزالدين معزة من جامعة جيجل ل”الشروق”، بأن حزب أحباب البيان والحرية بقيادة فرحات عباس وصل أوجه في ربيع عام 1945، من خلال دعوته إلى التحرر، وهو ما جعل الاحتلال الفرنسي يحسب له ألف حساب، خصوصا أقوال زعيمه فرحات عباس التي كانت حسب محدثنا تزعجهم، بدليل أنه خلال المؤتمر الأول لأحباب البيان والحرية يوم 2 و4 مارس 45 تم التأكيد على ضرورة تأسيس جمهورية جزائرية فدرالية متحدة مع الجمهورية الفرنسية، لينتخب على رأس الحركة الوطنية بمشاركة العلماء والمصاليين وأغلب الأطراف بمختلف اتجاهاتها وتوجهاتها، في الوقت الذي فهم سياسة الاحتلال الفرنسي الذي عمد إلى إبعاد حزبه من الانتخابات البلدية التي بدأت في فرنسا، وهو الأمر الذي وصفه على انه مؤامرة للقضاء على أحباب البيان والحريات. مؤشرات بحدوث اضطرابات من أجل حل حزب كبير وحسب بعض القرارات التاريخية، استنادا إلى تصريحات وبيانات صادرة عن فرحات عباس، فإن هذا الأخير كان على علم بوجود مؤشرات توحي بإمكانية حدوث اضطرابات في ربيع عام 1945، وقد علم بذلك في شهر أفريل لذات العام، وسربت الإدارة الاستعمارية معلومات تؤكد بأن هذه الاضطرابات ستحدث وتؤدي إلى حل حزب كبير، وهو حزب البيان والحريات الذي بات يزعج الإدارة الاستعمارية، في الوقت الذي لجأ فرحات عباس إلى فكرة الثورة الهادئة التي تصب في تعبئة الفئات الشعبية في إطار حزب شعبي يفرض كلمته بمرور الوقت، ما جعل فرحات عباس حسب البعض يسعى إلى فتح باب حزب البيان والحريات على كل التيارات، تلتها مظاهرات شعبية تدعو إلى إطلاق مصالي الحاج من طرف أنصار مصالي وفرحات عباس، وهي المظاهرات التي لمس فيها هذا الأخير ارتباط الشعب الجزائري بقضية التحرر الوطني، خاصة في ظل متابعته بشغف لمجريات الحرب العلمية الثانية. فرحات عباس خطط لمظاهرة الفاتح ماي وتبرأ من حوادث 8 ماي وكان الزعيم فرحات عباس وحزب الشعب الجزائري قد اتفقا على تحديد يوم 1 ماي 45 مناسبة لبرمجة مظاهرة الغرض منها إظهار واختبار قوة الحركة الوطنية أمام فرنسا الاستعمارية والحلفاء، والعمل في الوقت نفسه على تجنيد الجزائريين حول القضية، كما نادوا بإطلاق سراح مصالي الحاج وامتدت المظاهرات إلى بجاية وبسكرة وسطيف وقالمة وغيرها، لكن كانت أقل عنفا من العاصمة، وفي الثاني ماي 45 خطب فرحات عباس أمام حوالي 2000 مواطن بسطيف، داعيا فرنسا إلى حلين تتبعهما، وهو الحفاظ على النظام الامبريالي أو الموافقة على خيار الاستقلال وحينها ستجد الجزائر صديقة لها. في المقابل، تبرأ فرحات عباس من حوادث 8 ماي 45، وهذا على الرغم من تحميله مسؤولية ما حدث في سطيف من طرف الإدارة الاستعمارية، وامتدت إلى مناطق الشرق، وهذا بحجة نشاطه السياسي المكثف الداعي إلى جمهورية جزائرية فدرالية. واعتبر البعض بأن فرحات عباس يرفض العنف، لكن يرفض في الوقت نفسه الظلم والطغيان، ما جعله يسعى إلى الدفاع عن نفسه، حيث يقول في تسجيل صوتي له في ندوة بباريس “أنا لست مسؤولا ولا أصحابي.. أتحمل المسؤولية كاملة في قول الحقيقة.. جئت إلى باريس طالبا بلجنة تحقيق للكشف عن طبيعة الأحداث ومدبريها”. هل كان فرحات على علم مسبق بالمظاهرات؟ يتساءل الكثير من المؤرخين والباحثين حول مدى العلم المسبق لفرحات عباس بوقوع مظاهرات وحوادث 8 ماي، خاصة في ظل تسارع الأحداث والمواقف التي صدرت منه سياسيا وميدانيا، وفي مقدمة ذلك برمجة مظاهرات يوم الفاتح ماي، ومخاطبة فرنسا الاستعمارية التي دعاها إلى قبول تأسيس جمهورية جزائرية فدرالية، إضافة إلى الدعوة إلى إطلاق سراح مصالي الحاج، وهنا يرى البعض بأن فرحات عباس كان يسعى إلى تفادي العنف، مع الحرص على استقلال الجزائر بصفة مرحلية، على ضوء المعطيات السائدة، حيث أكد عباس يوم 29 أفريل 1945 بأن ندوة سان فرانسيسكو تضمن للشعوب مزايا التحرر من قبل الدول الكبرى التي ستقف مع الجزائر ضد فرنسا، مؤكدا بأن الوقت حان للقضاء على الاحتلال وفقا لطروحاته السياسية والقناعات التي كانت تدافع عنها جريدته “المساواة”، وفي السياق ذاته تشير بعض المعطيات بأن فرحات عباس كان على علم بوجود مناضلين من حزب الشعب يدعون إلى العنف، لكنه كان يسعى إلى تفادي استباق الأحكام، خصوصا وأن رهانه كان منصبا على فتح حزبه على جميع التيارات والتوجهات، بدليل أن اللجنة المركزية لحركة البيان والحريات وجهت نداء إلى كل الفرنسيين تندد بسجن مصالي والعنف ضد المتظاهرين وقعه فرحات عباس، الشيخ خير الدين، البشير الإبراهيمي، الدكتور سعدان، وغيرهم من العلماء والسياسيين والمناضلين الفاعلين. عز الدين معزة: هكذا وصف فرحات عباس مجازر 8 ماي التي غاب عنها؟ وحسب الدكتور عز الدين معزة من جامعة جيجل، فإن فرحات عباس لم يكن حاضرا في سطيف أثناء اندلاع حوادث 8 ماي 45، بحكم انه ذهب لتحية ممثلي فرنسا على النصر في الحرب العالمية الثانية، ولم يعلم بها إلا بعد 10 أيام، حيث سلم رسالته التي تضمنت عبارات التهنئة وتذكير فرنسا بالتزاماتها تجاه الجزائريين لتحقيق ما أسماه الوفاء النهائي من أجل الدفاع الفعال ضد مظاهر التمييز العنصري، والاتفاق الكامل على فرنسا جديدة، خاتما رسالته بعبارة “تحيا الجزائر، تحيا فرنسا، تحيا الأمم المتحدة”. ويرى الدكتور عز الدين معزة بأن فرحات عباس كان على علم بأن السلطات الاستعمارية كانت تبحث عن أبسط اضطراب لإيجاد ابرز سيناريو لتصفية أحباب البيان والحريات، حتى لو تطلب الأمر تدبير السلطات الفرنسية أعمال شغب لإيجاد الفرصة للقيام بأعمال وحشية، وفي وصفه ليوم 8 ماي، قال فرحات عباس “كان هذا اليوم هو الثلاثاء، وهو سوق أسبوعي، وفيه يتوارد على سطيف 5000 من الفلاحين، سلطات الاحتلال قدمت رخصة زعمت بأنها ستخصص لوضع إكليل على الأموات، ويتساءل فرحات عباس لمن سلمت هذه النسخة، وهذا ردا على رئيس دائرة سطيف الذي قال بأنه سلمها لأحباب البيان والحريات دون وثيقة أو استظهار البطاقة، فيما تشير معطيات بأن والي قسنطينة كان على علم بها ووافق عليها بشرط عدم رفع الراية الجزائرية”. الإدارة الاستعمارية كانت على علم مسبق بوقوع أحداث خطيرة يؤكد الدكتور عز الدين معزة ل”الشروق” بأن الإدارة الاستعمارية كانت على علم مسبق بوقوع أحداث خطيرة، مشيرا أنه من المستحيل منح رخصة شفوية إلا إذا كان مخططا له، مضيفا بالقول أن الكثير من المؤرخين لا يشيرون إلى زيادة كراهية المحتلين للجزائريين الذين كانوا يسخرون من الاحتلال الفرنسي بعد خسارتهم أمام ألمانيا، فيما اعتبر محدثنا بأن الأحداث كانت مؤامرة، لكنها كانت مؤسسة لثورة نوفمبر انقلب السحر على الساحر، وبالمرة اللجوء إلى خيار طريق الرصاص. ويضيف فرحات عباس “تشكل الموكب في المحطة أمام المسجد الجديد وفي المقدمة كان شاب حامل للراية الجزائرية، وفجأة برز محافظ الشرطة وحاول نزع الراية من ذلك الشاب الذي رفض تسليمها، ما جعل الشرطة تطلق عليه رصاصة أردته قتيلا وجرحت عددا كبيرا من المتظاهرين، قبل أن يتدخل الجيش الفرنسي لمحاكمة المتظاهرين، موازاة مع ممارسات الترويع التي انتهجها اللفيف الأجنبي والمغاربة والسنغاليون في قرى سطيف. وقال فرحات عباس بان الاحتلال الفرنسي تجمع في ميليشيات وأفرغ حقده في سكان سطيف وخراطة وقالمة وغيرها من المدن الجزائرية. أطراف اتهمت فرحات عباس وطالبت بإعدامه وكامو دافع عنه ولم تتوان العديد من الأطراف في تحميل فرحات عباس وحزبه حركة أحباب البيان والحريات مسؤولية حوادث 8 ماي 45، محملين إياه مسؤولية الضلوع وراء الأحداث، بالنظر إلى نشاطه السياسي والميداني الذي أزعج السلطات الفرنسية على الخصوص، ولم يتوان الحزب الشيوعي الجزائري بقيادة أمينه العام أوزغان إلى المطالبة بإعدام المتسببين فيما وصفه الشغب الشعبي، محملا المسؤولية لفرحات عباس، وهي نفس الاتهامات التي تلقاها من جهات فرنسية، ولو انه قبول أيضا بالدفاع من أطراف أخرى، وقد تم إلقاء القبض عليه رفقة الدكتور سعدان، وتعرضت صيدليته للتخريب، موازاة مع توقيف جريدته “المساواة”، ولم يطلق سراحه إلا في 16 مارس 1946، حيث اتهمته الإدارة الاستعمارية بالمساس بالسيادة الفرنسية والسياسة الخارجية والسيادة الداخلية لفرنسا، حيث مر على 4 سجون بين العاصمة وقسنطينة، ووقف أمام 3 قضاة عسكريين، في الوقت الذي لقي تعاطفا ودفاعا من الروائي الفرنسي ألبير كامو الذي كتب “من يقول لا إفريقي يموت من أجل هتلر لا يمكن أن يوافق على هذه التجاوزات”. “وصيتي السياسية” رغبة في تطليق السياسة وتنبؤ بثورة نوفمبر وقد كتب فرحات عباس بعد أحداث 8 ماي 45 مقالة في السجن عنونها ب”وصيتي السياسية”، كانت بمثابة رغبة في الاستقالة السياسية بعد 25 سنة من النشاط الميداني، وحملت معطيات تصب في تبرئة ذمته وذمة حزبه البيان والحريات من أحداث 8 ماي 45، مبديا تعاطفه مع القضايا التي تصب في تحرر الفلاحين، قائلا في هذا الجانب “الكل متحالف من اجل استغلالهم ومعاملتهم بقسوة وكأنهم من جنس ودم آخر، الاستغلال منذ الاحتلال الروماني مهمل لا يحتاجه إلا للاستغلال في العمل، مصير هذا الإنسان هي التي تحدد مستقبل الجزائر”. كما أشار إلى قضية أخرى واصفها بالشائكة حين قال “ليس هناك مشكلة نخبة، لكن هناك مشكل العامة.. الطبقة الفقيرة والبائسة وحلها صعب ومستعصي، فالعامة تتغير حين تتغير السلطة وتعمل لصالحها، إذا بقي الفلاح على حاله يسهل استغلاله في العنف، العقل قادر على حل كل المشاكل مهما استعصت دون سفك الدماء”. وهو ما يعكس في نظر البعض بأن هذه الرسالة التي كتبها فرحات عباس في السجن تعكس تأملاته الفلسفية والأخلاقية لتحرر الشعوب بالعلم والعمل والإيمان والعقائد الدينية، والدعوة إلى تجديد الأفكار وتفادي الأنانية، معتبرا بأن السياسة مسألة شرف، من يمارسها عليه بتحمل المسؤولية وعدم الكذب والنفاق، كما اقتنع بزيادة الهوة بين الجزائريين والاستعمار الفرنسي الذي لا يتردد حسبه في حرب إبادة ضد الشعب الجزائري، متنبئا في الوقت نفسه بمؤشرات ثورة نوفمبر 54 الكفيلة بتحقيق أماني الجزائريين في التحرر.