دحمان رفقة اللاعب جبور سوق الحرامية أسسه الحراڤة لبيع مسروقاتهم نجوت بأعجوبة من السفينة الإيطالية التي انتهت بالحراڤة الأربعة في سجون إسرائيل باتت أخبار الحرڤة تملأ مساحات واسعة من صفحات الصحافة الوطنية، ويأتي ذلك بالتزامن مع تأجج ظاهرة الحرڤة نحو وجهات أوربية مختلفة. * * لكن أخبار الحراڤة الجزائريين في اليونان الذين تزايدت أعدادهم في الآونة الأخيرة في وقت قصير وبشكل مطرد ولافت، مازالت غائبة عن كتاباتها، رغم أنهم صاروا يشكلون حيث يقيمون في اليونان ظاهرة وافدة حقيقية. دحمان عبد الرحمان، شاب من بلدية لرجام بولاية تيسمسيلت، وهو أحد أولئك الحراڤة. الشروق التقته، وروى لها تفاصيل مثيرة، تروى وتنشر لأول مرة حول الحراڤة الجزائريين في اليونان؛ ماذا يفعلون؟ وكيف يعيشون...؟ * * أمنية معقل الحراڤة الجزائريين في اليونان * أمنية مدينة ساحلية في العاصمة أثينا. يعيش فيها الكثير من الحراڤة الجزائريين الذين دخلوها عبر تركيا، وهي منطقة "محروڤة" على حد قول دحمان، لأنها "نتاع السرقة والغبرة والزطلة وقاع دعاوي الشر"؛ ولأن الجزائريين كثر بها. رغم عددهم الكبير، إلا أنه كان في وقت سابق أكثر منه الآن - حوالي 1000 حراڤ- يقول دحمان أن نصفهم في السجون إضافة، إلى حراڤين آخرين استطاعوا تنفيذ مخطط الحرڤة إلى بلد أوروبي آخر، فأمنية هي أصلا مدينة للتربص بأوروبا التي في خاطرهم، هي مدينة للتربص بأمانيهم الأوربية الكبيرة، لذلك لم يختاروها اعتباطا، بل لأنها قريبة من ميناء باترا، وبالتالي تتيح لهم إمكانية رصد السفن التي تدخله. أول ما ينتبهون إليه هو علم السفينة الراسية، وبمجرد التحقق من أن العلم هو علم إيطاليا، اسبانيا، بريطانيا... أو أي دولة أوروبية من تلك التي تداعب أحلامهم، يبدأ التخطيط لوضع خطة التسلل، غير أن العلم كثيرا ما ضللهم بشأن الوجهة التي ستتخذها السفينة، وهو ما حصل مع الحراڤة الجزائريين الثلاثة الذين نجحوا، من هنا، من أثينا في ركوب سفينة إيطالية انتهت بهم في سجون إسرائيل. أما دحمان فتربص بها هو الآخر، وكان على شفا ركوبها، لكنه تراجع في آخر لحظة. * * حكاية دحمان مع الحراڤة الأربعة والسفينة الإيطالية التي انتهت بهم في سجون الكيان الصهيوني * يقول دحمان: "الحرڤة الأربعة، أذكر جيدا أني كثيرا ما رأيتهم هنا. كنت أعرف أنهم جزائريون (اولاد بلادي)، رغم أني لم أكن على معرفة شخصية بهم. وهم على غرارنا جميعا، كانوا ينتظرون فرصة ركوب سفينة الحلم، لكن انتهى بهم المطاف في سجون الكيان الصهيوني. لقد تأسفت كثيرا لما حصل لهم، خاصة أنه كان بإمكاني أن أحول دون النهاية التي وصلوا إليها لو علمت أنهم كانوا يخططون لركوبها. هم لم يكونوا على علم بأن وجهة السفينة هي اسرائيل، أما أنا فقد علمت بأنها ليست ذاهبة إلى إيطاليا، لأني أنا أيضا خططت في البداية للتسلل إليها. عندما وصلت تلك السفينة الإيطالية إلى الميناء، بدأت أتابع محيطها من كثب وأترصد كل الحركات من حولها. لقد عزمت على التسلل، لكني في آخر لحظة تراجعت، لما أكد لي أحد أصدقائي، وهو كردي مقيم هنا منذ مدة طويلة أن السفينة لن تبحر في اتجاه إيطاليا، بل نحو لبنان أو إسرائيل. بعدما سمعت خبر ركوبهم شعرت بكثير من التعاطف معهم، لكن أيضا، بكثير من الأسف، لأنه لو كان الأمر بيدي لنبهتهم. * * كيف ينفذ الحراڤة خطة التسلل الكبير إلى السفن * يتابع الحراڤة السفن الراسية منذ دخولها الميناء، ويجمعون المعلومات عنها؛ من أي جنسية؟ إلى أي دولة تتجه؟ متى تنطلق؟... إلى آخره من تفاصيل مهمة يتخذون على أساسها قرار التسلل الذي يتم ليلة انطلاق السفينة، حيث يقوم الحراڤة بالغطس ليلا في مياه البحر، ومتابعة السباحة حتى يصيروا تحت السفينة تماما، حينها يحددون مكان المرساة، ويتسلقون حبلها بحذر حتى الوصول إلى ظهر السفينة. وهناك كل يجتهد في اختيار مكان الإختباء، لكن الأغلبية يختبئون في "الشاليمو". حسب ما يقول دحمان "هنا لا توجد حراسة محكمة، لكن عندما تهم السفينة بالإبحار يفتشونها، إذا أمسكوك يكتفون بالقول لك اخرج، وكفى، دون أن يضربوك أو يفعلوا لك أي شيء آخر. أما إذا مشت السفينة ولم يعثروا عليك فهنيئا لك البلاد التي تتجه إليها". * * العيش على "دعاوي الشر" والبزنسة في "سوق الحرامية" * أمنية مكان للحراڤة، إنها المكان الذي يلتقون فيه و"ينافيڤو" فيه، لكن عددا معتبرا منهم يسترزق بطرق غير شريفة. صحيح أنهم جاهزون للحرڤة عند أول فرصة تتاح لهم، لكن في انتظار ذلك، لا بد لهم من عمل يضمنون به العيش. كثيرون يلجأون إلى أنشطة تصنف ضمن ما يسميه دحمان ب"دعاوي الشر". يقول: "هنا المهم أن تعيش وتحصل على المال ولا يهم كيف. لا يهم إن كانت الطريقة شريفة أو شريرة، كما لا يهم من الضحية. حوالي 100 منهم يتاجرون في المخدرات. أما بقية الحراڤة الذين يقترب عددهم من ال 1000 فيعيشون على السرقة ويتفننون فيها. أي شيء يمكن أن تطاله أيديهم معرض للسرقة؛ ملا بس أدوات، سلع، أجهزة... أو بالأحرى كل شيء. منهم أيضا من ينشل الجيوب، ومن يكسر السيارات، وحتى من يختطف ويعتدي على الأشخاص ويأخذ محتويات الجيوب، تحت التهديد بالسلاح. ما يسهل المهمة عليهم هو أن اليونانيين مازالوا يحملون أموالهم بالطرق التقليدية؛ أي يتعاملون بالنقود، وليس بالبطاقات الإئتمانية والإلكترونية، وهو ما مكن بعض الحراڤة من سرقة مبالغ خيالية، يرجعون على إثرها مباشرة للبلاد، وقد أصبحوا أغنياء بين ليلة وضحاها. من بين تلك الحالات حالة حراڤ تمكن من سرقة 900 ألف أورو، بل من الحراڤة من يسطو على المنازل ويقتحم الفارغة منها من أجل السكن، وحتى عندما يتفطن أصحابها لذلك يسمحون لهم بالإقامة فيها، مكتفين باشتراط عدم إفسادها. * نظرا لازدهار السرقة و كثرة كمية المسروقات، تأسس سوق الحرامية. نعم هكذا يسمى "سوق الحرامية"، لأن السلع التي يبزنس فيها الحراڤة بداخله معظمها مسروقة. في حين يعيش كثير من الحراڤة هكذا، لأن الربح السريع أعماهم، فإن آخرين يكسبون من عرق جبينهم، عن طريق ممارسة مهن أخرى، كالحلاقين الذين يكسبون 5 يورو عن كل "قصة شعر". * يلجأ الحراڤة الذين يعيشون هنا على السرقة وعلى المخالفات، إلى حيل عديدة للإفلات من قبضة الشرطة بعد توقيفهم. وبالرغم من أن أعدادا كبيرة منهم تقبع في السجون اليونانية، حيث يقدر دحمان عدد المساجين بنصف العدد الإجمالى للحراڤة الذي يقارب ال1000، إلا أن أعدادا أخرى منهم ينجحون في الإفلات من السجن، باللجوء إلى حيلة لا تخلو من الغرابة والطرافة، حيث يدعي الحراڤ عند توقيفه من طرف الشرطة وتحويله إلى المخفر، أنه قاصر ولم يبلغ بعد سن البلوغ التي يحددها القانون اليوناني ب 18 سنة، ويعفى القصر من المحاكمة حتى يصلوا سن البلوغ. ورغم أن أعمار الحراڤة غالبا ما تتجاوز سن 18، إلا أنهم ينجحون في جعل الحيلة تنطلي على المحكمة، خاصة إذا أضافوا للإدعاء الأول تقمص الجنسية الفلسطينية، مستغلين تعاطف اليونانيين مع القضية الفلسطينية والجالية الفلسطينية المقيمة هناك. ويساعدهم في ذلك عدم عثور الشرطة عند توقيفهم على أي وثائق بحوزتهم تثبت الجنسية أو العمر. يقول دحمان: "عندما يتم القبض على الحراڤ بعد ارتكابه سرقة، يقول لهم أن عمره هو 16 سنة، وعندما يعرض على المحكمة تطلق سراحه وتمنحه البراءة، باعتباره قاصرا، خاصة إذا نجح في نسج كذبة بارعة. أما في أسوأ الأحوال فيسجن لمدة 15 يوما فقط، ثم يطلق سراحه، بل يوجد من الحراڤة حتى من جاوز عمره ال30 سنة، ومع ذلك نجوا بهذه الطريقة من السجن. اليونانيون لديهم خلل ما. أنا مثلا أبلغ من العمر 25 سنة، ومع ذلك أملك بطاقة تعرفني على أني قاصر في ال17 من العمر، وبأن جنسيتي فلسطينية، لقد منحتني الشرطة إياها عندما أمسكتني أول مرة. وقد نجوت من السجن بفضلها عقب اقترافي لعمل سيء، إذ حين حولتني الشرطة إلى المحكمة، أطلقتني هذه الأخيرة، بعد ما استظهرت لها البطاقة، و طالبوني بالرجوع سنة 2010 من أجل المحاكمة من جديد، بعد أن أكون قد بلغت سن الرشد. حينها ضحكت عليهم من أعماقي وقلت بداخلي: وهل تتخيلون أنكم ستعثرون عليَ هنا؟ * * جبور صديقنا ووعدنا بالتسجيل ضد مصر... والشروق عيننا على الفريق الوطني * يحظى جبور بتقدير ومحبة خاصة من طرف الجزائريين في اليونان، ويعتبرونه مصدر فخر لهم، لكن حبهم الكبير له لا يأتي فقط من كونه لاعبا مع الخضر أو لأنه يلعب في الدوري اليوناني، بل لأن له علاقة خاصة تربطهم به، فجبور يحرص على زيارتهم بشكل منتظم. يقول دحمان: "جبور يزورنا كثيرا هنا في أمنية، لأنه يحب أن يلتقي أبناء البلد. يأتي خصيصا من أجلنا منذ عرف أننا جزائريون، وهو ما يشعرنا بفرحة لا توصف. في كل مرة نتبادل معه أطراف الحديث، خاصة عن الكرة والفريق الوطني. آخر مرة زارنا فيها كانت بعد المباراة الودية ضد الأرجنتين التي سجل فيها هدف الفوز بكيفية رائعة. أقسمت قبل المباراة أن أقبل رأسه إذا سجل هدفا وفعلتها... فرحنا كثيرا بأداء جبور. أما هو فاعترف لنا بأن عقله لا يفكر في شيء سوى المقابلات المتبقية من أجل ضمان التأهل للمونديال. ووعدنا بإعادة الكََرة وهز الشباك المصري، لكن هذه المرة في مصر "جبور إنسان طيب ومتواضع جدا. تصورأنه دعاني لحضور مقابلاته في الدوري المحلي مع أيكا أثينا، وأوصاني أن أطلب من حرس الملعب الإتصال به للتأكد أنه من وجه لي الدعوة. إنه يستحق الحب الذي نكنه له". * دحمان طلب من الشروق ألا تتوانى في نشر كل صغيرة وكبيرة من أخبار الفريق الوطني ولاعبيه المحترفين، لأن المنتخب يؤجج شعورهم بالإنتماء والفخر، وشكر الجريدة على تغطيتها التي وصفها بالمتميزة لأخباره، مبديا تعلقه بها ، وواصفا إياها بمعين الحراڤة الجزائريين في اليونان على الغربة وبعينهم على البلاد، من خلال موقعها، الشروق أون لاين. * * نحن "أولاد البلاد" ونحب الوطن لكن... * حديث دحمان للشروق كان مثقلا بالإنفعالات، وأول ما أوحى لنا به هو الحرڤة التي تأكل قلبه، وتكون قد دفعته إلى الحرڤة، وجعلت منه إنسانا حراڤا ليس لديه ما يخسره حين يغامر بنفسه من أجل بلوغ يابسة أوروبا، وتغيير ظروف عيشه، وعيش عائلته التي بلغت من الصعوبة والقسوة حدا لم يستطع معه البقاء في الوطن. وكما أكد على حبه الكبير للوطن، كان يؤكد على أن التهميش والإحباط الذي تعيشه حسبه شرائح واسعة من طبقات المجتمع هي ما جعل الحراڤة يختارون الحرڤة حلا. وبتأثر كبير، روى للشروق قصة مرضه في اليونان: "حدث أن أصبت هنا في اليونان بمرض شديد. كان لابد لي من عملية جراحية كي تحول دون تدهور صحتي. في البداية ترددت في الذهاب إلى المستشفى باعتباري مهاجرا غير شرعي، ولا أملك أي وثائق، لكن بعدها تقربت من أحد المستشفيات، وتفاجأت بالإهتمام غير العادي الذي أبدوه لحالتي، حتى أني شككت في الأمر، وهربت من المستشفى لما أوشكوا على إجراء العملية لي، غير أني فكرت مليا بوضعي الصحي، وعدت مرة أخرى، حينها أجروا لي العملية بنجاح، ومجانا، ودون استظهار أي أوراق تثبت الهوية، رغم علمهم بأني حراڤ. إنهم طيبون ويؤمنون بشيء اسمه الإنسانية. هذا الأمر يحزنني كثيرا عندما أتذكر الوطن.